هجرة القلوب إلى علام الغيوب
الشيخ السيد مراد سلامة
أمة الإسلام كل عام أنتم بخير فقد هل علينا هلال شهر المحرم لنستقبل عاما جديدا ونودع عام قد انصرمت أيامه ومضت لياليه
وحديثنا في هذا اللقاء عن {هجرة القلوب إلى علام الغيوب}
فما هي الهجرة؟ وما هي أنواعها؟
وكيف تهاجر القلوب إلى علام الغيوب؟
وكيف نهاجر إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم-بقلوبنا؟
وكيف نهجر المعاصي والذنوب؟
إخوة الإيمان:
حملتُ جبالَ الحُب فيك وإنني ... لأَعْجَزُ عن حَمْلِ القميصِ وأضعفُ
وما الحبٌ من حُسْنٍ ولا من سماحةٍ ... ولكنه شيءٌ بِهِ الرٌوح تَكْلُفُ
العنصر الأول: تعريف الهجرة
فالهجرة تعني لغة ترك شيء إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال، أو من بلد إلى بلد، يقول تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، وقال أيضًا: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} [المزمل: 10].
وتعني بمعناها الاصطلاحي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وهذه هي الهجرة المادية.
أما الهجرة الشعورية فتعني الانتقال بالنفسية الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة أخرى، بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى كالانتقال من حالة التفرقة إلى حالة الوحدة، أو تعتبر مكملة لها كالانتقال بالدعوة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.
العنصر الثاني: أنواع الهجرة
إخوة الإسلام يمكن تقسيم الهجرة إلى نوعين اثنين:
1-الهجرة المعنوية: وهي الهجرة من الكفر إلى الإسلام ومن البدعة إلى السنة ومن المعصية إلى الطاعة، وهذا هو مقتضى الهجرة إلى الله ورسوله، لأن الهجرة إلى الله تعالى تكون بالإيمان به وتوحيده وإفراده بالعبادة خوفاً ورجاءً وحباً، وأن يجتنب الشرك صغيره وكبيره، وأن يجتنب المعاصي والكبائر، وأن يكثر من الاستغفار والتوبة لتجديد الهجرة كلما وقع فيما يضعف مسيرتها، ولذلك كان مفتاح النجاة هو التوحيد والاستغفار.
والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون باتباع سنته وتحكيمها والتحاكم إليها وتقديمها على جميع الأهواء والآراء والأذواق، ونبذ البدع والمحدثات التي ليس عليها أمر الإسلام.
2-الهجرة الحسية: ومن ذلك:
أ-الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق.
ب-الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وهذه يختلف حكمها باختلاف الظروف والأوضاع وسيأتي بيان ذلك.
ج-هجرة أهل الذنوب والمعاصي وهجرة أهل الأهواء والبدع بمفارقتهم ومقاطعتهم ومباعدتهم زجراً لهم أو حِمية منهم أو لهما معاً.
د-الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير) أخرجه أبو داود وحسنه الألباني في تخريج مناقب الشام وأهله
العنصر الثالث: هجرة القلوب إلى علام الغيوب
1-هجرة من الشك إلى اليقين:
ما أحوجنا في هذه الفترة العصيبة إلى أن نهاجر إلى الله تعالى من الشك إلى اليقين، فالذي ينظر إلى أحوال كثير من شبابنا ليرى علامات الحيرة على وجوههم حيث يرون أن الباطل قد انتفش والحق قد انقشع يرون للباطل جولة ولاتباعه صولة
يرون المسلمين في ربوع الأرض مستضعفين يختطفهم الناس من حولهم
فيتطرق الشك إلى القلوب ويوسوس الشيطان لهم بما تنفطر له السماوات وتنشق من هوله الأرض وتخر الجبال من عظمه هدا
فبعضهم يقولون السنا على الحق؟
أليسوا هم على الباطل؟
أليس الله هو الملك العدل فاين العدل مما يكال للامة الإسلامية
الجواب: هيا بنا نهاجر إلى ارض اليقين وإلى أرض الثقة بالله تعالى
يقول الله جل في علاه {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105، 106]
ويعد سبحانه –ووعده الحق { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55]
والله لقد جاء صحابي متحمس كتحمس شبابنا الأطهار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يوماً ليقول له: كما في حديث عن خباب بن الأرت قال شكونا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو متوسدٌ بردة ً له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمئشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه لكنكم تستعجلون. أخرجه البخاري ومسلم
أيها الشباب! اصبروا، والله ذلكم وعد الله، ووعد من لا ينطق عن الهوى عن تميم الداري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزا يعز الله به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر.
