نريدُ خطيبًا يأكلُ الطعامَ و يمشي في الأسواق . . !

رشيد بن ابراهيم بوعافية
1434/07/18 - 2013/05/28 05:28AM
يا أحبابي في الله : نريدُ خطيبًا يأكلُ الطعامَ و يمشي في الأسواق . . !
قال الله تعالى :[FONT="]] وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق [FONT="]/FONT] ( الفرقان : 20 ) ، وقال ربّنا سبحانه :[FONT="[/FONT] وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [FONT="][[/FONT] ( الفرقان : 07 ) . [/FONT]
أيها الأحبّةُ في الله :
المعنى الأصليُّ في أكل الطعام والمشي في الأسواق : أنَّ البشريَّةَ و أكلَ الطعامِ و المشيَ في الأسواقِ لم تكن منافيةً للاصطفاءِ بالنبوّة و الرّسالة[1] ، فالرسُلُ عليهم السلام ومنهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم جميعُهُم محتاجٌ للطعامِ و يمشي في السوقِ طالبًا لوسائل المعاش باذلاً كغيره أسباب تحصيل الرزق .
غير أنَّهُ ينبغي الانتباه إلى أنَّ الآيتين تلفتان النّظرَ إلى معان ضمنيّةٍ تحتاج إلى تدبّرٍ وتأمّل :
وهو أنَّ الأنبياء والرّسُلَ عليهم السلام لم يكونُوا يستعلُون على النّاس ، ولا كانوا يعيشُون في أبراج عاجيّة منفصلة تمامًا عن المدعُوّين ، أبدًا لم يكن ذلك ؛ بل كانوا على علوّ قدرِهم يختلطونَ بالناسِ وينزلون إليهم ويعيشُون معهم وبينهم ليُدرِكوا آلامَهم وآمالهم ، و يُبصروا حالهم، ويعلمُوا ضروراتِهم و أثقالَهم ، و يلمسُوا أخطاءهم وانحرافاتِهم ، فيتسامَوا بهم عنها ، وهذا - أعني المشيَ في السّوق - من أكبر الأسبابِ و المداخِلِ لفهمِ النّاسِ و دعوتِهم و التأثيرِ في أنفسِهم عن بصيرةٍ وتجرِبَة ، ويلتحقُ بالسّوقِ كلُّ سبيلٍ موصلٍ لفهم الناس و معايشةِ واقعِهم عن قُرب ، ويختلف ذلك باختلافِ أوضاع النّاسِ و ما يطرأُ على الحياة . .

المقصودُ أنَّهم كانوا ملتصقين بالنّاس قريبين منهم ، فهذا إبراهيم عليه السلام كانَ بزَّازًا يبيعُ القماشَ و يشتريه ، ونوحٌ عليه السلام كان نجارًا يصنعُ و يرقَعُ وكذا زكريا و عيسى عليهم السلام ، وداود عليه السلام كان حدّادًا يصنع الدروع و يبيعها ، و لقمان عليه السلام كان خياطًا يخيطُ الأثواب للنّاس، وكذا إدريس عليه السلام ، وكان إلياسُ عليه السلام نسّاجًا ، وكان موسى عليه السلام راعيًا و كذا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كان يرعَى الغنم على قراريط لأهل مكّة ، ومارس التجارة مع خديجة ، و هذا يحتاج إلى أخذٍ وردٍّ وبيع وشراء ومعاملةٍ للنّاس وسبرٍ لأحوالِهم و أوضاعهِم ، فهؤلاءِ هم أشرفُ الخلق عند الله ، كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ! .
لذلك أحبّتي نريدُ داعيةً إلى الله بشرًا من البشر . . يأكُلُ الطعام ويمشي في الأسواق !
السائر على نهج الأنبياءِ والرُّسُل عليهم السلام و الدّاعيةُ إلى اللهِ ينبغي - لضمان نجاحِ دعوتِهِ - أن يكونَ بشرًا من البشرِ يعيشُ مع البشر ، من جنسِ مدعُوّيهِ ، قريبًا منهم بنفسِه وفكرِهِ وبدنِه ، قد يسكُنُ القصر المنيف ، ويأكل الطعام الغاليَ الشريف ، هذا من فضل الله عليه مادامَ من حلالٍ طيّب يشكُرُ الله عليه ، ولكنَّهُ أحبّتي يأكلُ مثلَهم الطعامَ و يمشي في أسواقِهِم و مواقعِ تجمّعِهم ليُحِسَّ إحساسَ قومِه ، ويعاني تجارِبَهم ، و يدرِكَ آلامَهم وآمالَهم ، ويعرفَ نوازعهم و أشواقَهم و تطلّعاتِهم ، ويفهم ويقدّر بواعثَهم و تأثّراتِهم ، و يُدركَ أخطاءَهم و انحرافاتِهم وعُمقَها في المجتمع ، ومن ثَمّ يعطفُ على ضَعفِهِم ونقصِهم ، و يقوّمَ اعوجاجَهم على بصيرة ، فيرتادُ بهم الطريقَ إلى الله تعالى بوحيٍ منه سبحانه على تجربَةٍ وخبرَةٍ و بصيرَة ! .
عن أبي هريرة رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام ، فأدخل يده فيها ، فنالت أصابعه بللا ، فقال : " ما هذا يا صاحب الطعام ؟! " ، قال : أصابته السماءُ يا رسول الله ، قال : " أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ، من غش فليس مني " رواه مسلم .
وهكذا من تربّى على أخلاق الأنبياءِ و الرّسُلِ عليهم السلام يأبَى أن يغيّرَ أو يبدّلَ و إن فُتِحت عليه مغاليقُ الكنوز ، و بُنيَت له قصورُ العزّ المنيفة ، فهو فيها ببَدَنِهِ شاكرًا لله على نعمه ، ولكنَّهُ بفكرِه ونفسِه و أخلاقِهِ كالمعتاد محتَكًّا مع النّاس صغيرًا وكبيرًا ، قويًّا وضعيفًا ، يأكلُ الطعام ويمشي في الأسواق :
أخرج ابن الأثير بسنده في أسد الغابة عن أبي صالح الغفاري : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتعاهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيستقي لها ، ويقوم بأمرها ، فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت ، فجاءها غير مرة كلاًّ يُسبقُ إليها ، فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الصديق الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة . . فقال عمر : أنت هو لعمري . . !
وكان أبو بكرٍ رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم ، فلما بويع له بالخلافة ، قالت جارية من الحي : الآن لا تُحلبُ لنا منائح دارنا ، فسمعها أبو بكر فقال : بلى لعمري لأحلبنَّها لكم ، وإنّي لأرجوا أن لا يغيّرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه . . " [2] ، هذا والله من أثر تلك التربية النبويّة التي تجعل الدّاعيةَ إلى الله - و إن مُيّزَ بشرفِ الولايةِ أو الغِنى - تجعلُهُ سهلاً ليّنًا قريبًا من الناس محتَكًّا بهم و خاصّةً الضعفاء والمنقطعين ! .
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما - قال : قدم علينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاجًّا ، فصنع له صفوان بن أمية طعاما ، قال: فجاؤوا بجفنة يحملها نفر في عباءة ، فوضعت بين القوم ، فأخذ القوم يأكلون ، وقام الخدام ، فقال عمر: مالي أرى خدامكم لا يأكلون معكم ، أترغبون عنهم ؟ فقال سفيان بن عبد الله : لا والله يا أمير المؤمنين ، ولكننا نستأثر عليهم - لا نجد والله من الطعام الطيب ما نأكل ونطعمهم- ، فغضب عمر غضبا شديدا وقال : فعل الله بقوم يرغبون عن أرقائهم أن يأكلوا معهم ! ، ثم قال للخدام : اجلسوا فكلوا " [3]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه،فإن لم يأكل فليناوله منه"[4] ، هذا والله من أثر تلك التربية النبويّة التي تجعل الدّاعيةَ إلى الله - و إن مُيّزَ بشرفِ الولايةِ أو الغِنى - سهلاً ليّنًا قريبًا من الناس محتَكًّا بهم و خاصّةً الضعفاء والمنقطعين .
هذا ، ومن المعانِي التي تلوحُ للنّاظِرِ في الحكمة من ارتيادِ الأنبياء والرّسُل عليهم السلام للأسواق : أن يجدَ الناسُ فيهم القُدوةَ العمليّةَ الممكنة التقليد والتأسّي ، فلو كان الأنبياء والرسل عليهم السلام يعيشون بعيدًا عن النّاس ، و يحيَونَ في عالمٍ آخرَ غير عالم النّاس ، كيف يقتدي بهم النّاسُ ويتأسّون ، وهم على طبيعةٍ مختلفةٍ تمامًا عن طبيعة النّاس ؟!
إنّهُ حينما يعيشُ الخطيبُ و الدّاعيةُ إلى الله قريبًا من النّاس بعقيدتِهِ السّامية و شريعته الكاملة و أخلاقِهِ وقيمِهِ الراقية سوفَ يكونُ ترجمةً حيّةً للإسلامِ العظيمِ الذي آمن به ، سوفَ يكونُ بحياتِهِ تلك و معاملاتِهِ مع النّاسِ صفحةً بيضاءَ ناصعة يُبصرُ فيها الناسُ سُمُوّ العقيدة و ينقلُون منها و يتأسّون .. لأنَّها ممكنةُ التقليد و التأسّي !
لذلك أحبّتي الخطباء و الدُّعاة كونوا بشرًا من البشر . . تأكلون الطعام وتمشُون في الأسواق ، وإن سكنتم القصور المنيفة ، وفُتحت عليكم مغاليق الكنوز . . !
كتبه رشيد بن ابراهيم بوعافية

