نهاية العام
محمد سعيد صديق
1435/12/29 - 2014/10/23 21:34PM
ِالخطبة الأولى العنوان / نهاية العام
الحمد لله الواحد القهار، جعل في تعاقب الليل والنهار عبرةً لأولي الأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفار، حكم بفناء هذه الدار، وأمر بالتزود لدار القرار، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار، وصحبه الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أمَّا بعد:فيا أيّها المسلمون: اتَّقوا الله واشكرُوه ، واستعدّوا لبغتةِ الأجل، فما أطال عبدٌ الأمَلَ إلا أساءَ العمل،"يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".
أيها الأحبة: بوابة عجباً لها ما أعظمها، ما أوسعها، ما أكبرها، اتسعت لملايين البشر على مر التاريخ،كلٌ يدخل منها ويمضي،دخل منها آدم وموسى وعيسى ومحمد والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام، دخل منها الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، اتسعت لملايين الأحداث، أممٌ تباد ودولٌ تشاد، حروبٌ طاحنة ونوازل ساخنة، عجبًا لها من بوابة، لم تضق يومًا بالموتى ولا بالمواليد، ولا بالأفراح ولا بالأتراح، عجبًا لها من بوابة قد أشرعت أبوابها يوم أن حط آدم قدمه على الأرض، وستغلق بإذن ربها يوم أن يرث الله ألأرض ومن عليها ويأذن الله بخراب الدنيا وزوال العالم.
نعم يا رعاكم الله، إنها بوابة الحياة الدنيا الفانية تلج من بوابتها السنون تلو السنين، وها هو العام الخامس والثلاثون بعد الأربعمائة والألف للهجرة قد أزف رحيله وقرب تحويله، ها هو يطوي بساطه ويقوض خيامه ويشدُّ رحاله، يا لله! انقضى عام، قطعناه من أعمارنا، أين ليله؟! أين نهاره؟! أين يومه؟! أين شهره؟! أين صيفه؟! أين شتاؤه؟! أين أفراحه؟! أين أحزانه؟! أين أنفاسه؟! أين لحظاته؟!إي وربي، إنها دوامة الحياة الدنيا لا تقف لأحد،لا تنتظر أحداً، لا تحابي أحداً، فالإنسان منذ أن نزل من بطن أمه وهو يغذ السير في طريقه المقدر، ومرور الأيام والأعوام يدنيه شيئاً فشيئاً من نهاية الطريق، إلى يومه الأخير في هذه الدنيا.
عباد الله: إن لكل شيء بداية ونهاية، ونهاية عامنا قد أوشكت على الاقتراب، فقد آذن عامنا بالرحيل ، عام كامل تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وهاهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يودعنا إلى الآخرة، وقد حوى بين جنبيه وفي خزائنه ما حوى، من الحِكم والعبر، والأحداث والغير، وأعمال الخير والشر، فلا إله إلا الله، كم شقي فيه من أناس، وكم سعد فيه من آخرين؟ كم من طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل قد تأيم؟ كم من مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب توارى، كم من أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود، كم من دموع فرحٍ في العيون ترقرقت، وعبرات حزن على الخدود تحدرت، آلام تنقلب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً **فإنما الربح والخسران في العمل
فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد لرمسه، و الليالي والأيام خزائن الأعمال ومراحل الآجال، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر فإذا هي أعوام، وأقوام تمضي في إثر أقوام، هذا مقبل وهذا مدبر، وهذا محسن، وهذا مسيء، والكل إلى الله يسير، فأليه المنتهى والمصير.
عباد الله: جمعتكم هذه هي آخر جمعة من هذا العام، وهذا العام مِن أعمارِكم قد تصَرَّمَت أيّامه، وقُوِّضَت خِيامه، وأوشكت شمسه على المغيب، واضمحلَّ هلاله، إيذانًا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدَها دارٌ إلا الجنّة أو النار، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِى فَقَالَ « كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ . أخرجه البخاري.
ذهب عامُكم شاهدًا لكم أو عليكم، فاحملوا زادًا كافيًا، وأعِدّوا جوابًا شافيًا، واستكثِروا في أعمارِكم من الحسنات، وتدارَكوا ما مضَى من الهفَوات، وبادروا فرصةَ الأوقات، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يَعِظ رجلاً ويقول له: "اغتنم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبل هرَمِك، وصحَّتَك قبل سقمَك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبلَ شغلك، وحياتك قبل مَوتِك، فما بعد الدنيا من مستَعتَب،ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار"أخرجه الحاكم.
