نيل العلا في محبة لقاء ربنا الأعلى
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيِماً كَثِيِراً .
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ» قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ قَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ» [رواه البخاري]
فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ لِحَالِ الْمُسْلِمِ الَّذِي آمَنَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَرَسُولاً، فَعَمِلَ بِطَاعَةِ اللهِ وَاتَّقَاهُ، وَآمَنَ بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ لِعِبَادِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَالْعَطَاءِ الَّذِي لاَ يُوصَفُ، كَمَا جَاءَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَبارَكَ وَتَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- : اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: 17].
فَالْمُؤْمِنُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَشْتَاقُ لَهُ، وَتَهُونُ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا، وَيَسْتَعِدُّ لِلِقَاءِ اللهِ بِالإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَالْفَرَحِ بِلِقَائِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 45-46] فَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ بِأَيِّ لَحْظَةٍ مِنَ اللَّحَظَاتِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88] حَتَّى مَنِ اصْطَفَاهُمْ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يُكْتَبْ لَهُمُ الْخُلُودُ الأَبَدِيُّ؛ بَلْ مَاتُوا وَرَحَلُوا؛ حَتَّى نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ، صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ مَاتَ، وَقَالَ لَهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30] فَالْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِقَاءَ رَبِّهِ، وَيَفْرَحُ بِهِ، لاَ سِيَّمَا وَهُوَ عِنْدَ أَوَّلِ مَنْزِلَةٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ عِنْدَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: « لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ».
فَالْمُؤْمِنُ يَعْمَلُ وَيَسْتَعِدُّ لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَيَرْجُوهُ، حَتَّى فِي أَحْلَكِ الأُمُورِ وَأَصْعَبِهَا وَاخْتِلاَطِهَا وَكَثْرَةِ فِتَنِهَا؛ وَتَأَمَّلُوا قِصَّةَ طَالُوتَ وَجَالُوتَ وَقِتَالَ الْجُنُودِ مَعَهُ، وَاخْتِبَارَهُمْ مِنَ اللهِ بِنَهَرٍ يَجْرِي وَقَدْ بَلَغَ بِهِمُ الْعَطَشُ مَبْلَغًا عَظِيمًا؛ لِيَعْلَمَ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ لاَ يَصْبِرُ، وَمَنْ يُطِيعُهُ وَلاَ يَعْصِيهِ؛ لأَنَّ الْجِهَادَ يَحْتَاجُ إِلَى مُعَانَاةٍ وَإِلَى صَبْرٍ؛ وَالَّذِي لاَ يُطِيقُ الصَّبْرَ عَلَى الْعَطَشِ ،وَلاَ يُطِيقُ الصَّبْرَ عَلَى أَمْرِ الْقَائِدِ !
لَنْ يُطِيقَ الصَّبْرَ عَلَى مُقَابَلَةِ الأَعْدَاءِ ؛ فَيُمْنَعُ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْمَعْرَكَةِ؛ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِمْ: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ فَالْقَلِيلُ الَّذِينَ أَيْقَنُوا لِقَاءَ رَبِّهِمْ ، وَصَبَرُوا، وَثَبَتُوا مَعَ طَالُوتَ، هُمُ الَّذِينَ انْتَصَرُوا عَلَى جَالُوتَ وَجُنُودِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 249 – 251].
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى -عِبَادَ اللهِ- وَاسْتَعَدُّوا لِلِقَاءِ رَبِّكُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَلاَ رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ إِلاَّ فِي لِقَاءِ اللهِ، وَمَنْ كَانَتْ رَاحَتُهُ فِي لِقَاءِ اللهِ تَعَالَى فَيَوْمُ الْمَوْتِ يَوْمُ سُرُورِهِ وَفَرَحِهِ وَأَمْنِهِ وَعِزِّهِ وَشَرَفِهِ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآياتِ وَالْحِكْمَةِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَتُوبُوا إِلَيْهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِمَّا اخْتَصَّ اللهُ بِهِ شَهْرَ الْمُحَرَّمِ يَوْمَهُ الْعَاشِرَ وَهُوَ عَاشُورَاءُ، الَّذِي شَرَعَ لَنَا صَوْمَهُ وَوَعَدَنَا عَلَى صِيَامِهِ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ صِيَامِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» [رواه مسلم].
وَعَاشُورَاءُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي نَجَّى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَنَصُومُهُ شُكْرًا للهِ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَنَصُومُهُ اقْتِدَاءً بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَلاً بِسُنَّتِهِ.
فَصُومُوا عَاشُورَاءَ، وَصَوِّمُوا فِيهِ أَبْنَاءَكُمْ تَعْوِيدًا لَهُمْ وَتَعْلِيمًا، وَتَأَسِّيًا بِأُسَرِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ؛ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].
المرفقات
1659513564_نيل العلا في محبة لقء ربنا الأعلى.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق