نقل زكاة الفطر للبلدان البعيدة// د. عبدالله بن منصور الغفيلي
احمد ابوبكر
1437/09/27 - 2016/07/02 19:34PM
[align=justify]إن مما لا يخفى كثرة المسلمين وانتشارهم في أصقاع الأرض، إلا أن ذلك لم ينفك عن زيادة الفقر فيهم والعوز، مع تفاوت في ذلك بينهم، حيث وصل الأمر في بعض البلدان إلى الموت جوعا وفقراً، بينما الفقر في البلدان الغنية لا يصل إلى ذلك ولا يدانيه؛ لذا فقد اتجه بعض الأفراد والجهات إلى نقل الزكاة سواء كان منها زكاة المال أو الفطر إلى بلدان أشد فقراً، مما يدفع بإعادة بحث المسألة، وإبرازها، مع كونها قد بحثها الفقهاء قديماً، سواء منها زكاة المال أو الفطر، فحكمهما في النقل لدى الفقهاء واحد، وإنما الاختلاف بينهما في الموطن الزكوي(1)، فموطن زكاة المال التي يشرع إخراجها فيه هو مكان وجود المال؛ لتعلق الزكاة به،(2) وأما في زكاة الفطر فهي متعلقة بالمخرج نفسه لا بماله، فيكون المشروع إخراجها حيث هو.(3)
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن أهل كل بلد أولى بصدقتهم من غيرهم.(4)
كما اتفقوا على مشروعية نقل الزكاة من موضعها إذا استغنى أهل ذلك الموضع عن الزكاة كلها أو بعضها.(5)
و اختلفوا في حكم نقلها إذا كان في البلد مستحق لها على أقوال:
القول الأول: لا يجوز نقل الزكاة عن البلد الذي وجبت فيه، و هو قول الجمهور من المالكية،(6)والشافعية(7) و الحنابلة(8).
القول الثاني: يكره نقل الزكاة عن البلد الذي وجبت فيه لغير قريب وأحوج، و هو قول الحنفية(9).
أدلة القولين:
أدلة القول الأول:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً- رضي الله عنه - إلى أهل اليمن، قال له:(فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم)(10).
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم بين أن الزكاة تؤخذ من أغنياء البلد فترد في فقرائه كما يفيده الضمير في قوله: (فقرائهم). وهذا يعم زكاة المال والفطر.(11)
ونوقش: بأن الضمير في (فقرائهم) يعود على المسلمين جميعا.(12)
وأجيب: بأن معاذاً أمر بأخذ الصدقة من أهل اليمن وردها فيهم، ولم يؤمر بأخذها من عموم ا لمسلمين، فالضمير لمعهود وهو أهل البلد المذكور.(13)
2- أن عمر بن الخطاب أنكر على معاذ لما بعث إليه بثلث صدقة الناس، وقال له: (لم أبعثك جابياً، ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم). فقال معاذ: (ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني…)(14).
3- ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كتب: (من خرج من مخلاف(15) إلى مخلاف، فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته).(16)
وجه الدلالة: أن معاذا رضي الله عنه جعل مكان الصدقة هو مكان الأهل والمال، ولم يجعل لمن خرج عنهما نقل زكاة ماله حيث خرج. (17)
4- أن فقراء البلد قد اطلعوا على أموال الأغنياء، وتعلقت بها أطماعهم، والنقل يوحشهم، فكان الصرف إليهم أولى.(18)
أدلة القول الثاني:
1-استدلوا بأدلة القول الأول، وحملوا الكراهة على التنزيه؛ لأن المصرف هو مطلق الفقراء، وهو يصدق على أهل البلد وغيرهم(19).
2-رعاية حق الجوار في دفعها لأهل البلد دون نقلها لغيرهم من الأبعدين(20).
الترجيح: يظهر مما تقدم أن الأصل توزيع الزكاة في بلد جمعها لقوة أدلة القول الأول، ولما في ذلك من تحقيق التكافل الاجتماعي، ودفع الضغينة بين الفقراء والأغنياء، ولما فيه من تحقيق الاكتفاء الذاتي من كل إقليم وناحية، فلا يحتاجون إلى غيرهم مما يدفع عنهم مشقة استتباع الغير والركون إليهم.
إلا أن ذلك لا يمنع من نقل الزكاة والخروج عن الأصل إذا رأى أهل الاجتهاد تقرير ذلك، قال ابن زنجويه(21): السنة عندنا أن الأمام يبعث على صدقات كل قوم من يأخذها من أغنيائهم ويفرقها في فقرائهم غير أن الإمام ناظر للإسلام وأهله، والمؤمنون أخوة، فإن رأى أن يصرف من صدقات قوم لغناهم عنها إلى فقراء قوم لحاجتهم إليها فعل ذلك على التحري والاجتهاد (22).
و قد أفتى بنحو ذلك شيخ الإسلام حيث نص على جواز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية(23).
ومن صور تلك المصلحة التي يجوز نقل الزكاة لأجلها:
1-أن يكون فقراء البلد الآخر أشد حاجة، وقد نص على ذلك الحنفية(24) والمالكية(25)، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية(26). فيجوز نقل الزكاة إليهم؛ لأن المقصود من الزكاة سد خلة الفقير فمن كان أحوج كان أولى، ويؤيد ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد"(27).
2-أن يكون المنقول إليه قريبا محتاجا، وقد نص عليه الحنفية(28)واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية(29)، وقد استدلوا لذلك بما جاء في فضل الصدقة على القريب المحتاج، ومن ذلك في حديث زينب امرأة ابن مسعود(30) أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن قالت فرجعت إلى عبدالله فقلت إنك رجل خفيف ذات اليد وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزي عني و إلا صرفتها إلى غيركم قالت فقال لي عبدالله بل ائتيه أنت قالت فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة قالت فخرج علينا بلال فقلنا له ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن قالت فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من هما؟ فقال امرأة من الأنصار وزينب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الزيانب؟ قال امرأة عبدالله فقال له رسول الله عليه وسلم لهما أجران أجر القرابه أجر الصدقة"(31)
3-أن تنقل الزكاة من بلدها إلى من هو أنفع للمسلمين من الفقراء، كأهل العلم وطلبته، فقد نص الحنفية(32) والمالكية على مشروعية نقل الزكاة لهم لفضلهم ونفعهم للمسلمين.
فيتبن مما تقدم مشروعية توزيع الزكاة في البلد الذي جمعت فيه، ويجوز نقلها إلى بلد آخر وفق الضوابط التالية:
1- وجود مسوغ شرعي يقدره أهل الاجتهاد، كما تقدمت الإشارة لبعض صوره.
2- عدم نقل الزكاة كلها من البلد مادام فيها مستحق، وإنما ينقل جزء منها؛ لأحقية أهل البلد بها، مع جواز نقل المالك لجميع زكاته عند وجود المقتضي؛ لأنها جزء من زكاة البلد.
كون الطريق مأمونا؛ لأن الزكاة مستحقة للغير، فلا يجوز المخاطرة في تضييعها، فإن خاطر بذلك وضاعت أو تلفت ضمنها.(33)
.
(1) وقد اختلف الفقهاء في المراد بالموطن الزكوي، فذهب الحنفية إلى أنه بلد الوجوب، وأما جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة فالموطن الزكوي عندهم: هو البلد وما بقربه من القرى والسواد مما هو دون مسافة القصر، لأنه في حكم بلد واحد بدليل أن أحكام السفر تختص بتلك المسافة. ويناقش: بأننا لا نسلم باختصاص أحكام السفر بمسافة معينة بل هو راجع للعرف، ثم لوسلم فلا يلزم منه تحديد موطن الزكاة.
ولأن من كان الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة يعتبر من حاضري الحرم.