فيا من قد بَقِي من عمُره القليل، ولا يدرِي متى يقَع الرّحيل، يا مَن تُعدّ عليه أنفاسه استدرِكها، ويا من ستفوت أيامه أدرِكها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلِكها، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ النّاس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو موبقها" أخرجه مسلم.
ويا من أقعده الحِرمانُ، و أركسه العِصيان، كم ضيّعتَ من أعوام؟! وقضيتَها في اللّهوِ والمنام؟! كم أغلقتَ بابًا على قبيح؟! كم صَلاةٍ تركتَها؟! ونظرةٍ أصبتها؟! وحقوقٍ أضعتها؟! ومناهِي أتيتَها؟! وشرورٍ نشَرتها؟! راجع نفسك فلعله لم يبق من عمرك إلا ساعات أو أيام، فاستدرك عمراً قد أضعت أوّله، ألا تنظر فقد وهن العظم وابيض الشعر ورحل الأقران ولم يبق إلا الرحيل؟! عجيب حال هذا الغافل: يوقن بالموت ثم ينساه! ويتحقق من الضرر ثم يغشاه! يخشى الناس والله أحق أن يخشاه! يغتر بالصحة وينسى السقم! ويفرح بالعافية ولا يتذكر الألم! يزهو بالشباب ويغفل عن الهرم! يحرص على العاجل ولا يفكر في خسران الآجل! يطول عمره ويزداد ذنبه! يبيضُ شعره ويسودّ قلبه! قلوب مريضة عز شفاؤها، وعيون تكحلت بالحرام فقل بكاؤها، وجوارح غرقت في الشهوات فحقّ عزاؤها.
سبحان الله! ألم يأن لنا أن ندرك حقيقة هذه الدار؟! فهل رحِم الموت منَّا مريضًا لضعف حاله وأوصاله؟! هل تركَ كَاسِبًا لأجلِ أطفالِه؟! هل أمهَلَ ذا عِيال من أجلِ عِياله؟! أين من كانوا معَنا في الأعوام الماضية؟! أتَاهم هادِم اللذات وقاطع الشهوات ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالِسَ والمساجد، تراهُم في بطون الألحاد صرعَى،لا يجِدون لما هم فيه دَفعًا، ولا يملِكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا.
فيا قوم: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
فيا من تمرّ عليه سنَةٌ بعد سنة وهو في نوم الغفلة والسِنة، قل لي بربِّك: لأي يوم أخَّرتَ توبتك؟! ولأيِّ عام ادَّخرت أوبتك؟! إلى عام قابِل وحول حائل؟! فما إليك مدَّةُ الأعمارِ ولا معرفةُ المقدار، فبادِر التوبةَ واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسَد، وكن من أجلك على رصَد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، والعمر أمانَة، سيُسأل عنه المرء يومَ القيامة، فعن عَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟"، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمتُ على شيء ندَمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزِدد فيه عملي.
عباد الله وإننا ونحن نودع هذا العام لا ننسى ما يحل بإخواننا في فلسطين وسوريا وليبيا والعراق واليمن وبورما وغيرها من بلاد المسلمين: كم من مسلمين في هذا العام ماتوا جوعًا، كم من مسلمين في هذا العام شردوا من بيوتهم فلا مسكن ولا مأوى، كم من بريء مسكين قتلته رصاصات الغدر والكفر، كم من حرة عفيفة هتك سترها طاغوت عتلٌ غليظ، كم من بلدٍ استبيحت حرمته وسلبت أراضيه، كم من أرضٍ أُحرقت ظلمًا لا لشيء إلا أن أهلها يقولون: ربنا الله، سل نفسك: كم مرة فكرت في حال المسلمين فاغتممت ففاضت عيناك؟! وكم مرة احترق قلبك وأنت تقرأ ما حل بالمسلمين؟! وكم مرة رفعت يديك في ضراعة وخشوع تدعو لإخوانك المساكين المستضعفين؟!
