نعمةاجتماع الكلمةوالأمن

محمد بن عبدالله التميمي
1446/03/17 - 2024/09/20 05:51AM

نعمة اجتماع الكلمة والأمن

الحمد لله ذي الفضائل العِظام، والنِّعم الجسام، أحده سبحانه وأشكره وهو ذو الفضل والإنعام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه عليه الصلاة والسلام، مَنْ قام في تبليغ دين الله خير قيام، بعثه الله على حينِ فترة من الرُّسُل وانطماسٍ من السُّبُل فقام وأنذر ودعا وبشَّر، فمَنْ كانوا أعداءً: ألَّف الله بينهم فأصبحوا بنعمة الله إخوانا، وكانوا على شفا حُفرةٍ من النار فأنقذهم منها فضلا منه وامتنانا، فله سبحانه الشكر وهو سبحانه القُدوسُ السلام، وعلى نبينا محمدٍ وأصحابه وأتباعه الصلاةُ والسلام، أما بعد:

فاتقوا الله عبادَ الله المؤمنين حَقَّ تُقَاتِهِ، واسعوا في تحقيق مرضاته، كلٌّ بقدر وُسْعِهِ واستطاعته، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} بِبَذْلِ كلِّ الجَهْد والطاقة؛ لِامتثال أوامرَ الله عزَّ وجلَّ واجتناب نواهيَه، وذلك قَدْرَ الاستطاعةِ، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: دُومُوا على التَّمسُّك بدِين الإسلام، وحافِظوا عليه حتى يأتيَكم الموتُ وأنتم على ذلك، فهذا أمرٌ بالتَّمسُّك بهذا الدِّين والثبات عليه والمحافظةَ عليه في حال الصِّحَّة والسَّلامة حتى يأتيَ الموتُ؛ فالمَدار على الخاتِمة.

ثمَّ لَمَّا أمَر الله تعالى عبادَه المؤمنين بالتَّقوى، أمَرَهم بما يُعِينهم عليها وهو الاعتصامُ بدِين الله، والاجتماعُ على كلمةِ الحقِّ والأُلفة، وعدمِ فِعْلِ ما يَدْعوا إلى الفُرْقة. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ففي الآية أمرُ اللهِ بالتَمسَّكِ بالدِين، وعهْدِه بالأُلفةِ والاجتماعِ على كلمةِ الحقِّ ولزومِ جماعة المسلمين، وعدم ارتكِاب ما يُفرِّق الجمْعَ عن هذا العهد والدِّين. كما قال تعالى ذِكره: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقال جلَّ وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وفي صحيح مسلم عن أبي هُرَيرَةَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «إنَّ اللهَ يرضَى لكم ثلاثًا، ويَكرهُ لكُم ثلاثًا، فيَرضَى لكُم: أنْ تَعبدوهُ، ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأنْ تَعتصِموا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تَفرَّقوا، ويَكرهُ لكم: قيلَ وقالَ، وكثرةَ السُّؤالِ، وإِضاعةَ المالِ».

ثم قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} أي: اذكُروا بقلوبِكم وألْسنتِكم- أيُّها المؤمنون- ما أَنعَم الله تعالى به عليكم من الأُلْفةِ والاجتماعِ على دِين الإسلام، فقد كنتُم من قبلِ اعتناقِكم الإسلامَ أعداءً مُتفرِّقين، يُقاتِل بعضُكم بعضًا، في غيرِ طاعةِ الله تعالى، فجَمع الله عزَّ وجلَّ بالإسلامِ قلوبَكم، فجعَل بعضَكم لبعضٍ إخوانًا مُتحابِّين، بلا ضغائنَ ولا أحقادٍ بينكم. ففي الآية: تذكير العبادِ نعمةَ الله تعالى في الأمور الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، بقلوبِهم وألْسنتهم؛ ليَزدادوا شكرًا له ومحبَّة، وليَزيدَهم من إحسانه وفَضْله، وإنَّ مِنْ أكبر نِعَم الله على الأُمَّة أنْ يؤلِّف بين قلوبِها بالاجتماعِ وعدم الفُرْقة؛ ففي التَّفرُّقِ زوالُ الوَحْدة التي هي مَعقِدُ العزَّة والقوَّة. عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمرَ به، وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة، هو خيرٌ مما تستحبون في الفرقة" وعن قتادةَ رحمه الله أنه قال في قوله تعالى: {ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم} "إنّ الله عز وجل قد كره لكم الفُرْقة، وقدّم إليكم فيها، وحذّركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمعَ والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضى الله لكم إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله". وعنه في قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف...} قال: "كنتم تَذَابَحُونَ فيها، يَأكلُ شديدُكم ضعيفَكم، حتى جاء اللهُ بالإسلام، فآخى به بينكم، وألَّف به بينكم. أَمَا واللهِ الذي لا إله إلا هو، إنّ الأُلفةَ لَرَحمَة، وإنَّ الفُرقَةَ لَعَذَابٌ".