واختار ابن تيمية أن المراد بالموطن الزكوي هو الإقليم فلا تنقل الزكاة من إقليم إلى إقليم، وتنقل من نواحي الإقليم، وإن كان بينها أكثر من مسافة القصر حيث نقل عنه البعلي: "إذا نقل الزكاة إلى المستحقين بالمصر الجامع: مثل أن يعطي من بالقاهرة من العشور- زكاة الخارج من الأرض -التي بأرض مصر فالصحيح جواز ذلك، فإن سكان المصر إنما يعانون من مزارعهم، بخلاف النقل من إقليم إلى إقليم مع حاجة أهل المنقول، وتحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي" وهذا هو الراجح؛ لأن الإقليم أو المصر الجامع في حكم البلد الواحد مهما تباعدت نواحيه. ينظر: الجوهرة النيرة1/131، التاج والإكليل2/359، مغني المحتاج 4/191، الفروع2/560. الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية(147).
(2) وهو قول الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة خلافا للمالكية، لأن سبب وجوب الزكاة هو المال بدليل قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها "، ولأن الزكاة تجب في مال الصغير والمجنون مع أنهما ليسا من أهل التكليف والخطاب.ينظر: بدائع الصنائع 2/75، حاشية رد المحتار 2/355، حاشية الدسوقي1/501، منح الجليل1/96، مغني المحتاج2/124، المغني 4/131.مطالب أولي النهى2/128.
(3)ينظر: المراجع السابقة.
(4)ينظر: الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام (589)حيث قال فيه: "والعلماء اليوم مجمعون على هذه الآثار كلها، أن أهل كل بلد من البلدان أو ماء من المياه، أحق بصدقتهم مادام فيهم من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك، وإن أتى على جميع صدقتها، حتى يرجع الساعي ولا شيئ معه منها". وانظر الجوهرة النيرة 1/132، حاشية الدسوقي1/501، منح الجليل2/107، مغني المحتاج2/124، أسنى المطالب 1/403، المغني4/132، كشاف القناع2/ 264.
(5) ينظر: المراجع السابقة.
(6) مواهب الجليل2/359، حاشية الدسوقي1/501،
(7) مغني المحتاج 4/191، حاشيتا قليوبي وعميره3/204، وقيد الشافعية ذلك بما إذا لم يفرقها الإمام وأما إذا فرقها الإمام أو الساعي فيجوز نقلها في الأصح، لأن الزكوات كلها في يد الإمام كزكاة واحدة وكذا الساعي،
(8) الفروع2/560، كشاف القناع2/263.
(9) وقد خص الحنفية ذلك بما يكون عند تمام الحول، فأما قبل تمامه فلا يكره مطلقا، ينظر: فتح القدير 2/279، البحر الرائق 2 / 269.
(10)تقدم تخريجه.
(11)المغني 4/131.
(12) عمدة القاري8/236.
(13) حاشية الجمل4/119.
(14) رواه أبو عبيد في الأموال.
(15) قال في المصباح المنير (180): " المخلاف: بكسر الميم بلغة اليمن الكورة والجمع المخاليف، واستعمل على مخاليف الطائف أي: نواحيه وقيل في كل بلد مخلاف أي: ناحية ".
(16) رواه البيهقي كتاب الزكاة، باب من قال لا يخرج صدقة قوم منهم من بلدهم وفي بلدهم من يستحقها، برقم: (12920)، وصحح اسناده الحافظ في التخليص (3/114)، وقال الألباني في تمام المنة ص: (385)، رواه الأثرم في سننه قلت: هذا منقطع بين طاوس ومعاذ فإنه لم يسمع منه كما قال الحافظ في متن آخر تقدم تحت عنوان: " دفع القيمة بدل العين " وهذا أخرجه ابن زنجويه (1193) نحوهثم قال المؤلف: " فعن عمرو بن شعيب أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو عبيد هذا الإسناد منقطع فإن عمرو بن شعيب لم يدرك معاذا وبين وفاتيهما مائة سنة.