أيها المسلم: كم رأينا في هذه الحياة من بنى، وسكن غيره، وجمع ثم أكل وارثه، وتعب واستراح من بعده فيا عبدَ الله،استدرِك من العمر ذاهبًا، ودع اللهو جانبًا، وقم في الدُّجى نادِبًا،وقف على الباب تائبًا، فعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال:قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله عزّ وجلّ يبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها" أخرجه مسلم. آن والله أن ترجع النفس وتتوب، وتتجه لخالقها وتئوب، ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القُرْآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكُم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ من كُلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- و"اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِير" و لنتذكر بانقضاء العام انقضاء العمر، وبسرعة مرور الأيام قرب الموت، وبتغير الأحوال زوال الدنيا وحلول الآخرة، فالأيام تُطوى، والأعمار تَفنى، والأبدان تَبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله، كما صح بذلك الخبر والأعمال بالخواتيم فمن أصلح فيما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي، الموتى يتحسّرون على فوات الحسنات الباقية، والأحياء يتحسرون على فوات أطماع الدنيا الفانية، ما مضى من الدنيا وإن طالت أوقاته فقد ذهبت لذاته وبقيت تبِعاته، وكأن لم يكن إذا جاء الموت وميقاته.
عباد الله: ومما يجب التنبيه عليه ما يحصل في بداية العام من تهنئة بين الناس بقدوم العام الجديد عن طريق المشافهة أو الرسائل وأفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعدم جواز التهنئة بالسنة الهجرية الجديدة لأن الاحتفاء بها غير مشروع وكذلك لا يجوز تخصيص آخر العام بشيء من العبادات وهو مردود على صاحبه فقد قال عليه الصلاة والسلام من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". متفق عليه.
فاتقوا الله -عباد الله- وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم واعلموا رحمكم الله أن من أفضل الطاعات وأشرف القربات كثرة صلاتكم وسلامكم على خير البريَّات فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ). وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشراً)) رواه مسلم.
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد...
هذه الخطبة قمت باعادة ترتيبها لتناسب الحال وهي مقتبسة من خطب بعض المشايخ الفضلاء جزى الله الجميع خير الجزاء
الحمد لله الواحد القهار، جعل في تعاقب الليل والنهار عبرةً لأولي الأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفار، حكم بفناء هذه الدار، وأمر بالتزود لدار القرار، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار، وصحبه الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أمَّا بعد:فيا أيّها المسلمون: اتَّقوا الله واشكرُوه ، واستعدّوا لبغتةِ الأجل، فما أطال عبدٌ الأمَلَ إلا أساءَ العمل،"يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".
أيها الأحبة: بوابة عجباً لها ما أعظمها، ما أوسعها، ما أكبرها، اتسعت لملايين البشر على مر التاريخ،كلٌ يدخل منها ويمضي،دخل منها آدم وموسى وعيسى ومحمد والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام، دخل منها الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، اتسعت لملايين الأحداث، أممٌ تباد ودولٌ تشاد، حروبٌ طاحنة ونوازل ساخنة، عجبًا لها من بوابة، لم تضق يومًا بالموتى ولا بالمواليد، ولا بالأفراح ولا بالأتراح، عجبًا لها من بوابة قد أشرعت أبوابها يوم أن حط آدم قدمه على الأرض، وستغلق بإذن ربها يوم أن يرث الله ألأرض ومن عليها ويأذن الله بخراب الدنيا وزوال العالم.
نعم يا رعاكم الله، إنها بوابة الحياة الدنيا الفانية تلج من بوابتها السنون تلو السنين، وها هو العام الخامس والثلاثون بعد الأربعمائة والألف للهجرة قد أزف رحيله وقرب تحويله، ها هو يطوي بساطه ويقوض خيامه ويشدُّ رحاله، يا لله! انقضى عام، قطعناه من أعمارنا، أين ليله؟! أين نهاره؟! أين يومه؟! أين شهره؟! أين صيفه؟! أين شتاؤه؟! أين أفراحه؟! أين أحزانه؟! أين أنفاسه؟! أين لحظاته؟!إي وربي، إنها دوامة الحياة الدنيا لا تقف لأحد،لا تنتظر أحداً، لا تحابي أحداً، فالإنسان منذ أن نزل من بطن أمه وهو يغذ السير في طريقه المقدر، ومرور الأيام والأعوام يدنيه شيئاً فشيئاً من نهاية الطريق، إلى يومه الأخير في هذه الدنيا.
