نعمة البصر ... هل تُشكر أم تُكفر

مريزيق بن فليح السواط
1433/06/26 - 2012/05/17 23:36PM

إن الحمد الله

عباد الله:
نعم الله على عباده كثيرة، وألآئه عليهم عظيمة، مختلفة الأشكال، متنوعة الأحوال، لا يُقدر على إحصائها، ولا يُستطاع شكرها، ولا يَستغني أحد عنها، ومن أجل هذه النعم وأشرفها نعمة البصر، التي يبصر بها الإنسان ماحوله، ويمارس بها حياته، قال تعالى: "والله أخرجكم من بطون أُمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئده لعلكم تشكرون" وقال سبحانه: "قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والبصر والافئدة قليلا ماتشكرون " فَحقُّ هذه النعمة شكر المولى عليها، بإستعمالها في طاعته ومرضاته، وإمتثال إمره فيها، ومن فرط في ذلك حوسب يوم العرض عليها، وسُئل يوم القيامة عنها، قال تعالى: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا".

العين التي نبصر بها أمانة حدد الله لها طريقا ترتسمه، وجعل لها مسارا تسلكه، وصرفها عن هذا الطريق خيانة، قال تعالى: "يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور" وفَقْدُ البصر يكون عقوبة من الله على ما أحدث العبد، قال تعالى: "قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به أنظر كيف نصرف الأيات ثم هم يصدفون" وقد يكون فَقْدُ البصر إبتلاء من الله، ليرى صبر عبده قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: "إن ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة" فهي أحب أعضاء الإنسان إليه، ويحصل لها بفقدها من الأسى على رؤية ما يحب من الخير، وتجنب ما يضر من الشر الشئ الكثيرا.

عباد الله:
العين التي نُبصر بها تبدو صغيرة الحجم، ضئيلة الجِرم، لكنها في الحقيقة خلق عجيب، معقدة التركيب، لا تستطيع قوى البشر في هذا العصر الذي بلغت فيه الحضارة مبلغا عظيما، وأغتر الناس بمخترعاتهم واكتشافتهم أن يخلقوا مثلها، أو يوجدوا ما هو قريب منها "صنع الله الذي أتقن كل شيء" نعم. لقد أخترعوا ما يُفسد العين والأُذن، ويَصُدُّها عن طاعة الله، لكنهم وقفوا عاجزين عن وصفها، وكيفية عملية الإبصار بها، يقول أحد المختصين: في العين ثلاثون شريانا مغذيَّا، وثلاثة أعصاب محركة، وعصب ينقل الحس، وعصب آخر ينقل المُبْصرات عبر شريط يضُم نصف مليون ليف، وهذه الألياف تنقل المبصرات من مائة وأربعين مليون عُصاة، وسبعة ملايين مخروط، ملايين من الأعصاب والخلايا في عينك وأنت ماتشعر!!! "هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين" سبحان من خلق فأبدع، وصور فأحسن "فتبارك الله أحسن الخالقين" وقال تعالى: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون".

العين مما يشهد عليك بما كسبت يوم القيامة قال تعالى: "ويومَ يُحشرُ أعداءُ الله إلى النار فهم يُوزعون. حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعُهُم أبصارهم جُلُدُهم بما كانوا يعملون".

أيها المسلمون:
أعظم نعيم يُعطاه أهل الجنة نعيم رؤية الله تبارك وتعالى، ولا شيء من النعيم يدانيه أو يقرب منه نسأل الله العظيم من فضله، وهو ما يدل على شرف البصر وفضله، إذ به تتحقق هذه الكرامة لأهل الجنة، قال تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة " وفي صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنةِ الجنة قال الله تبارك وتعالى: أتريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أُعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل"