إمام أستاذ


[FONT="][FONT="][1][/FONT][/FONT][FONT="]- تفسير ابن كثير ( 3 / 461 ) مؤسسة الرسالة ناشرون . [/FONT]

[FONT="][FONT="][2][/FONT][/FONT][FONT="]- أسد الغابة(3/325-326).[/FONT]

[FONT="][FONT="][3][/FONT][/FONT][FONT="] - صحيح الأدب المفرد(148).[/FONT]

[FONT="][FONT="][4][/FONT][/FONT][FONT="] - صحيح الأدب المفرد(147).[/FONT]
المشاهدات 3099 | التعليقات 4


ويدل على هذا الفهم - والله أعلم - آخر الآية قال تعالى : (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) فالذي
يمشي في أسواقِهِم و يقوّمَ اعوجاجَهم على بصيرة ، فيرتادُ بهم الطريقَ إلى الله تعالى بوحيٍ منه سبحانه على تجربَةٍ وخبرَةٍ و بصيرَة ! .لا بد أن يناله شيء من آذاهم فيحتاج إلى صبر على آذاهم، وقد جاء في ذلك الحديث النبوي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس و لايصبر على أذاهم " . وفي رواية قال:
"...أعظم أجرا من....
" .السلسلة الصحيحة رقم (939)


صدقت ، فالآية بيّنت المنهج و طبيعة الطريق والزاد ،والله بصيرٌ بالعباد . . !

04fe0725a52da575343d41d7b0011246.jpg


الشيخ رشيد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزيت خيرا على هذا الموضوع ونتمنى أن تضيف عليه جديدا وتعمل على تعديل ما يحتاج إلى تعديل ليخرج بصورة أحسن وأتقن نريد أن نرفعه إلى الرئيسة في الموقع وأرسله عبر البريد عل الله أن ينفع به.


رفعه إلى الرئيسية شرف لي ، مستعد لذلك ، سوف يتم تعديله و تزويده بالهوامش اللازمة و يرسل إلى الشؤون العلمية .