عباد الله: إن لكل شيء بداية ونهاية، ونهاية عامنا قد أوشكت على الاقتراب، فقد آذن عامنا بالرحيل ، عام كامل تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وهاهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يودعنا إلى الآخرة، وقد حوى بين جنبيه وفي خزائنه ما حوى، من الحِكم والعبر، والأحداث والغير، وأعمال الخير والشر، فلا إله إلا الله، كم شقي فيه من أناس، وكم سعد فيه من آخرين؟ كم من طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل قد تأيم؟ كم من مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب توارى، كم من أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود، كم من دموع فرحٍ في العيون ترقرقت، وعبرات حزن على الخدود تحدرت، آلام تنقلب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً **فإنما الربح والخسران في العمل
فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد لرمسه، و الليالي والأيام خزائن الأعمال ومراحل الآجال، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر فإذا هي أعوام، وأقوام تمضي في إثر أقوام، هذا مقبل وهذا مدبر، وهذا محسن، وهذا مسيء، والكل إلى الله يسير، فأليه المنتهى والمصير.
عباد الله: جمعتكم هذه هي آخر جمعة من هذا العام، وهذا العام مِن أعمارِكم قد تصَرَّمَت أيّامه، وقُوِّضَت خِيامه، وأوشكت شمسه على المغيب، واضمحلَّ هلاله، إيذانًا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدَها دارٌ إلا الجنّة أو النار، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِى فَقَالَ « كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ . أخرجه البخاري.
ذهب عامُكم شاهدًا لكم أو عليكم، فاحملوا زادًا كافيًا، وأعِدّوا جوابًا شافيًا، واستكثِروا في أعمارِكم من الحسنات، وتدارَكوا ما مضَى من الهفَوات، وبادروا فرصةَ الأوقات، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يَعِظ رجلاً ويقول له: "اغتنم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبل هرَمِك، وصحَّتَك قبل سقمَك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبلَ شغلك، وحياتك قبل مَوتِك، فما بعد الدنيا من مستَعتَب،ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار"أخرجه الحاكم.
فيا من قد بَقِي من عمُره القليل، ولا يدرِي متى يقَع الرّحيل، يا مَن تُعدّ عليه أنفاسه استدرِكها، ويا من ستفوت أيامه أدرِكها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلِكها، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ النّاس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو موبقها" أخرجه مسلم.
ويا من أقعده الحِرمانُ، و أركسه العِصيان، كم ضيّعتَ من أعوام؟! وقضيتَها في اللّهوِ والمنام؟! كم أغلقتَ بابًا على قبيح؟! كم صَلاةٍ تركتَها؟! ونظرةٍ أصبتها؟! وحقوقٍ أضعتها؟! ومناهِي أتيتَها؟! وشرورٍ نشَرتها؟! راجع نفسك فلعله لم يبق من عمرك إلا ساعات أو أيام، فاستدرك عمراً قد أضعت أوّله، ألا تنظر فقد وهن العظم وابيض الشعر ورحل الأقران ولم يبق إلا الرحيل؟! عجيب حال هذا الغافل: يوقن بالموت ثم ينساه! ويتحقق من الضرر ثم يغشاه! يخشى الناس والله أحق أن يخشاه! يغتر بالصحة وينسى السقم! ويفرح بالعافية ولا يتذكر الألم! يزهو بالشباب ويغفل عن الهرم! يحرص على العاجل ولا يفكر في خسران الآجل! يطول عمره ويزداد ذنبه! يبيضُ شعره ويسودّ قلبه! قلوب مريضة عز شفاؤها، وعيون تكحلت بالحرام فقل بكاؤها، وجوارح غرقت في الشهوات فحقّ عزاؤها.
سبحان الله! ألم يأن لنا أن ندرك حقيقة هذه الدار؟! فهل رحِم الموت منَّا مريضًا لضعف حاله وأوصاله؟! هل تركَ كَاسِبًا لأجلِ أطفالِه؟! هل أمهَلَ ذا عِيال من أجلِ عِياله؟! أين من كانوا معَنا في الأعوام الماضية؟! أتَاهم هادِم اللذات وقاطع الشهوات ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالِسَ والمساجد، تراهُم في بطون الألحاد صرعَى،لا يجِدون لما هم فيه دَفعًا، ولا يملِكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا.