وكان تميم الداري ، يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية والحديث رواه أحمد و الطبراني واللفظ له وهو حديث صحيح الإسناد من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (214) سورة البقرة
يقول ابن كثير رحمه الله :يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ } قبل أن تُبتَلُوا وتختبروا وتمتحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم؛ ولهذا قال: { وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ } وهي: الأمراض؛ والأسقام، والآلام، والمصائب والنوائب.
قال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومُرّة الهَمْداني، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، والسّدي، ومقاتل بن حَيّان: { الْبَأْسَاءُ } الفقر. قال ابن عباس: { وَالضَّرَّاءُ } السّقم.
{ وَزُلْزِلُوا } خَوْفًا من الأعداء زلْزالا شديدًا، وامتحنوا امتحانًا عظيمًا،
ابشروا وأملوا فالنصر قريب: قال عدي بن حاتم: " بينما أنا عند رسول الله إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة. ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها.
فقال: إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله ... ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى.
قلت: كسرى بن هرمز؟
قال: كسرى بن هرمز، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز " أخرجه أحمد
2-الهجرة من حب الدنيا إلى حب الأخرة:
روى الإمام أحمد عن ثوبان -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها» قلنا يا رسول الله أمن قلةٍ بنا يومئذٍ؟ قال: «أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن» قالوا: وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت»
وهذا ما صار إليه حالنا، فان حياتنا باسم الدنيا وللدنيا ومن اجل الدنيا،
وهذا هو السر في منع نصرة الله لأمة الإسلام، ويوم تكون حياتنا باسم الله
ولله وفي الله سيأتي نصر الله وما ذلك على الله بعزيز.
ها هو الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه لما فتح المسلمون جزر البحر المتوسط جلس يبكى، فقالوا له: أتبكي يوم النصر يا أبا الدرداء؟ فقال
نعم أبكي على حال هؤلاء-الكفار-عصوا الله فمكننا الله من رقابهم فانتصرنا
عليهم وأخشى أن يأتي اليوم الذي نعصي فيه الله فيمكنهم الله من رقابنا فينتصروا علينا.
كان هرم بن حيان يقول: ما رأيت مثلَ الجنة نام طالبها، ولا مثلَ النارِ نام هاربها، وكان يقول: أخرجوا من قلوبكم حب الدنيا وأَدخلوا قلوبكم حب الآخرة. (2/119)
قال محمد بن الحنفية: إنَّ اللهَ تعالى جعلَ الجنةَ ثمناً لأنفسِكم فلا تبيعوها بغيرِها.
قال الحسن من أحب الدنيا وسرته خرج حب الآخرة من قلبه
وقال عون بن عبد الله :من أحب الدنيا وسرته، خرج حب الآخرة من قلبه
روى البخاري ومسلم عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : " هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله تعالى ، فوقع أجرنا على الله ، فمنا من مات لم يأكل من أجره ـ يعني في الدنيا ـ شيئاً ، منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ، قتل يوم أحد ، وترك نمرة ، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه ، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ، ونجعل على رجليه شيئاً من الأذخر، ومنا من أينعت له نمرته فهو يهذبها "
والنمرة كساء ملون من الصوف ـ يهذبها : يقطفها .
هكذا استطاع هؤلاء الرجال حين تخففوا من حب الدنيا وكراهية الموت ، وصدقوا في طلب الآخرة ، أن يتقدموا في ميادين الشهادة ، باسمة شفاههم مرفوعة رؤوسهم خفاقة بالشوق إلى لقاء الله قلوبهم ، يجدون عند أرض المعركة ريح الجنة التي وعد المتقون ، ويتنسمون عبير الحياة التي كتبت للشهداء وهم أحياء عند ربهم يرزقون .
رسالة زلزلت عروش الجبابرة
وها هو عمير بن الحمام يضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك عندما دنا المشركون من المسلمين في غزوة بدر قال-صلى الله عليه وسلم -: "روى مسلم بسنده من طريق أبي هريرة أن النبي قال لأصحابه عندما دنا منهم مشركي قريش:" قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض" فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض ؟ قال ""نعم"، قال: بخ بخ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "ما يحملك على قولك بخ بخ" قال: لا والله يا رسول الله إلى رجاء أن أكون من أهلها قال: "فإنك من أهلها" فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل" رواه مسلم
قال أبو بكر -
رضي الله عنه -خالد بن الوليد ، غداة مسيره لمحاربة المرتدين : ( احرص على
الموت توهب لك الحياة) ، فكانت حياة خالد وجنده من الصحابة الكرام ترجمة عملية لهذه الوصية ، مما جعله يقول لهرقل ، قبيل معركة اليرموك فعن عامر الشعبي قال: كتب خالد بن الوليد زمن الحيرة إلى مرازبة فارس:
بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، الحمد لله الذي فض خدمتكم وفرق جمعكم وخالف بين كلمتكم فإذا جاءكم كتابي هذا فاعتقدوا مني الذمة، وأجيبوا إلى الجزية، فإن لم تفعلوا أتيتكم بقوم يحبون الموت حبكم الحياة. (قال أبو معاوية البيروتي: إسناده صحيح
3-هجرة القلوب من الرياء إلى الإخلاص
فكم من مصلي يصلي ليقال عنه مصلي
وكم من الحاج يحج ليقال عنه حاج
وكم من متصدق يتصدق ليقال عنه جواد
وكم من قارئ للقران يقرا ليقال عنه قارئ
وكل هذا من الرياء الذي يرده رب الأرض والسماء
عَن أبي هُرَيرة، عَن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: أنا خير الشركاء من عمل عملا فأشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك.
هاجر بقلبك إلى ارض الإخلاص، فالإخلاص مسك والرياء جيفة
قال الجنيد: الإخلاص سرٌّ بين الله تعالى وبين العبد، لا يعلمه مَلكٌ فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.
ولتصحيح اتجاهات القلب ? وضمان تجرده من الأهواء الصغيرة ? ع
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه رواه البخاري ومسلم».
قال شهر بن حوشب: «جاء رجل إلى عبادة بن الصّامت، فقال: أنبئني عمّا أسأل عنه، أرأيت رجلا يصلّي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يحمد؟» .
فقال عبادة: «ليس له شيء، إنّ الله تعالى يقول: أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كلّه لا حاجة لي فيه»
4-هجرة القلوب من الحقد والحسد إلى الحب والألفة
ما أحوجنا عباد الله أن نهاجر من تلك المهلكة المضلة التي هي داء الأمم من قبلنا
ترى لماذا يهجر الأخ أخاه؟
ترى لماذا العداوة والشحناء بين الأصحاب والأصدقاء والجيران؟
ترى لماذا تدابرنا وتقاطعنا وتقاتلنا؟
الجواب أننا مازلنا في تلك الأرض المهلكة المفسدة
هيا لنهاجر إلى ارض الحب والألفة والأخوة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء». قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: «هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا انتساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}». أخرجه ابن حبان
عن ابن الفضيل قال: أتيت أبا إسحق السبيعي بعدما كف بصره قال: قلت تعرفني؟ قال: فضيل؟ قلت: نعم، قال: إني والله أحبك لولا الحياء منك لقبلتك فضمني إلى صدره ثم قال: حدثني الأحوص عن عبد الله {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} [الأنفال:63] نزلت في المتحابين.