(17)المغني 4/131.
(18) المغني 4/131.
(19) ينظر الجوهرة النيرة 1/131 وقد قال فيه مستدلاً: " لأن فيه رعاية حق الجوار، فمهما كانت المجاورة أقرب كان رعايتها أوجب، فإن نقلها إلى غيرهم أجزأه وإن كان مكروها؛ لأن المصرف مطلق الفقراء بالنص".
(20) المرجع السابق. و قد قال فيه أبوبكر العبادي مستدلاً: لأن فيه رعاية حق الجوار، فمهما كانت المجاورة أقرب كان رعايتها أوجب، فإن نقلها إلى غيرهم أجزأه وإن كان مكروها؛ لأن المصرف مطلق الفقراء بالنص.
(21) ابن زنجويه: حميد بن زنجويه الحافظ الأزديّ. مولده في حدود سنة (180هـ) روى عنه أبو داود والتِّرمذيّ، وصنَّف كتاب الأموال وكتاب التَّرغيب والتَّرهيب. وكان ثقة إماماً كبير القدر. قال أبو حاتم: الذي أظهر السُّنَّة بنسا. توفي سنة (251). [ينظر: سير أعلام النبلاء (12/20) الوافي بالوفيات (4/332)].
(22) الأموال3/1196.
(23) الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية(148).
(24) ينظر الجوهرة النيرة1/131.
(25) حاشية الدسوقي1/501، شرح مختصر خليل للخرشي2/220.
(26) الإنصاف7/171.
(27) رواه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تراحم المسلمين وتعاطفهم وتعاضدهم (2586).
(28) ينظر الجوهرة النيرة1/131.
(29) الإنصاف7/171.
(30)زينب امرأة ابن مسعود: اختلف في زينب فقيل أنها ريطة بنت عبد الله بن معاوية الثقفية، وقيل زينب بنت عبد الله الثقفية، وقيل زينب بنت أبي معاوية، وقيل زينب بنت معاوية وهذا الذي أثبته ابن حجر، وهي بنت معاوية بن عتاب بن الأسعد بن غاضرة بن حطيط بن قسي، اشتهرت بواقعة الزكاة على الزوج المعسر، ولها أحاديث أخرى. [ ينظر: الاستيعاب (2/97، 100)، الإصابة (1/33) ].
(31) سبق تخريجه كتاب الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين برقم: (1000) وهذا لفظ مسلم
(32)رد المحتار على الدر المختار 2/354.
(33) ينظر نقل الزكاة من موطنها الزكوي1/466 ضمن أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة.
[/align]
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن أهل كل بلد أولى بصدقتهم من غيرهم.(4)
كما اتفقوا على مشروعية نقل الزكاة من موضعها إذا استغنى أهل ذلك الموضع عن الزكاة كلها أو بعضها.(5)
و اختلفوا في حكم نقلها إذا كان في البلد مستحق لها على أقوال:
القول الأول: لا يجوز نقل الزكاة عن البلد الذي وجبت فيه، و هو قول الجمهور من المالكية،(6)والشافعية(7) و الحنابلة(8).
القول الثاني: يكره نقل الزكاة عن البلد الذي وجبت فيه لغير قريب وأحوج، و هو قول الحنفية(9).
أدلة القولين:
أدلة القول الأول:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً- رضي الله عنه - إلى أهل اليمن، قال له:(فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم)(10).
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم بين أن الزكاة تؤخذ من أغنياء البلد فترد في فقرائه كما يفيده الضمير في قوله: (فقرائهم). وهذا يعم زكاة المال والفطر.(11)
ونوقش: بأن الضمير في (فقرائهم) يعود على المسلمين جميعا.(12)
وأجيب: بأن معاذاً أمر بأخذ الصدقة من أهل اليمن وردها فيهم، ولم يؤمر بأخذها من عموم ا لمسلمين، فالضمير لمعهود وهو أهل البلد المذكور.(13)
2- أن عمر بن الخطاب أنكر على معاذ لما بعث إليه بثلث صدقة الناس، وقال له: (لم أبعثك جابياً، ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم). فقال معاذ: (ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني…)(14).
3- ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كتب: (من خرج من مخلاف(15) إلى مخلاف، فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته).(16)
وجه الدلالة: أن معاذا رضي الله عنه جعل مكان الصدقة هو مكان الأهل والمال، ولم يجعل لمن خرج عنهما نقل زكاة ماله حيث خرج. (17)
4- أن فقراء البلد قد اطلعوا على أموال الأغنياء، وتعلقت بها أطماعهم، والنقل يوحشهم، فكان الصرف إليهم أولى.(18)
أدلة القول الثاني:
1-استدلوا بأدلة القول الأول، وحملوا الكراهة على التنزيه؛ لأن المصرف هو مطلق الفقراء، وهو يصدق على أهل البلد وغيرهم(19).
2-رعاية حق الجوار في دفعها لأهل البلد دون نقلها لغيرهم من الأبعدين(20).
الترجيح: يظهر مما تقدم أن الأصل توزيع الزكاة في بلد جمعها لقوة أدلة القول الأول، ولما في ذلك من تحقيق التكافل الاجتماعي، ودفع الضغينة بين الفقراء والأغنياء، ولما فيه من تحقيق الاكتفاء الذاتي من كل إقليم وناحية، فلا يحتاجون إلى غيرهم مما يدفع عنهم مشقة استتباع الغير والركون إليهم.
إلا أن ذلك لا يمنع من نقل الزكاة والخروج عن الأصل إذا رأى أهل الاجتهاد تقرير ذلك، قال ابن زنجويه(21): السنة عندنا أن الأمام يبعث على صدقات كل قوم من يأخذها من أغنيائهم ويفرقها في فقرائهم غير أن الإمام ناظر للإسلام وأهله، والمؤمنون أخوة، فإن رأى أن يصرف من صدقات قوم لغناهم عنها إلى فقراء قوم لحاجتهم إليها فعل ذلك على التحري والاجتهاد (22).
و قد أفتى بنحو ذلك شيخ الإسلام حيث نص على جواز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية(23).
ومن صور تلك المصلحة التي يجوز نقل الزكاة لأجلها:
1-أن يكون فقراء البلد الآخر أشد حاجة، وقد نص على ذلك الحنفية(24) والمالكية(25)، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية(26). فيجوز نقل الزكاة إليهم؛ لأن المقصود من الزكاة سد خلة الفقير فمن كان أحوج كان أولى، ويؤيد ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد"(27).
2-أن يكون المنقول إليه قريبا محتاجا، وقد نص عليه الحنفية(28)واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية(29)، وقد استدلوا لذلك بما جاء في فضل الصدقة على القريب المحتاج، ومن ذلك في حديث زينب امرأة ابن مسعود(30) أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن قالت فرجعت إلى عبدالله فقلت إنك رجل خفيف ذات اليد وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزي عني و إلا صرفتها إلى غيركم قالت فقال لي عبدالله بل ائتيه أنت قالت فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة قالت فخرج علينا بلال فقلنا له ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن قالت فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من هما؟ فقال امرأة من الأنصار وزينب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الزيانب؟ قال امرأة عبدالله فقال له رسول الله عليه وسلم لهما أجران أجر القرابه أجر الصدقة"(31)
3-أن تنقل الزكاة من بلدها إلى من هو أنفع للمسلمين من الفقراء، كأهل العلم وطلبته، فقد نص الحنفية(32) والمالكية على مشروعية نقل الزكاة لهم لفضلهم ونفعهم للمسلمين.
فيتبن مما تقدم مشروعية توزيع الزكاة في البلد الذي جمعت فيه، ويجوز نقلها إلى بلد آخر وفق الضوابط التالية:
1- وجود مسوغ شرعي يقدره أهل الاجتهاد، كما تقدمت الإشارة لبعض صوره.
