هكذا تحلل نبيك من المظالم فكيف بك

 

هكذا تحلل نبيك من المظالم فكيف بك

أيها الأحبة في الله : لا شكَّ أنَّ الظُّلم مرتعه وخيم، والظُّلم من أقبح المعاصي وأشدِّها عقوبة، وقد حرَّم الله جلَّ جلاله الظُّلم في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيِّه الأمين صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن يستعرض القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة يقف على مئات الآيات والأحاديث التي تحدَّثت عن الظُّلم والظَّالمين، وتوعدت الظَّلمة ولعنتهم، والعبد الذكي الحصيف، من يسارع بطلب العفو والمغفرة ممن ظلمهم، قبل فوات الأوان، والعضِّ على الأنامل والشِّفاه، فما يزال في الدُّنيا حيٌّ يرزق . 

وليأخذ رسول الله صلى اله عليه وسلم قدوة له فقد تحلل من كل مظلمة قبل أن يلقى ربه فعَنْ أَبِى أُمَامه قَالَ : دَخَلْتُ أَنَا يَوْمًا وَعُرْوَةُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ : لَوْ رَأَيْتُمَا نَبِيَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَرْضَةٍ مَرِضَهَا وَكَانَتْ لَهُ عِنْدِي سِتَّةُ دَنَانِيرَ أَوْ سَبْعَةٌ فَأَمَرَنِي نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُفَرِّقَهَا فَشَغَلَنِي وَجَعُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى عَافَاهُ اللَّهُ ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْهَا فَقَالَ :« أَكُنْتِ فَرَّقْتِ السِّتَّةَ أَوِ السَّبَعَةَ ». قَالَت : لاَ وَاللَّهِ شَغَلَنِي وَجَعُكَ قَالَتْ فَدَعَا بِهَا ثُمَّ فَرَّقَهَا فَقَالَ :« مَا ظَنُّ نَبِيِ اللَّهِ لَوْ لَقِىَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهِىَ عِنْدَهُ » ( صحيح بن حبان ( 8 / 3213  ) .

ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لقوه، ومظالم العباد عندهم؟ وما ظن من يغتصب أرضا ظلما إذا لقى ربه يوم القيامة  عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ » صحيح مسلم ( 5 / 4217 ) . 

 وفي مشهد تنخلع من هوله القلوب يصور نبينا صلى الله عليه وسلم حال من اغتصب أرضا ظلما وقد أمره الله تعالى في  يوم القيامة أن يحمل ترابها إلى المحشر عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم : مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِغَيْرِ حَقِّهَا ، كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا إِلَى الْمَحْشَرِ )  صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1 / 242 ) .

لقد تحلل النبي صلى الله عليه وسلم من كل ضربة سوط ضربها لأحدٍ من أصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين فبينا رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُعدَّلُ صفوفَ أصحابِه يومَ بدرٍ وفي يدِه قدحٌ يعدِّلُ به القومَ فمرَّ بسوادِ بنِ غَزيَّةَ حليفَ بني عدي بنِ النَّجارِ وهو مُسْتنتِلٌ من الصفِّ فطعن في بطنِه بالقدحِ وقال استوِ يا سوادُ فقال يا رسولَ اللهِ أوجَعْتَني وقد بعثك اللهُ بالحقِّ والعدلِ فأقِدْني قال فكشف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن بطنِه وقال استقِدْ قال فاعتنقَه فقبَّل بطنَه فقال ما حملكَ على هذا يا سوادُ قال يا رسولَ اللهِ حضَر ما ترى فأردتُ أن يكون آخرُ العهدِ بك أن يمَسَّ جلدي جلدَك فدعا له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بخيرٍ وقال له استوِ يا سوادُ ) ( حسنه الألباني في السلسة الصحيحة ( 6 / 808 ) .

والله لن تعرف البشرية أحداً تحلل من جميع المظالم كما تحلل النبي صلى الله عليه وسلم لقد ضرب أحد الناس في غزوة حنين بسوط في يده فأعطاه النبي ثمانين نعجة بهذه الضربة  عن  عَبْد اللَّهِ بْن أَبِى بَكْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ زَحَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِى رِجْلِي نَعْلٌ كَثِيفَةٌ فَوَطِئْتُ بِهَا عَلَى رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَفَحَنِي نَفْحَةً بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ وَقَالَ « بِسْمِ اللَّهِ أَوْجَعْتَنِي » . قَالَ فَبِتُّ لِنَفْسِي لاَئِماً أَقُولُ أَوْجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( . قَالَ فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ اللَّهُ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ أَيْنَ فُلاَنٌ قَالَ قُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي كَانَ مِنِّى بِالأَمْسِ - قَالَ - فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ( « إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي بِالأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ فَهَذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْهَا بِهَا » (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 7  / 3043 ) .

فكيف بمن سفكوا الدم الحرام وقتلوا المسلمين بلا جريرة ، لقد جاءت شريعتنا الإسلامية الغراء بكل ما يحفظ النفس المسلمة من التعدي عليها أو إزهاقها وقتلها بغير حق، كما جعلت ارتكاب ذلك كبيرة من الكبائر تستحق القصاص، وفوق ذلك كله سدّت جميع الطرق الموصلة إلى ذلك، ومن ذلك الإشارة إلى المسلم بالسلاح -ولو كان مزاحاً-، سدًّا للذريعة وحسماً لمادة الشر التي قد تفضي إلى القتل فعن أبي هُرَيْرَةَ  رضي الله عنه يَقُولُ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يدعَها، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ ». ( صحيح مسلم ( 4 / 2020 ) .

أخي المسلم: تدارك نفسك فالدُّنيا تمرُّ وتزول، ويوم القيامة يوم العدل والحساب ، الذي لا يُؤدِّي الحقوق في الدُّنيا فسيؤديها يوم القيامة، وفي الدُّنيا سيُؤدِّي المال مالاً، ويمكن أن يعفو غريمه ويسامح، أمَّا يوم القيامة فسيؤدي المال من حسناته فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ ) صحيح مسلم ( 8 / 6744 ) .

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يتحللوا من المظالم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَلاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ ) صحيح البخاري ( 3 / 2449 ) .

فليبادر كل عبد برد المظالم لأهلها ، وليتوب من يقذف المسلمين والمسلمات بدون بينه فمن قذف مسلمًا أو مسلمة في الدنيا، ولم يُقَمْ عليه حدُّ القذف، جوزي في الآخرة؛ فعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: صَنَعَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما طَعَامًا, فَبَيْنَمَا الْجَارِيَةُ تَعْمَلُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِذْ قَالَ لَهَا الرَّجُلُ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: مَهْ إِنْ لَمْ تَحُدَّكَ فِي الدُّنْيَا تَحُدُّكَ فِي الْآخِرَةِ ) ( حسنه الالباني في صحيح الأدب المفرد ( 1 / 252 ـ 331 ) .

لذلك من خاف أن تحبط عنه حسناته يوم القيامة، فليتحلَّل من حقوق العباد اليوم ولا يظلمهم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ، يوم يفصل الله فيه بين العباد ولا يظلم ربك أحدا كما قال ربنا سبحانه وتعالى ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] . فقد روت عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: ((يُحْسَبُ ما خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ؛ كَانَ كَفَافًا، لا لَكَ وَلا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ، اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ، قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ))، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ؟ ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]))، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ما أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُم )  رواه الإمام أحمد والترمذي.

فاللهم طهر قلوبنا ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين ءامنوا ولا تجعل لأحد عندنا مظلمه في دم أو عرض أو مال ، هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وسلم تسليما كثيرا .

 

 

المشاهدات 1758 | التعليقات 0