عن علي بن المديني يقول: غبت عن البصرة في مخرجي إلى اليمن - أظنه ثلاث سنين - وأمي حيةٌ. فلما قدمت قالت: يا بني فلان لك صديق، وفلان لك عدو. قلت: نم أين علمت يا أمه؟ قالت: كان فلان وفلان، فذكرت منهم يحيى بن سعيد يجيؤون مسلمين، فيُعَزوني، ويقولون: اصبري، فلو قدم عليك، سرك الله بما ترين. فعلمت أن هؤلاء أصدقاء. وفلان إذا جاؤوا، يقولون لي: اكتبي إليه، وضيقي عليه ليقدم.
حملتُ جبالَ الحُب فيك وإنني ... لأَعْجَزُ عن حَمْلِ القميصِ وأضعفُ
وما الحبٌ من حُسْنٍ ولا من سماحةٍ ... ولكنه شيءٌ بِهِ الرٌوح تَكْلُفُ
العنصر الرابع: الهجرة إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
الهجرة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالحب: أن نحب رسولنا-صلى الله عليه وسلم – اشد من انفسنا و أبنائنا و أموالنا قال الله تعالى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة: 24]
فكم نرى من يقدم هواه على سنة نبيه-صلى الله عليه وسلم-
وكم نرى من يطعنون في هدية وسيرته
وكم شاهدنا من يسب النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا نتحرك ولا نغضب
أما آن لنا أن نهاجر إلى هديه ومحبته – صلى الله عليه وسلم-؟
تكون الجرة إلى الحبيب – صلى الله عليه وسلم-بمحبته
إنّ محبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هي دليل الإيمان الصّادق مصداقا لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من ماله وولده والنّاس أجمعين»
وليس هذا الحبّ مجرّد عاطفة جوفاء، وإنّما هو حبّ حقيقيّ نابع من القلب ومن العقل معا ودليل صدق تلك المحبّة هو اتّباع المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في كلّ ما أمر به، أو نهى عنه، فالمحبّ مطيع دائما لمن يحبّه ولذلك قيل:
لو كان حبّك صادقا لأطعته ... إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
و قال أخر:
1-فهذا أبو بكر الصديق لما قام يدافع عن النبي : ضربوه ووطئوه بأقدامهم ، ثم حمله بنو تميم ولما تكلم في آخر النهار كان أول ما قال: ما فعل رسول الله ، ثم بعث زوجته إلى أم جميل بنت الخطاب لتسألها عن رسول الله ، ثم جاءت أم جميل ورأت أبا بكر،وأخبرته بخبره ، فقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى آتي رسول الله ، وفي الليل خرج حتى أتاه .
2-وهذه امرأة من الأنصار قتل أخوها وزوجها وأبوها يوم أحد مع رسول الله فقالت : ما فعل رسول الله ، قالوا خيرا هو بحمد الله كما تحبين ، كل مصيبة بعدك جلل .
3-أما خبيب الصحابي الشهيد لما غدر المشركون به وبإخوانه من القراء ثم أعطوه لأهل مكة ليقتلوه ، ووضعوه على الخشبة نادوه قائلين : أتحب أن محمدا مكانك ،فقال : ماأحب أن محمداً في مكانه وتصيبه شوكة.
4-ومن حبهم لرسول الله أن أحدهم ما كان ليقدم على عمل فيسبق به رسول الله فعند ما بعث عثمان إلى مكة قبل صلح الحديبية ليفد على قريش قال المسلمون هنيئا لعثمان لعله طاف بالكعبة ، ولما جاء قال : والله ما كنت لأقدم على ذلك قبل أن يطوف رسول الله .
5-وكان لرسول الله مكانة أكبر من مكانة الوالد في النفوس ، فلما قدم أبو سفيان إلى المدينة ودخل على أم حبيبة ، طوت الفراش عنه رغبة بفراش رسول الله أن يجلس عليه كافر.