أعلى النعيم نعيمُ رؤيتِ وجهه*وخطابه في جنة الحيوان
وأشد شئ في العذاب حجابه*سبحانه عن ساكن النيران
وإذا رآه المؤمنون نسوا الذي* هم فيه مما نالت العينان
فإذا توارى عنهُمُ عادوا إلى*لذاتهم من سائر الألوان
ولله مافي هذه الدنيا ألذُّ من*إشتياق العبد للرحمن
وكذاك رؤية وجهه سبحانه*هي أكمل اللذات للإنسان


عباد الله:
البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأهم طُرق الحواس إليه، به يتأجج لهيب الشهوة، وتقوى في النفس الرغبة، ولذلك أمر الله عز وجل المؤمنين بغضِّ أبصارهم قال تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم" فبدأ بغض البصر قبل حفظ الفرج، لأن البصر سبيل للقلب، وطريق إليه:
ألم تر أن العين للقلب رائد*فما تألف العينانِ فالقلب آلف
فقدم غض البصر على حفظ الفرج، لأن النظر بريد الزنا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل كتب على بن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لامحالة، فالعين تزني وزناها النظر، واللسان يزني وزناه النطق، والرجل تزني وزناها الخطى، واليد تزني وزناها البطش، والقلب يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" فبدأ بزنا العين لأنه أصل زنا اليد والرجل والقلب والفرج، وهذا الحديث فيه دلالة واضحة على أن العين تعصي بالنظر، وأن ذلك زناها.

ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغض البصر عما حرم الله، قال جرير بن عبدالله: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفُجأة فأمرني أن أصرف بصري، ونظر الفُجأه أن يقع النظر على امرآة أجنبية، أو غلام أمرد، بغير قصد، فإذا جاءت فجأة أمام عينيه فعليه أن يغض بصره، ولا يديم النظر إليها، لأن ذلك يؤثر على القلب، ويفتح باب الشهوة المحرمة، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية" يقولها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه مع علم النبي صلى الله عليه وسلم بكمال زهد علي، وورعه وعفة ظاهره وباطنه، فكيف بمن دونه؟؟ وكيف بمن إذا قلت له أغضض بصرك؟؟ غضب من قولك، وعد ذلك تدخلا في
خصوصياته، واتهاما له.

هذه الأداب الكريمة من غض البصر، والتحذير من إطلاقه، إنما هي لعلل سامية، وأهداف رفيعة، وحصانة سابقة، ترجع في مجموعها إلى إقامة مجتمع نظيف عفيف، لا تهاج فيه شهوة، ولا تُستثار فيه أمور محرمة، يضاف إليها ما جأت به الشريعة من توجيهات كثيرة، وأداب عديدة، لحفظ المجتمع، وصيانة النفس، والحيلولة بينها وبين الوقوع في المعاصي والفواحش، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إياكم والجلوس على الطرقات" فقالوا: مجالسنا يا رسول الله مالنا منها بُد؟؟ وحاشاهم أن يعترضوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أسرع الناس إستجابة لأمره، وامتثالا لقوله، لكنّ بيوتهم الضيقة، وقلة ذات يدهم، تحول بين لقائهم فلايجدون مكانا واسعا إلا الطرقات، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن أبيتم فأعطوا الطريق حقه" فقالوا وما حقه يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فبدأ بغض البصر، لصعوبة غضه، وكثرت المارَّة من النساء وغيرهم!! هذا في الطريق فإذا جاء بيته فإنه يستأذن، لئلا ينظر الى أمر لا يرغب فيه، كما يفعل ذلك كثير من الناس عند الدخول على المدراء والمسؤلين، يقرع الباب قبل الدخول!! لو دخل بدون قرع الباب طرده المدير ووبخه!! لكن في بيته يفتح الباب ويدخل مباشرة، وقد تكون الزوجة أو البنت، على حال لا تحب أن ترى عليها، قال رجل لابن مسعود رضي الله عنه: أأستأذن على أمي؟؟ فقال له: ما على كل أحيانها تريد أن تراها. ولما قال رجل لحذيفة رضي الله عنه: أَستأذِنُ على أمي؟؟ قال: إن لم تستأذن رأيت ماتكره!! وكان بن عمر رضي الله عنهما إذا بلغ ولده الحُلُم لم يدخل عليه إلاّ بإذن. ومن الأداب المرعية، والطرق الشرعية لمن جاء وإذا عند باب أن لا يقف أمام الباب، ويجعله تلقاء وجهه، بل يقف عن يمينه أو يساره، لئلا يقع البصر على أمر لايجوز، كان النبي صلى الله عليه وسلم اذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه ويقول: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" وبين عليه الصلاة والسلام السبب في الإستئذان فقال: "إنما جعل الإستئذان من أجل البصر" قال تعالى: "يأيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بُيُوتكم حتى تسْتَأنسوا وتُسلموا على أهلها ذلكم خيرٌ لكم لعلكم تذكرون".