2- عدم نقل الزكاة كلها من البلد مادام فيها مستحق، وإنما ينقل جزء منها؛ لأحقية أهل البلد بها، مع جواز نقل المالك لجميع زكاته عند وجود المقتضي؛ لأنها جزء من زكاة البلد.
كون الطريق مأمونا؛ لأن الزكاة مستحقة للغير، فلا يجوز المخاطرة في تضييعها، فإن خاطر بذلك وضاعت أو تلفت ضمنها.(33)
.
(1) وقد اختلف الفقهاء في المراد بالموطن الزكوي، فذهب الحنفية إلى أنه بلد الوجوب، وأما جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة فالموطن الزكوي عندهم: هو البلد وما بقربه من القرى والسواد مما هو دون مسافة القصر، لأنه في حكم بلد واحد بدليل أن أحكام السفر تختص بتلك المسافة. ويناقش: بأننا لا نسلم باختصاص أحكام السفر بمسافة معينة بل هو راجع للعرف، ثم لوسلم فلا يلزم منه تحديد موطن الزكاة.
ولأن من كان الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة يعتبر من حاضري الحرم.
واختار ابن تيمية أن المراد بالموطن الزكوي هو الإقليم فلا تنقل الزكاة من إقليم إلى إقليم، وتنقل من نواحي الإقليم، وإن كان بينها أكثر من مسافة القصر حيث نقل عنه البعلي: "إذا نقل الزكاة إلى المستحقين بالمصر الجامع: مثل أن يعطي من بالقاهرة من العشور- زكاة الخارج من الأرض -التي بأرض مصر فالصحيح جواز ذلك، فإن سكان المصر إنما يعانون من مزارعهم، بخلاف النقل من إقليم إلى إقليم مع حاجة أهل المنقول، وتحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي" وهذا هو الراجح؛ لأن الإقليم أو المصر الجامع في حكم البلد الواحد مهما تباعدت نواحيه. ينظر: الجوهرة النيرة1/131، التاج والإكليل2/359، مغني المحتاج 4/191، الفروع2/560. الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية(147).
(2) وهو قول الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة خلافا للمالكية، لأن سبب وجوب الزكاة هو المال بدليل قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها "، ولأن الزكاة تجب في مال الصغير والمجنون مع أنهما ليسا من أهل التكليف والخطاب.ينظر: بدائع الصنائع 2/75، حاشية رد المحتار 2/355، حاشية الدسوقي1/501، منح الجليل1/96، مغني المحتاج2/124، المغني 4/131.مطالب أولي النهى2/128.
(3)ينظر: المراجع السابقة.
(4)ينظر: الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام (589)حيث قال فيه: "والعلماء اليوم مجمعون على هذه الآثار كلها، أن أهل كل بلد من البلدان أو ماء من المياه، أحق بصدقتهم مادام فيهم من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك، وإن أتى على جميع صدقتها، حتى يرجع الساعي ولا شيئ معه منها". وانظر الجوهرة النيرة 1/132، حاشية الدسوقي1/501، منح الجليل2/107، مغني المحتاج2/124، أسنى المطالب 1/403، المغني4/132، كشاف القناع2/ 264.
(5) ينظر: المراجع السابقة.
(6) مواهب الجليل2/359، حاشية الدسوقي1/501،
(7) مغني المحتاج 4/191، حاشيتا قليوبي وعميره3/204، وقيد الشافعية ذلك بما إذا لم يفرقها الإمام وأما إذا فرقها الإمام أو الساعي فيجوز نقلها في الأصح، لأن الزكوات كلها في يد الإمام كزكاة واحدة وكذا الساعي،
(8) الفروع2/560، كشاف القناع2/263.
(9) وقد خص الحنفية ذلك بما يكون عند تمام الحول، فأما قبل تمامه فلا يكره مطلقا، ينظر: فتح القدير 2/279، البحر الرائق 2 / 269.
