نظافة الظاهر والباطن
عبدالرحمن سليمان المصري
نظافة الظاهر والباطن
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ ، خَلَقَ الإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، وفَضَّلهُ على سَائِرِ الخَلْقِ بِالإِنعامِ والتَّكْرِيمِ ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ،وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ،صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلى آلهِ وَصَحْبهِ وسَلَّمَ تَسلِيماً كَثِيراً ، أمَّا بَعد :
أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالَى فَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.
عباد الله : الإسلامُ دينُ الفطرةِ ، فَشريعتُهُ لا تَتَعارضُ معَ العقلِ السَّليمِ ، والمَنْطقِ القَويمِ ، والفِطَرِ المُسْتَقِيمَةِ ، ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾الروم:30 .
وقدْ جاءَ الإسلامُ بطَهارةِ الظَّاهرِ والبَاطنِ ، طَهارةً من الأحْداثِ والأَنْجاسْ والفَضَلاتِ ، وطهارةً منَ الشِّركِ والفُجورِ وسَيِّءِ الأَخلاقِ ، قال تعالى: ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾المدثر:3-6 ،أي
عَظِّمهُ بالتوحيدِ ، وبِتَطهيرِ الثِّيابِ ، ونَبذِ أَعمالِ الشَّرِّ كُلِّها ، وتَركِ الَمنِّ على النَّاسِ بما أَسديتَ إليهم من النِّعمِ .
عباد الله : وقدْ حثَّ الشَّارعُ على طهارةِ الظَّاهرِ وتَنقيةِ الجَسدِ منَ الأوْسَاخِ والأَنْجاسِ والأَوْضَارِ ، واعتَنَى بِجوانبِِ الصِّحةِ والنَّظافةِ ، كما في سُنَنِ الفِطرةِ ؛ فَكُلُّها طَهارةٌ ونَظَافةٌ ، لما فِيها منْ تحسينِ الهَيئةِ ، وتنظيفِ البدنِ ، والاحْتِياطِ
للطَّهارَتينِ ، ومُخَالفةً للمَجُوسِ ، وامتثالِ أمرِ الشَّارعِ ، وقدْ أَثْنَى اللهُ عزَّ وجلَّ على خَلِيلهِ إِبراهيم عليه السلام بقولهِ : ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾الآية البقرة: 124. قال ابن كثير :ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْمَنَاسِكِ ، وبخصال الفطرة .أ.هـ
مختصرا.
قال صلى الله عليه وسلم :" عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ، وَالسِّوَاكُ ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ " قَالَ زَكَرِيَّا: قَالَ مُصْعَبٌ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ "رواه مسلم.
والْبَرَاجِمُ ، هي عُقَدُ الأَصَابعِ ، ويَدْخلُ في ذلكَ مَعَاطفَ الأُذنِ ، ومَا بينَ أَصَابعِ القَدمينِ .
وانتقاصُ الماءِ ، هو الاسْتِنْجَاءُ .
قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه :" وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ ، أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" رواه مسلم .
عباد الله : إن الطَّهارةَ والنَّظافةَ الشَّخْصيةَ ، سِرٌّ بينَ العبدِ وربِّهِ ، يجبُ عليهِ مُلاحَظَتُها، وعدمُ إِهْمالِها، فهيَ من سُنَنِ الفِطرَةِ ، ويدخلُ في ذلكَ تطهيرُ يمينهِ منْ مُلامَسةِ القَذَرِ ، وما يُكره شرعاً ، فلا يَمسَّ ذكرهُ بيمينهِ ، ولا يَسْتَنجِي أو
يَسْتَجمرَ بِها ، كما على المسلمِ تَفقُّدِ مَلابِسهِ الدَّاخِليَّةِ ، سواءٌ منَ النَّجَاسةِ ، أو منْ تَغيرِ الرَّائَحةِ ، كُلُّ ذَلكَ من التَّربِيَةِ على الطَّهَارَةِ والنَّقاءِ.
وقد مرَّ النبيُ صلى الله عليه وسلم بقبرين يُعَذَّبَانِ ، فقال يُعَذَّبَانِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ- أي في نظر الناس- ثُمَّ قَالَ: بَلَى ،- أي أنه كبير - كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" رواه البخاري.
عباد الله : والمساجدُ أفضلُ البقاعِ وأَحَبُّها إلى اللهِ ، وذلكَ لما خُصَّتْ بهِ منَ العباداتِ والأذكارِ ، واجتماعِ المؤمنينَ ، وظُهورِ شعائِرِ الدينَ ، أَضَافَها اللهُ لِنفسهِ تَشريفًا وتَكْرِيمًا ، ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾الجن :18. وَوَعَدَ مَنْ
مَشَى إِليها وقَصَدَها للصَّلاةِ بِمغْفرةِ الذُّنوبِ والخَطايَا ، ولمـَّا كانتْ المساجدُ لها منَ القدْسيَّةِ والمَنْزِلةِ ؛ كانَ لها منَ الآدابِ التي يَنْبغِي العِنَايةُ بِها ، ومنها:
إِحسانُ الوُضوءِ ، " فالطَّهُورُ شَطْرُ الإِيمانِ " ، وقدْ أثنَى اللهُ تَعالى على أَهْلِ قُباءِ ، بِتَقْوَاهمْ ومُلازَمَتهمْ كَمالَ الطَّهارةِ ، قال تعالى ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ التوبة: 108.