الحمد الله على إحسانه...

النظر إلى ماحرم الله أصل كل فتنة، ومنجم كل بلية، ورائد كل شهوة، كم قد أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد، قال بن مسعود رضي الله عنه: الإثم حوَّاز القلوب -أي يحز في القلب- ما من نظرة ألا للشيطان فيها مطمع.

النظر سهم مسموم، والسهم يسري في القلب فيعمل في الباطن قبل أن يُرى الظاهر، ومن سرح ناظره، أتعب خاطره، ومن كُثرت نظراته، دامت حسراته
كل الحوادثِ مبدأها من النظر
ومُعظم النار من مستصغر الشررِ
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها
فعل السهام بلا قواس ولا وترِ
والمرء مادام ذا عينٍ يُقلبها
في أعين الغيد موقوف على الخطرِ
يَسُر مُقْلتَهُ ما ضر مُهجته
لا مرحبا بسرور عاد بالضررِ

النظر إلى النساء والمردان سهم، والسهم إذا لم يقتل جرح، قال الأصمعي: رأيت جارية في الطواف كأنها مُهاة، فجعلت أنظر إليها، وأملأُ عيني من محاسنها، فقالت لي يا هذا: ما شأنك؟ فقلت: وما عليك من النظر!! فأَنْشأتْ تقول:
وكنت متى أرسلتَ طرفك رائدا
لقلبك يوما أتعبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه انت صابر

النظر سهم مسموم، وفعل مذموم، هو رأسُ كل بلية، وأساس كل رزية، في مبدئه يمكن إستدراكه، وأسيره يُرجى فكاكه، فإذا تكرر أدى إلى الهلاك، وصعب منه الخلاص والفكاك، ينظر إلى امرأة أجنبية، أو غلام أمرد فلا يقدر على الوصول إليهم، ولا يستطيع الصبر عنهم، فينقطع قلبه حسرة وتوجعا، وعينه دموعا وحزنا، ينظر ليشبع غريزته، ويقضي شهوته، فلا يتحقق له شيء من مراه، بل يزداد مرضا على مرضه، وحسرة على حسرته
يا راميا بسهام اللَّحظ مُجتهدا
أنت القتيل بما ترمي فلا تُصبِ
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له
إحبس رسولك لا يأتيك بالعطبِ

الشريعة جأت بالحجاب، ونهت عن الخلوة والإختلاط، وأمرت بغض البصر، لمصلحة العباد، "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرآة إلى عورة المرآة" قال سلمان رضي الله عنه: لأن أموت ثم أحيا، أحب إليَّ من أن أرى عورة مسلم أو يراها مني.