* تكون الهجرة إلى الحبيب النبي - صلّى الله عليه وسلّم- باتّباعه- صلّى الله عليه وسلّم وطاعته هما الدّليل على محبّة الله تعالى،
يقول أبو سليمان الدّارانيّ: لمّا ادّعت القلوب محبّة الله، أنزل الله لها محنة (أي اختبارا) هي قوله سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (آل عمران/ 31) فقوله يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ إشارة إلى دليل المحبّة وثمرتها فدليلها، اتّباع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وثمرتها محبّة المرسل لكم (وهو المولى عزّ وجلّ) فما لم تحصل المتابعة فليست محبّتكم له حاصلة ومحبّته لكم منتفية .
الخطبة الثانية
العنصر الخامس: هجرة محبة الذنوب والمعاصي إلى الطاعة
هيا لنهاجر من المعاصي والذنوب إلى طاعة علام الغيوب
هيا لنهاجر من الذل والتبعية إلى العزة والحرية
هيا لنهاجر من أمام الشاشات والفضائيات إلى بيوت رب الأرض والسماوات
هيا لنهاجر من الكسل إلى النشاط والجلد
هيا لنهاجر من السلبية إلى الإيجابية
المسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحلَّ الله؛ لأن هذا هو الهدف من استخلاف في الأرض لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟
عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أمواله وأنفسهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) " (أحمد).
عن عبد الله بن عمرو عن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهاه الله عنه وأخرج مسلم.
فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية منها والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد؛ ولهذا أكد الحديث على (كف اللسان واليد)؛ إذ إنهما الأعضاء التي تصدر عنها المفاسد القولية والفعلية. وإذا كانت هذه الأعضاء سلاحًا ذا حدين يمكن أن يصدر عنها الخير كما يمكن أن يصدر عنها الشر، فإن إمكانية صدور الشر عنها أرجح من صدور الخير؛ عن أبي هريرة عن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت. أخرجه البخاري ومسلم
* المهاجر من هجر لذة النوم وتجافى جنبه عن وثير الفراش ودفئه لما سمع ـ أو قبل أن يسمع بسويعة ـ نداء الفلاح: ". الهجرة قلب لدولة عادات النفس؛ الهجرة إذن سلوك مستمر متجدد في حياة المسلم، وفرار إلى الله تعالى بالمسارعة والتسابق إلى الخير وكل عمل صالح يجلب مرضاته سبحانه؛ الهجرة هروب مما يغضبه وينزل مقته، "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" كما في حديث البخاري.
* المهاجر من وفق ـ بتوفيق منه سبحانه ـ لهجر عاداته وترك مألوفاته مأكلا ومشربا وملبسا وقولا وسلوكا بنية التقرب إليه عز سلطانه، وطوع نفسه لتحب محاب الله ورسوله حتى يكون هواه تبعا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث، وخرج من سلطان شهواته:
* المهاجر من هجر الغفلة والغافلين وانتظم في سلك الراجين وجهه سبحانه لما وقع في سمع قلبه نداء رب العالمين يأمره أن يصبر نفسه مع الذاكرين الله بالغدو والعشي وينهاه عن صحبة المنفرط أمرهم المشتت شملهم {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
المهاجر من هجر النفاق وأهله، لما دعاه ربه ليكون مع الصادقين ويحبهم ويعمل عملهم استجابة لأمره تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] المهاجر من هجر سيء الأخلاق وفظاظة الطبع وغلظة القلب في التعامل مع الزوج والأولاد والجيران والناس أجمعين، لما علم أن المؤمن ينال بحسن الخلق عظيم درجات الآخرة
* المهاجر من هجر البطالة وشمر على ساعده يعمل ويعلم الناس أسباب الكسب الحلال صونا لماء وجه المؤمن وعزة الأمة لما بلغه حب الله تعالى للعامل
المرفقات
القلوب-إلى-علام-الغيوب
القلوب-إلى-علام-الغيوب
القلوب-إلى-علام-الغيوب-2
القلوب-إلى-علام-الغيوب-2