هجرة القلوب
هلال الهاجري
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يَضْلُلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) .. أَمَّا بَعْدُ:
يَقولُ طَبيبُ القُلوبِ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالى في الرِّسالةِ التَّبوكيةِ: (الهِجرةُ هِجرتَانِ: هِجرةٌ بالجِسمِ مِن بَلدٍ إلى بَلدٍ، وهَذهِ أَحكامُها مَعلومةٌ ... والهِجرةُ الثَّانيةُ: هِجرةٌ بالقَلبِ إلى اللهِ ورَسولِه ... وهَذهِ الهِجرةُ هِيَ الهِجرةُ الحَقيقيةُ، وهَيَ الأصلُ، وهِجرةُ الجَسدِ تَابعةٌ لها)، اللهُ أكبرُ، والآنَ تَعالوا نَسمعُ قَولَ إبراهيمَ الخليلِ عليه السَّلامُ، حِينَ قَالَ: (إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، ونَستشعرُ أعظمَ معنىً لهِجرةِ الأتقياءِ، التي قَامَ بها أبو الأنبياءِ، إنَّها هجرةُ القُلوبِ، إلى عَلَّامِ الغُيوبِ، قَبلَ هِجرةِ الأبدانِ بِينَ البُلدانِ، ولا عجبَ فَالخليلُ لا يُسمَّى خَليلاً حَتى تتخلَّلَ المحبةُ في رُوحِه وقَلبِه، فلا يَبقَى موضعٌ لغيرِ المحبوبِ.
فَالقُلوبُ .. تُهاجرُ إلى سَيِّدِهَا ومَولاهَا وخَالقِهَا، يَسوقُهَا الحبُّ والأملُ، ويَحدوهَا الرَّجاءُ والوَجَلُ، في ذُلٍّ واستكانةٍ وخُضوعٍ، وافتقارٍ إلى ربِّهَا وخُشوعٍ، وهيَ تَعلمُ أنَّه لا صلاحَ وفلاحَ ولا هِدايةَ ولا سعادةَ إلا بِاللهِ، فيُهاجرُ القَلبُ من سَماءٍ إلى سَماءٍ، حَتى إذا وصلَ تحتَ العَرشِ، سجدَ سجدةً، لا يرفعُ منها رأسَهُ أبداً، ولِسانُ حَالِه يَقولُ: إلهي وسيدي ومَولاي، قد آنَ الرَّحيلُ إليكَ، وأَزِفَ القُدومُ عليكَ، ولا عُذرَ لي بين يَديكَ، غيرَ أنَّكَ أَنتَ الغَفورُ وأنا العاصي، وأنتَ الرَّحيمُ وأنا الجَاني، وأَنتَ السَّيدُ وأنا العبدُ، ارحمْ خُضوعي وذُلي بينَ يديكَ، فإنِّه لا حَولَ ولا قُوَّةَ لي إلا بِكَ.
يَا ربِّ إني قد أتيتُكَ تَائباً **** فاقبلْ بعفوِّكَ تَوبةَ النَّدمانِ
أيُّها الأحبَّةُ .. ألا ترونَ إلى الطُّيورِ وهيَ تُهاجرُ من بلادٍ إلى بلادٍ، تبحثُ عن البيئةِ المُناسبةِ والزَّادِ، فهل هاجرتْ قلوبُنا حَقيقةً من المعاصي إلى الطَّاعةِ، ومن مجالسِ اللَّغوِ والآثامِ إلى مجالسِ الخيرِ والإكرامِ، هل اشتغلتْ قُلوبُنا بذكرِ اللهِ؟، أليسَ علامةُ حبِّ الشيءِ هو كثرةُ ذِكرِه؟، فكيفَ بأعظمِ وأجلِّ محبوبٍ سُبحانَه؟، فما مِن شيءٍ إلا وهو مُداومٌ على ذِكرِه، وَكانَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَذكرُ اللهَ على كُلِّ أحيانِه، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)، فهل تكونُ السَّمواتُ والأرضُ أشدُّ حبَّاً للهِ تعالى مِنَّا بكثرةِ ذِكرِه وتسبيحِه؟.
لَوْ يَعلَمُ العَبدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ *** أمْضَى الحياةَ بتسبيحٍ وتَهْليلِ
هل هاجرتْ القلوبُ في عالمِ الرِّضا، فآمنتْ بما قدَّرَ اللهُ وقَضى، فعلمتْ عِلمَ يقينٍ، أنَّ أقدارَ ربِّ العالمينَ، كُلَّها خيرٌ للعبدِ المسكينِ، فما منعَ إلا ليَحمي، وما ابتلى إلا ليَجزي، فهو سُبحانَه المانعُ والمُعطي، فهل نسينا ما أعطانا من عظيمِ النِّعمِ؟، وهل نسينا ما دفعَ عنَّا مِنْ كَثيرِ النِّقمِ؟، كم تجاوزَ عن الهَفواتِ والأخطاءِ، ولم يمنعْ بسببِ تقصيرِنا جزيلَ العَطاءِ، فحُقَّ للقلوبِ أن تكونَ أسيرةً في حُبِّه والثَّناءِ.