الشريعة أمرت بالزواج، ورغبت في الصيام لمن لا يقدر على الزواج "يا معشر الشباب من إستطاع مُنكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" بل حتى المتزوج إذا رآى ما يُثير شهوته، ويُحرك للمرآة رغبته، ففي الشريعة تدابير واقية، وإجرآءت ملزمة، كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا يوما مع أصحابه، فقام ودخل بيته، ثم خرج عليهم وقد اغتسل، فقال الصحابة: يا رسول الله قد كان شئ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أجل مرّت بي فلانة فوقع في قلبي شهوة النساء فأتيت بعض أزواجي" ونظر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عمدا، وإنما حصل فجأة، وهو بأبي وأمي أ،زه وأكرم وأرفع شأنا من أن تثور شهوته لأمر محرم وإنما فعل ذلك لكمال إعفاف نفسه، وتعليمِ أمته ماذا تفعل إذا نظر أحدهم إلى امرآة فأعجبته؟؟ "إن المرآة تُقبل في صورة شيطان، وتُدبر في صورة شيطان، فإذا رآى أحدكم إمرآة فأعجبته فليأتي أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه".

الشريعة منعت إتيان أماكن الفساد، وشهود مجالس الفجور، ونحن في هذا الزمن أمام كم هائل من الأجساد التي تعرت، والأجسام التي تكشّفت في الأسواق والحدائق، فرئينا القصير والضيق والشفاف، ورئينا النقاب الواسع الذي يبرز العيون والخدود، هذا في شوارعنا، وأماكن بيعنا وشرائنا، أما الشاشات، والقنوات الفضائية التي دخلت كل بيت من بيوتنا، فستجد فيها ما يُذهب الحياء، ويهدم الدين، نساء عاريات، وشبه عاريات، على ضفاف الأنهار، وشواطئ البحار، فلابد من غض البصر، وحبس النظر.

كم هو مؤسف والله، ما نشاهده من إطلاق البصر في النساء العاملات بالمستشفيات، وموظفات الإستقبال في المستوصفات، والبائعات في بعض المحلات، يقف الرجل أمام هذه المرآة ويُصوِّب بصره إليها، ويتحدث بكل جرأة معها، وكأن الذي أمامه رجل وليس أنثى، يَرى أن غض بصره عند الحديث معها قلة أدب، وكسر لخاطر هذه المرآة، ويظن أن المرآة التي يجب عليه غض بصره عنها من تعرت من ملابسها، وكشفت كل مفاتنها، فيا لله العجب من سوء تفكير بعضنا، وبُعدنا عن هدي شريعتنا، كان سلف هذه الأمة لهم شأن عظيم في غض أبصارهم، وفي زمن الطهر والعفة، قال محمد بن عبد العزيز: جلسنا إلى أحمد بن رُزين من غُدوِّه إلى العصر فما التفت يمنة ولا يسرة، فقيل له في ذلك؟ فقال: إن الله عز وجل خلق العينين ليَنظر بها العبد إلى عظمة الله فكل من نظر بغير إعتبار كتبت عليه خطيئة. وقال سعيد بن المُسيّب ما يأس الشيطان من شئ ألا أتاه من قبل النساء، وكان وهو بن ثمانين سنة قد ذهب ضوء إحدى عينيه وهو يَعشو بالثانية، يقول: ما من شئ أخوف عندي من النساء. ويقول عمربن مُرة: نظرت إلى أمرآة فأعجبتني فَكُفَّ بصري، فأرجو أن يكون ذلك كفرة لي. فكيف بزمننا الذي عمت فيه الفتن؟ وانتشرت المحن؟ يقول وكيع بن الجراح: خرجنا مع سفيان يوم العيد فقال: أول ما نبداء به في يومنا غض أبصارنا. ويقول بن سيرين: والله ما نظرت إلى غير أم عبد الله -زوجته- في يقظة ولا منام!! وأني لأرى المرآة في المنام فأذكر أنها لا تَحلُّ لي فأصرف بصري عنها. يا ليتنا في يقظتنا كابن سيرين في منامه!!.
المشاهدات 5843 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


أسعدك الله أخي شبيب وجزاك عن أهل هذه الشبكة وخطبائها خير الجزاء
قد ترد بعض الأخطاء فليت الأحبة ينبهون عليها سواء كانت أملائية أو لغوية أو غيرها
تصحيح للآية في أول الخطبة "قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون" فقد وقع الخطأ في كلمة البصر غفر الله لي ولكم وعفا عنا انه عفو غفور.