نِعْمَةُ الأَمْنِ وَبَعْضُ أَسْبَابِ حِفْظِهِ
مبارك العشوان 1
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيْهِ، وَنَعُوْذُ بِهِ تَعَالَى مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أيُّهَا النَّاسُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عِبَادَ اللهِ: الأَمْنُ وَالِاسْتِقْرِارُ؛ نِعْمَةُ لَا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ؛ يَومَ أَنْ يَأمَنَ المَرْءُ عَلَى دِينِهِ، وَنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَعِرْضِهِ، وَعَقْلِهِ وَمَالِهِ.
مَعَ الْأَمْنِ يَهْنَأُ النَّاسُ بِعَيْشِهِمْ، وَيَتَّجِهُونَ لِمَصَالِحِ دِيْنِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَتَفَرَّغُونَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَيَتَلَذَّذُونَ بِهَا.
الْأَمْنُ مِنْ أَوْلَى مَطَالِبِ الحَيَاةِ، بَلْ هُوَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِهَا.
جَاءَ الأمْنُ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَقْرُونًا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ اللَّذَانِ لَا حَيَاةَ لِأَحَدٍ بِدُونِهِمَا، وَرُبَّمَا قُدِّمَ عَلَيْهِمَا؛ كَمَا دَعَا الْخَلِيلُ عَلَيهِ السَّلَامُ: { رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ }البقرة126 وَقَالَ تَعَالَى مُمْتَنًا بِالأَمْنِ: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ }العنكبوت67 وَقَالَ تَعَالَى: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ }قريش3-4.
وَلَا سَبِيلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَى تَحْقِيقِ الأَمْنِ لِلْأَشْخَاصِ وَالمُجْتَمَعَاتِ وَالدُّوَلِ؛ إِلَّا بِدِينِ الإِسْلَامِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ، لَا طَرِيقَ إِلَى الكَرَامَةِ وَالعِزِّ، وَلَا أمَلَ فِي التَّمْكِينِ وَالنَّصْرِ، وَلَا وِقَايَةَ مِنَ العُقُوبَاتِ؛ إلَّا بِالرُّجُوعِ حَقَّ الرُّجُوعِ إِلَى الدِّينِ، إلَّا بِالتَّسْلِيْمِ التَّامِّ لَهُ، إِلَّا بِالعَضِّ بِالنَّوَاجِذِ عَلَيهِ، وَالعَمَلِ بِتَعَالِيمِهِ، وَتَحْكِيمِهِ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ؛ وَمَنْ تَأَمَّلَ حَالَ العَرَبِ قَبْلَ الإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ عَرَفَ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }الأنفال26.
الأَمْنُ نِعْمَةٌ؛ وَحَقُّ النِّعَمِ أنْ تُشْكَرَ؛ وَإِذَا شَكَرَ العِبَادُ رَبَّهُمْ جَلَّ وَعَلَا عَلَى نِعَمِهِ؛ أَدَامَهَا عَلَيْهِمْ، وَزَادَهُمْ أَمْنًا وَاسْتِقْرَارًا، وَطُمَأْنِينَةً، وَإِنْ جَحَدُوهَا وَتَنَكَّرُوا لِمُعْطِيهَا جَلَّ وَعَلَا، وَبَدَّلُوا نِعْمَتَهُ كُفْرًا، وَبَارَزُوهُ بِالمَعَاصِي؛ حَلَّتْ بِهِمْ نِقَمُهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَزَلَتْ بِهِمُ النَّوَازِلُ، وَاخْتَلَّ أَمْنُهُمْ، وَأُحِيطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ؛ وَقَدْ جَاءَ هَذَا الوَاعِظُ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }النحل112
عِبَادَ اللهِ: مَنْ حَقَّقَ الإِيْمَانَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَبَذَ صَغِيرَ الشِّرْكِ وَكَبِيرَهِ، وَلَمْ يَخْلِطْ إِيْمَانَهُ بِشِرْكٍ فَهُوَ الآمِنُ المُهْتَدِي: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } الأنعام82 مَنْ حَقَّقَ إِيْمَانَهُ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ؛ فَهُوَ المَوعُودُ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ المُتَوَعَّدُ بِالعَذَابِ الأَلِيمِ: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } النور55 .
عِبَادَ اللهِ: وَكَمَا جَعَلَ اللهُ الأمْنَ فِي الإيمَانِ فَقَدْ جَعَلَ الخَوفَ فِي الشِّرْكِ؛ قَالَ تَعَالَى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً }الجن6.
جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عِبَادِهِ المُؤمِنِينَ الآمِنِينَ، وَوَفَّقَنَا لِلُزُومِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ؛ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِالثَّبَاتِ عَلَيهِ حَتَّى نَلْقَاهُ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيْمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيْهِ مِنَ الْآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيْمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيْلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ: أنَّ الإيمَانَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ كَمَا يُحَقِّقَانِ الأمْنَ مِنْ مَخَاوِفِ الدُّنْيَا؛ فَكَذَلِكَ يُحَقِّقَانِ الأمْنَ مِنْ مَخَاوِفِ الآخِرَةِ وَأهْوَالِهَا،: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }فصلت30 وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ }النمل89 وَقَالَ تَعَالَى: { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ }الأنبياء 103 وَقَالَ تَعَالَى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ } الحجر 45 – 46 وَقَالَ تَعَالَى: { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ }سبأ 37 وَقَالَ تَعَالَى:{ أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ }فصلت 40 نَسْأَلُ اللهَ الكَرِيمَ مِنْ فَضْلِهِ.
عِبَادَ اللهِ: ثُمَّ اعْلَمُوا أنَّ مِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّمَاتِ الأمْنِ اجْتِمَاعُ الكَلِمَةِ وَالِالْتِفَافُ حَولَ العُلَمَاءِ، وَطَاعَةُ وَلَاةِ الأمْرِ، وَتَحْكِيمُ الشَّرَيْعَةِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } النساء59
مِنْ مُقَوِّمَاتِ الأمْنِ: قِيَامُ الرَّاعِي بِحُقُوقِ رَعِيَّتِهِ وَقِيَامُهُمْ بِحَقِّهِ، مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ وَإِذَا قَامَ كُلٌ مِنَ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ بِمَا وَجَبَ عَلَيهِمْ، فَلْيُبْشِرُوا حِينَئِذٍ بِاسْتِتْبَابِ الأمْنِ، وَشُيُوعِ المَحَبَّةِ، وَوَحْدَةِ الكَلِمَةِ، وَالقُوَّةِ وَالمَهَابَةِ فِي نُفُوسِ الأعْدَاءِ؛ وَإِنْ فَرَّطُوا فِي ذَلِكَ سُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ؛ الوُلَاةُ بِأَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَإِهْمَالِ الحُقُوقِ، وَالرَّعِيَّةُ بِالمُخَالَفَةِ وَالتَّمَرُّدِ وَالسَّبِّ وَالبُغْضِ وَنَشْرِ الفَوْضَى.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ أنْ يَحْفَظَ لِهَذِهِ البِلَادِ وَسَائِرِ بِلَادِ المُسْلِمِينَ أَمْنَهُمْ وَإِيْمَانَهُمْ، وَأَنْ يَرُدَّ كَيْدَ الكَائِدِينَ فِي نُحُورِهِمْ.
ثُمَّ صَلُّوا رَحِمَكُمُ اللهُ وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } الأحزاب 56
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ وَعَلَيْكَ بِأَعْدَائِكَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ يَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُم وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.