(10)تقدم تخريجه.
(11)المغني 4/131.
(12) عمدة القاري8/236.
(13) حاشية الجمل4/119.
(14) رواه أبو عبيد في الأموال.
(15) قال في المصباح المنير (180): " المخلاف: بكسر الميم بلغة اليمن الكورة والجمع المخاليف، واستعمل على مخاليف الطائف أي: نواحيه وقيل في كل بلد مخلاف أي: ناحية ".
(16) رواه البيهقي كتاب الزكاة، باب من قال لا يخرج صدقة قوم منهم من بلدهم وفي بلدهم من يستحقها، برقم: (12920)، وصحح اسناده الحافظ في التخليص (3/114)، وقال الألباني في تمام المنة ص: (385)، رواه الأثرم في سننه قلت: هذا منقطع بين طاوس ومعاذ فإنه لم يسمع منه كما قال الحافظ في متن آخر تقدم تحت عنوان: " دفع القيمة بدل العين " وهذا أخرجه ابن زنجويه (1193) نحوهثم قال المؤلف: " فعن عمرو بن شعيب أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو عبيد هذا الإسناد منقطع فإن عمرو بن شعيب لم يدرك معاذا وبين وفاتيهما مائة سنة.
(17)المغني 4/131.
(18) المغني 4/131.
(19) ينظر الجوهرة النيرة 1/131 وقد قال فيه مستدلاً: " لأن فيه رعاية حق الجوار، فمهما كانت المجاورة أقرب كان رعايتها أوجب، فإن نقلها إلى غيرهم أجزأه وإن كان مكروها؛ لأن المصرف مطلق الفقراء بالنص".
(20) المرجع السابق. و قد قال فيه أبوبكر العبادي مستدلاً: لأن فيه رعاية حق الجوار، فمهما كانت المجاورة أقرب كان رعايتها أوجب، فإن نقلها إلى غيرهم أجزأه وإن كان مكروها؛ لأن المصرف مطلق الفقراء بالنص.
(21) ابن زنجويه: حميد بن زنجويه الحافظ الأزديّ. مولده في حدود سنة (180هـ) روى عنه أبو داود والتِّرمذيّ، وصنَّف كتاب الأموال وكتاب التَّرغيب والتَّرهيب. وكان ثقة إماماً كبير القدر. قال أبو حاتم: الذي أظهر السُّنَّة بنسا. توفي سنة (251). [ينظر: سير أعلام النبلاء (12/20) الوافي بالوفيات (4/332)].
(22) الأموال3/1196.
(23) الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية(148).
(24) ينظر الجوهرة النيرة1/131.
(25) حاشية الدسوقي1/501، شرح مختصر خليل للخرشي2/220.
(26) الإنصاف7/171.
(27) رواه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تراحم المسلمين وتعاطفهم وتعاضدهم (2586).
(28) ينظر الجوهرة النيرة1/131.
(29) الإنصاف7/171.
(30)زينب امرأة ابن مسعود: اختلف في زينب فقيل أنها ريطة بنت عبد الله بن معاوية الثقفية، وقيل زينب بنت عبد الله الثقفية، وقيل زينب بنت أبي معاوية، وقيل زينب بنت معاوية وهذا الذي أثبته ابن حجر، وهي بنت معاوية بن عتاب بن الأسعد بن غاضرة بن حطيط بن قسي، اشتهرت بواقعة الزكاة على الزوج المعسر، ولها أحاديث أخرى. [ ينظر: الاستيعاب (2/97، 100)، الإصابة (1/33) ].
(31) سبق تخريجه كتاب الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين برقم: (1000) وهذا لفظ مسلم
(32)رد المحتار على الدر المختار 2/354.
(33) ينظر نقل الزكاة من موطنها الزكوي1/466 ضمن أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة.
[/align]
المرفقات
1091.doc