أَعصي وتَسترني أَنسى وتذكُرني *** فكيفَ أَنساكَ يا مَنْ لسْتَ تَنساني
هل هاجرتْ القلوبُ إلى حبِّ مَن كلِّ ما فيه جميلٌ، فإذا كانَ جَمالُ الموجوداتِ على كَثرةِ ألوانِها، وتَعدُّدِ فُنونِها هو من بعضِ آثارِ جَمالِه، فكيفَ بواهبِ الجَمالِ الذي بلغَ من هذا الوَصفِ أَعلى الغَاياتِ، وحَسبُكَ أنَّ أهلَ الجنةِ مع ما هم فيه من النَّعيمِ المُقيمِ، لا نَعيمَ لَهم أَعظمُ مَن النَّظرِ إلى وَجهِهِ الكريمِ.
لو أنَّ أنفاسَ العِبادِ قَصائدٌ *** حَفِلَتْ بمدحِكَ في جَلالِ عُلاكَا
ما أَدركتْ ما تَستحِّقُ وقَصَّرتْ *** عن مَجدِكَ الأَسَمى وحُسنِ سَناكَا
أقول ما تسمعون، واسأل الله لي ولكم السدّاد والعون، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي زَيَّنَ بذكرِه أَلسنَ الذَّاكرينَ، فأثنى عليه بها المُفرِّدونَ المَوحِّدونَ من الأولينَ والآخرينَ، أحمدُه تَعالى وأَشكرُه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه .. أما بعد:
أيُّها الأحبابُ .. إذا كانتْ الملائكةُ تُعاتبُ من لم يُهاجرْ ببدنِه عندَ الموتِ، كَما قَالَ تَعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ * قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً)، فكيفَ بالهِجرةِ العُظمى، هِجرةُ القلوبِ إلى اللهِ، فمنْ ذا الذي يستطيعُ أن يمنعَ هِجرةَ القلوبِ القَاصدةِ، وماذا سيكونُ حِينَها عُذرُ القلوبِ القَاعدةِ؟.
القَلبُ المُهاجرُ إلى ربِّهِ في الحَياةِ الدُّنيا، لا بُدَّ أن يَكونَ قد بلغَ في الشَّوقِ المنزلةَ العُليا، فتعالوا نَصدقُ مع أنفسِنا: لو جاءَنَا مَلَكُ الموتِ اليومَ، هل ستقفزُ الرُّوحُ من الجسدِ وهي تقولُ: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، كَما قَالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ: (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ)، فهل ستَفرحُ الرُّوحُ بهذا الرَّسولِ، الذي جاءَ يَأخذُها لهذا اللِّقاءِ المأمولِ؟، لما احتضرَ إبراهيمُ بنُ هَاني، دَعا ابنَه إسحاقَ، وكانَ صَائماً، فقالَ: هل غَربتْ الشمسُ يا بُنيَّ؟، قالَ: لا، ولكن أَفطرْ يا أبي فإنَّه قد رُخِّصَ لك في الإفطارِ في الفَرضِ، وأنتَ الآنَ في التَّطوعِ، فقالَ إبراهيمُ: أَمهلْ، فلما غَربتْ الشَّمسُ تَناولَ جُرْعةً من الماءِ، ثم ضَحِكَ وتَبسَّمَ، وقَرأَ: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ)، ثُمَّ مَاتَ.
كلّ محبُوبٍ، سِوَى اللهِ سَرَفْ *** وَهُمُومٌ وَغُمُومٌ وَأَسَفْ
أَوْرِدِ القَلبَ على حُبِّ الذي *** حُبُّهُ غَايَةُ غَايَاتِ الشّرَفْ
اللهمَّ يا من رَحمتِكَ وَسعتْ كلَّ شيءٍ، يا مَنْ إذا بَارتْ بِنا الحِيلُ، وضَاقتْ علينا السُّبلُ، وانتهتْ الآمالُ، وتَقطَّعتْ بِنا الحبالُ، وضَاقتْ الصُّدورُ، واستعسرتْ الأمورُ، وأُوصدتْ الأبوابُ، نَادينا: يا اللهُ، ربَّنا لا تُزغْ قلوبَنا بعد إذ هديتَنا وهَبْ لنا من لدنك رَحمةً إنَّكَ أنتَ الوهابُ، يا مُقلبَ القلوبِ ثَبتْ قُلوبَنا على دينِك، اللهم ارزقنا قلوباً سَليمةً خَاشعةً مُخبتةً إليك، يا حيُ يا قيومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهمَّ لا تجعل الدُّنيا أكبرَ همِّنا، ولا مَبلغَ علمِنا، اللهم أصلح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا أخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كلِّ شَرٍّ.
المرفقات
1661307095_هجرة القلوب.docx
1661307102_هجرة القلوب.pdf