ويَنْبَغِي لِلمُسلمِ أنْ يَأْتي إلى المسْجدِ على أَحْسنِ هَيْئةٍ ، منَ الثِّيابِ الحَسنةِ والتَّزَيُّنِ للصَّلاةِ ، قال تعالى:﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾الأعراف: 31
فعلى المُسْلمِ أنْ يَتَجمَّلَ عندْ الوُقوفِ بينَ يَدَي ربِّ العَالمينَ ، ولا يَنْبغِي أنْ يَحضُرَ إلى الصَّلاةِ بِملابِسِ النَّومِ أو الرِّياضَةِ أو الرَّدِيئةِ الرَّثَّةِ ، التي لا يَلبُسهَا النَّاسُ فِي المنُاسَباتِ الاجْتِماعيِّةِ ، قال ﷺ " إنَّ اللهَ أَحقُّ مَن تُزيَّنَ لهُ " رواه
الطبراني وصححه الألباني.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رَجُلًا عَلْيِهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ ، فَقَالَ : أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ " رواه أبوداود وصححه الألباني.
وقَالَ ﷺ: " إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ " رواه مسلم .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً ، أما بعد :
عباد الله :المساجدُ بيوتُ اللهِ ، فِيهِا تَحْيَا القُلوبُ ، وتَسْمُو الأَرْواحُ ، تَحْضُرُها المَلائِكةُ وتَشْهَدُ لِأَهْلِها ، وتستمِعُ لِلخُطبِ وتحُفُّ مجالسَ العلمِ فِيها ، شَهِدَ اللهُ لِرُوَّادِهَا بِالإِيمانِ ، قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ التوبة : 18.
ويَنْبغِي على المُصَلِّي اجْتِنَابُ الرَّوَائِحِ الكَريهةِ ، في مَلْبَسِهِ ومَأْكَلهِ ، فَلا يُؤذِي إِخْوَانهُ المُصَلِّينَ ، وقدْ أَوْجبَ النبيُ صلى الله عليه وسلم الغُسلَ يومَ الجُمعةِ لمن تَغَيَّرتْ رَائِحَتهُ ، كَمَا ذَكَرَتْ ذَلكَ أُمُّ المُؤْمِنينَ عَائِشةُ رضي الله عنها .
كما مَنعَ النبيُ صلى الله عليه وسلم منْ حُضُورِ المسْجدِ ؛ لِمنْ أَكَلَ الثُّومَ والبَصلَ ، لِما فِيهِ منْ أَذيةِ المُؤْمِنينَ والَملائِكَةِ المُقَرَّبِينَ ، قال صلى الله عليه وسلم : مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ "رواه مسلم .
ويَلْحَقُ بِذَلكَ كلُّ مَا لَهُ رَائِحةً كَرِيهةً ، فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْجِدَ بِرَائِحةِ الدُّخَّانِ ، أَوْ بِمَلَابِسِ المِهْنَةِ الْمُتَّسِخَةِ ، أَوْ بِمَلَابِسِ تَعُجُّ بِرَوَائِحَ عَرَقهِ ، أَوْ نَتَنِ جَوَارِبِهِ ، فيؤذِي المُصلينَ بِدَرَنِهَا، ويُزْكِمُ أنُوفَهُمْ بنَتَنِ رِيحِهَا .
ويُسْتَحبُّ لِلمُسلمِ اسْتعمالُ الطِّيبِ والسِّواكِ ، عِنْدَ قُدُومِهِ لِلمَسْجِدِ فهو " مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ " ، قال ﷺ " «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ "رواه البخاري.
عباد الله :من وقَّرَ المَسَاجِدَ وعَظَّمَها وأَجَلَّهَا ، والْتَزَمَ الآدَابَ فِيهَا فَهُوَ دَلِيلٌ على إِيمَانِهِ وتَقْواهُ ، وهُوَ تَعْظِيمٌ لمِا عَظَّمَهُ اللهُ عزَّ وَجَلَّ ، قال تعالى : ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ الحج :32 .
هَذا وصَلُّوا وسَلِّمُوا على منْ أَمركُمْ اللهُ بالصَّلاةِ والسَّلامِ عَليهِ ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب :156.
اللهم صَلِّ وسَلِّمْ على عَبدِكَ ورَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وعلى آلهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ .
المرفقات
1714671270_نظافة الظاهر والباطن خطبة جمعة.pdf