عباد الله.. هذه البلاد قد كانت قاربت ما عليه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت، مِن بناء القباب على القبور، والاستغاثة بالأموات والغائبين في غير المقدور، والطواف بغير الكعبة من أضرحة وأحجار وبقاعٍ وأشجار، لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فكيف تنفع غيرها -تعالى الله الواحد القهار-، حتى هيّأ الله التعاقد والتعاهد بين الإمامين محمد بن سعود، ومحمد بن عبدالوهاب على أساسُ التوحيد وإبطال الشرك والتنديد، فذلك الذي عليه الدولة مع الدعوة تعاهدت، وعليه في مراحلها الثلاث تعاقَبَتْ، وقد عرَّفتنا كتب المؤرّخين، وتحدث كبار السن المعمَّرين، عن عودة مظاهر الشرك فيما بين كلِّ مرحلتين -بين الدولة السعودية الأولى والثانية، ثم ما بين الثانية والثالثة- فما إن تكون فترة إلا وتُبنى القباب على القبور، ويُطاف بأحجارٍ كذي الخَلَصَة، وتُقصَدُ أشجارٌ طلبًا للبركة، حتى يَقومَ ولاةُ هذه البلاد الموحدون فيُقيموا ما اعوجّ، ويَقصدوا الرَّشَد، هذا في أمن الدين، وكذا في تحقيق أمن الدنيا الذي به بقوم الدين، وتنتظم جماعةُ المصلين، وأمنُ الحجِّ والعُمرةِ لبيت الله، ومصارف الزكاة، وأَمْن السُّراة. كما قال العالم الزاهد الجليل ابنُ المبارك -مِن تابعي التابعين-:

اللهُ يَدْفَعُ بِالسُّلْطَانِ مُعْضِلَةً ...عَنْ دِينِنَا رَحْمَةً مِنْهُ وَرِضْوَانًا

لَوْلَا الْأَئِمَّةُ لَمْ يَأْمَنْ لَنَا سُبُلٌ ... وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا

فاللهم آمِنَّا في الأوطان والدور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةَ الأمور، وأَوْزِعْنَا شُكْرَ نِعمَتِك، وحُسنَ عبادتك، وثَبِّتْنَا على دينك القويم، وهَديِ نبيك الكريم -صلى الله عليه وسلم-.أقول قولي هذا وأستغفر الله...

الخطبة الثانية

الحمد لله.. أحمده والتوفيق للحمد من نعمه، وأشكره والشكر كفيلٌ بالمزيد من فضله وكرمه، وأستغفره مما يُوجِبُ زوال نِعمه وحلول نِقَمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقُّ المبين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله ترك أمته على البيضاء فمن زاغ عنها فهو من الهالكين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الغُر الميامين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم الدين. أما بعد:

فشُكر الله بعبادتِه وتوحيدِه {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}، والاعترافِ بإنعامه وحفظِه وتأييدِه {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}، فَحَقِيقٌ لِمَنْ رُزِقَ حَظًّا مِنَ التَّوْفِيقِ مُرَاعَاةُ نعمةِ العافية في الدين والدنيا والبَدَنْ، والسلامةِ والأمن، فعن عُبيد الله بن مِحصَن الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سِربه، مُعافى في جسده، عنده قُوت يومه، فكأنما حِيزَت له الدنيا».

فاللهَ اللهَ بالمحافظة على اللُّحمةِ الوطنية، وتعزيز قيمها في النفس والنشْأ، وَوَحْدَةِ الصفِّ واجتماعِ الكلمة تحت ظل القيادة المباركة، والتحصُّنِ والتحصينِ مِن الأفكار المتطرفة، ولزومِ سبيل التوسطِ والاعتدال.

هَذَا وَصَلُّوا عَلَى نَبِيّكُمْ مُحَمَّدٍ ﷺ فَقَدْ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ فقالَ سُبِحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارك على نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِ بَيْتِهِ الطَّيبِين وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِين وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَاْمَ الْمُسْلِمِينَ وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّينَ وَاجْعَلْ بِلَادَنَا آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً رَخَاءً سَخَاءً وَسَاْئِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ اللَّهُمَّ احْفَظْ وليَّ أَمْرَنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ ووفِّقْهُمَا لِكُلِّ خَيرٍ ولِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى يَا ذَا الجَلَالِ والإِكْرَامِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الْفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَاشْغَلْهُ بِنَفْسِهِ وَرُدَّ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَدْرَأُ بِكَ فِي نُحُورِ أَعْدَائِنَا وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِم

المرفقات
المشاهدات 413 | التعليقات 0