فيا قوم: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
فيا من تمرّ عليه سنَةٌ بعد سنة وهو في نوم الغفلة والسِنة، قل لي بربِّك: لأي يوم أخَّرتَ توبتك؟! ولأيِّ عام ادَّخرت أوبتك؟! إلى عام قابِل وحول حائل؟! فما إليك مدَّةُ الأعمارِ ولا معرفةُ المقدار، فبادِر التوبةَ واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسَد، وكن من أجلك على رصَد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، والعمر أمانَة، سيُسأل عنه المرء يومَ القيامة، فعن عَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟"، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمتُ على شيء ندَمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزِدد فيه عملي.
عباد الله وإننا ونحن نودع هذا العام لا ننسى ما يحل بإخواننا في فلسطين وسوريا وليبيا والعراق واليمن وبورما وغيرها من بلاد المسلمين: كم من مسلمين في هذا العام ماتوا جوعًا، كم من مسلمين في هذا العام شردوا من بيوتهم فلا مسكن ولا مأوى، كم من بريء مسكين قتلته رصاصات الغدر والكفر، كم من حرة عفيفة هتك سترها طاغوت عتلٌ غليظ، كم من بلدٍ استبيحت حرمته وسلبت أراضيه، كم من أرضٍ أُحرقت ظلمًا لا لشيء إلا أن أهلها يقولون: ربنا الله، سل نفسك: كم مرة فكرت في حال المسلمين فاغتممت ففاضت عيناك؟! وكم مرة احترق قلبك وأنت تقرأ ما حل بالمسلمين؟! وكم مرة رفعت يديك في ضراعة وخشوع تدعو لإخوانك المساكين المستضعفين؟!
أيها المسلم: كم رأينا في هذه الحياة من بنى، وسكن غيره، وجمع ثم أكل وارثه، وتعب واستراح من بعده فيا عبدَ الله،استدرِك من العمر ذاهبًا، ودع اللهو جانبًا، وقم في الدُّجى نادِبًا،وقف على الباب تائبًا، فعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال:قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله عزّ وجلّ يبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها" أخرجه مسلم. آن والله أن ترجع النفس وتتوب، وتتجه لخالقها وتئوب، ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القُرْآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكُم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ من كُلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- و"اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِير" و لنتذكر بانقضاء العام انقضاء العمر، وبسرعة مرور الأيام قرب الموت، وبتغير الأحوال زوال الدنيا وحلول الآخرة، فالأيام تُطوى، والأعمار تَفنى، والأبدان تَبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله، كما صح بذلك الخبر والأعمال بالخواتيم فمن أصلح فيما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي، الموتى يتحسّرون على فوات الحسنات الباقية، والأحياء يتحسرون على فوات أطماع الدنيا الفانية، ما مضى من الدنيا وإن طالت أوقاته فقد ذهبت لذاته وبقيت تبِعاته، وكأن لم يكن إذا جاء الموت وميقاته.
عباد الله: ومما يجب التنبيه عليه ما يحصل في بداية العام من تهنئة بين الناس بقدوم العام الجديد عن طريق المشافهة أو الرسائل وأفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعدم جواز التهنئة بالسنة الهجرية الجديدة لأن الاحتفاء بها غير مشروع وكذلك لا يجوز تخصيص آخر العام بشيء من العبادات وهو مردود على صاحبه فقد قال عليه الصلاة والسلام من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". متفق عليه.
فاتقوا الله -عباد الله- وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم واعلموا رحمكم الله أن من أفضل الطاعات وأشرف القربات كثرة صلاتكم وسلامكم على خير البريَّات فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ). وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشراً)) رواه مسلم.
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد...
هذه الخطبة قمت باعادة ترتيبها لتناسب الحال وهي مقتبسة من خطب بعض المشايخ الفضلاء جزى الله الجميع خير الجزاء
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
أحسنت الاختيار وتفرست في الجمع فجزاك ربي خيرا ومنحك فضلا وبارك في جهودك وكتب ربي أجر الجميع شيخ بو زكريا .
هلا أفصحت عن اسمك يا شيخ حتى يضاف لاسمك لقب خطيب ؟!
خالص تحياتنا لمقامكم.
تعديل التعليق