نهي الأبرار عن التستر والاحتكار

محمد ابراهيم السبر
1444/08/03 - 2023/02/23 02:34AM

خطبة: نهي الأبرار عن التستر والاحتكار

الخطبة الأولى:

الحمد لله الحكيم العليم، دبَّر بحكمته شؤون العباد، وأوضَح بفضله سبيل الرشاد، أحمده -سبحانه- وأشكره، على نِعَم تتكاثر، وآلاء تزداد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن الأشباه والأنداد، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدا عبد الله ورسوله، أفضل نبي وخير هاد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه، نالوا المكارمَ شرفًا، ونهجوا طريق السداد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾. اتقوا الله ربَّكم في أنفسكم وأهليكم، واتقوه في أعمالكم وأموالكم، واتقوه في بيعكم وشرائكم، واتقوه فيما تأكلون وما تُطعَمون، وما تُنفِقون وما تَدَّخِرون، واتقوه في جميع عقودكم ومعاملاتكم، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 168].

واعلموا -رحمكم الله- أنَّ تقواكم لِربِّكم سبحانه لا تَتِمُّ إلا باتباع شَرعه ودينه القويم في العبادات فيما بينكم وبينه، وفي المعاملات فيما بينكم وبين خلقه، وذلك بأنْ تُوقِعوها على الوجوه الشرعية، والطُّرق الصحيحة المَرْضِّية، امتثالاً لقول ربكم عز شأنه:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، ومن تقواه سبحانه الحذر من الفتنة بالمال والتكالب على جمعه بشتى الوسائل دون مبالاة؛ مصداقًا لما أخبر به الصادق المصدوق ﷺ: «ليأتين على الناس زمانٌ لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام» رواه البخاري.

أيها المسلمون إنَّ طلب الحلال وتحريه أمر واجب وحتم لازم قال النبي ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51] وَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ». رواه مسلم.

وقد أوجب الشرع الحنيف الصِّدق والبيان في المعاملات مِن بيع وشراء وإجارة وصِيانة وعقود وأعمال، ونهى عن الغِش والكِتمان والتغرير والتدليس، ومن ذلك التلاعب بالمنتجات والسلع؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه:«أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» رواه مسلم، فمَن كَتم عيبًا في سِلعةٍ وبضاعة وعَرَض، أو خَدَع في حِرفته وصناعته، أو كذب ودلَّس في ثمنٍ أو وصفٍ أو شروطِ عقد وصفقة، فهو غاش مرتكب لكبيرة مِن كبائر الذُّنوب، وتبرَّأ مِنه سيِّد المرسلين ﷺ.

ولقد صحَّ عن نبيكم ﷺ أنَّه قال: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»، فالصِّدق والبيان واجب في البيع والشراء، ومُوجب للبركة والخير والنَّماء، والكذب والكِتمان مُحرٌم، وماحق للبركة نسأل الله العافية والسلامة.

عباد الله: إن دين الإسلام هو دين السَّمَاحَة واليسر في جميع تفاصيله وتعاملاته، حض على حسن المعاملة في البيع والشراء والاقتضاء؛ فعن جابر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» رواه البخاري.

ولقد عانى الكثير من غلاء الأسعار، وأثره البالغ على المعيشة، وزيادة الحاجة والعوز، والوقوع في المعاصي والمخالفات من أجل الحصول على لقمة العيش، ولاشك أن الغلاء له أسباب متعددة، لعل منها: تلاعب التجار والمحتكرين بالسلع التي يحتاج إليها الناس؛ فبعضهم يقوم بتخزينها وإخفائها من أجل رفع ثمنها لتحصيل أكبر كسب ممكن، ويتضح ذلك خلال بعض المواسم، وهذا فيه إضرار بعموم الناس، وخاصة الفقراء وأصحاب الحاجات؛ فاحتكار السلع ظلم، وإهدارٍ لتجارة المسلمين وصناعتهم، وتضييق لأبواب العمل والرزق، وهو نوعٌ من الأنانية ومحبة الذات؛ ويؤدي إلى تضخُّم الأموال في طائفةٍ قليلةٍ من الناس، كما في قوله تعالى: ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر:7]. وذم رسول الله ﷺ المحتكر فقال: «لا يحتكر إلا خاطئ» رواه مسلم، والخاطئ هو الآثم، وقال أيضاً: «من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ» رواه أحمد.

وإن من المعاملات المحرمة التي تتضمن الغرر ومخالفة أنظمة العمل والعمال ما يسمى "التستر التجاري"، وقد حرمه علماؤنا لأنه مخالفة لولي الأمر، ولضرره والضرر يزال، واشتماله على الغرر والخديعة والحيلة، واعتباره من العقود التي يخالف ظاهرها باطنها، ولكونه من أكل أموال الناس بالباطل، فهو جريمة ومخالفة للشرع والنظام، وخيانة للوطن، ومؤثر على الاستقرار الاقتصادي، وسبب لارتفاع الأسعار، وزيادة معدلات البطالة، وهجرة رأس المال إلى خارج البلاد.

ومن هنا فلا بد من التزام المنشآت التجارية بالأنظمة واللوائح المعتمدة من الجهات الحكومية حفظاً لحقوق ومصالح الناس، وبعداً عن الشبهات، والوقوع تحت طائلة العقوبات في الدنيا والآخرة.

وبعد، عباد الله، فإن مما يحتاجه المرء المسلم في شأن المال ويلزمه هو: تعلم أحكامه الشرعية احترازاً من الوقوع في الحرام؛ فقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف في السوق ويقول: «لا يبع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا، شاء أم أبى». فمعرفة الأحكام الشرعية، والأنظمة المرعية مهمة للتاجر ليعمل بها، ويتعرف على المحاذير الواضحة فيبتعد عنها، وعن المحاذير المشبوهة فيتوقاها. 

ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- واحفظوا أموالكم وطَيِّبوا مكاسبكم، وأنفِقُوا خيرًا لأنفسكم. 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فاتقوا الله عباد الله، وتوكلوا على الله حق توكله:﴿ فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ [العنكبوت: 17]، ولا تستعجلوا الرزق بطلب الحرام فتقطعوا أواصر الإجابة والصلة بالله، واجتنِبوا جمع الأموال من المسالك المعوجة والطرق الملتوية والمخالفة للشريعة الإسلامية، وتبصروا فيما تقدمون عليه من معاملات، فمن اتقى الله، وقاه الله ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن ترك شيئًا لله، عوَّضه الله خيرًا منه، ومن صدق في بيعه وتجارته نال الجزاء الموعود على لسان الصادق المصدوق، ﷺ: «التاجر الصَّدُوقُ الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» رواه الترمذي.

هذا؛ وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله، فقد أمركم الله بذلك فقال جل في علاه:﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾  [الأحزاب:56].

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده لما تحب وترضى، وانصر جنودنا المرابطين. ياذا الجلال والإكرام.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المشاهدات 1433 | التعليقات 0