مولد الهدى والنور للشيخ / صالح باكرمان

ياسر دحيم
1442/03/13 - 2020/10/30 06:00AM
الخطبة الأولى:
 
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا, أما بعد:
 
عباد الله: اتقوا الله حق تقواه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
 
أيها المسلمون: كان الناس قبل ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته في جاهلية جهلاء، وملة عوجاء، وطريقة عمياء، فصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ" رواه مسلم. "إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ" الأرض كلها شرقها وغربها, فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ" فبغضهم وغضب عليهم لشركهم ومعاصيهم وانحرافهم عن ملة ربهم, إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ" إلا من بقي من أهل الكتاب من اليهود والنصارى مستمسكا بالدين الحق قبل أن يحرف.
 
هذا كان حال الناس في الجاهلية قبل بعثة رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم, ويصور جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حالهم في الجاهلية بين يدي النجاشي رضي الله عنهما فيقول: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ, نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ".
 
فلما احلولك الظلام آذن الله عز وجل بإرسال النور والهدى ليخرج الناس من الظلمات إلى النور, قدر الله عز وجل في قدره, وكتب في كتابه قبل أن يخلق الخلق أن يبعث محمدا  صلى الله عليه وآله وسلم ويجعله خاتم النبيين وسيد المرسلين، وقد اختار الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ليكون خاتما للنبيين وإن آدم لمجندل في طينته.
 
وأخذ الله عز وجل العهد على النبيين عليهم الصلاة والسلام آدم فمن دونه لئن جاءهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليؤمنن به ولينصرنه، قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} فلم يكن نبي إلا أخذ عليه الميثاق أنه إن أدركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليؤمنَن به ولينصرنه. 
 
وكان بدء أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهوره بدعوة دعاها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وهو يرفع القواعد من البيت وإسماعيل عليه السلام، قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فاستجاب الله عز وجل دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. 
 
وكانت صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة صفة بينة واضحة, وكان اليهود يعرفون صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كما يعرفون أبناءه يعرفونه بصفاته ويعرفون صفة مهاجرة ويعرفون دعوته، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
 
وبشر عيس بن مريم عليه الصلاة والسلام آخر أنبياء بني إسرائيل ببعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
 
ولهذا كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى ينتظرون مجيء هذا الرسول المبشر به في كتبهم، ولكنهم كانوا يعتقدون أنه سيكون منهم أي من اليهود وربما من نسل داود عليه الصلاة والسلام على وجه الخصوص، وكان بعض اليهود يبحث عن مهاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد هاجر جماعة من اليهود من الشام بحثا عن مهاجر خاتم النبيين حتى انتهى بهم المقام بيثرب بعد أن عرفوها، وكان اليهود يستفتحون على بعض مشركي العرب على الأوس والخزرج ويقولون لهم: يوشك أن يخرج نبي قد أظل زمانه سنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم.
 
وهذا كان من أدعى الأسباب لمسارعة الأوس والخزرج إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإن المجموعة التي التقت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند العقبة من الأوس والخزرج لما دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان به وبدينه قالوا: هذا الذي توعدكم به يهود فاسبقوهم إليه، فآمنوا به. 
 
فلما بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان من العرب كفر به اليهود كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
 
لقد اختار الله عز وجل أن يكون رسولنا   الكريم صلى الله عليه وآله وسلم من العرب،  وإنه لشرف كبير، وفضل عظيم، للعرب  ولكل المسلمين أن يكون رسولهم وداعيهم إلى ربهم هو سيد الخلق وأكرم الرسل
 
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا 
            من العناية ركنا غير منهدم 
لما دعا الله داعينا لطاعته
            بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
 
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. 
الخطبة الثانية
 
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والصلاة والسلام على سيد الأنام سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام. 
 
أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقواه
 
أيها المسلمون: لم يزل  النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتنقل في أصلاب رجال من ذوي العفة من صلب عفيف إلى صلب عفيف، ومن رحم عفيفة إلى رحم عفيفة، حتى صار إلى صلب عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، ومنه إلى رحم آمنة بنت وهب الزهرية. 
 
ومات أبوه عبدالله وهو حمل في بطن أمه، فحملته به حملا خفيفا سهلا ميسَّرا, ورأت أمه آمنة بنت وهب في المنام أنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى بالشام, ثم ولدت بذلك النور, ولد النور صلى الله عليه وآله وسلم بمكة المكرمة في عام الفيل وما أدراك ما عام الفيل؟!.
 
يوم أن جاء الطاغية أبرهة الحبشي ومعه جيشة من اليمن ليهدم الكعبة المشرفة كما زعم، ويصرف عنها وجوه الناس ليتوجهوا ويحجوا إلى كنيسته القُلَّيس، فلما قرب من مكة المكرمة برك الفيل وأبى أن يتوجه إلى بيت الله الحرام، حبسه ربه عز وجل، ثم أرسل الله عز وجل على أبرهة وجيشه طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} فأضل الله عز وجل كيدهم وأبطل مكرهم، وأهلكهم حتى جعلهم عبرة لمن يعتبر. 
 
لقد كانت حادثة الفيل توطئة لميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومبعثه، فإن الذين أتوا بالجيش الذي يتقدمه الفيل من أهل الكتاب، ويغزون أهل الشرك والوثنية، ولكن الله عز وجل أراد أن يحمي بيته ويعظمه، وأن يلفت الأنظار والكعبة ويوطئ ويمهد لمبعث نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. 
 
ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عام الفيل، في يوم الاثنين في شهر ربيع الأول في اليوم الثامن أو التاسع منه عند بعض المحققين، أو العاشر أو الثاني من ربيع الأول على المشهور. وكانت أول حاضنة له هي أم أيمن بركة الحبشية رضي الله عنها.
 
ولما ولدت آمنة بابن عبد الله بشروا بمولده جده عبد المطلب فجاء واستلمه وأخذه إلى الكعبة، وسماه محمدا رجاء أن يحمده الخلق، وختنه في يوم سابعه. 
 
ولد النور فاستنارت بنوره الأكوان، وتحلى بميلاده الزمان والمكان، وخزي بوجوده الشيطان. 
ولد الهدى فالكائنات ضياء
                   وفم الزمان تبسم وثناء. 
 
وإنما تم نور النبي صلى الله عليه وآله ببعثته، وما جاء به من عند الله عز وجل من الهدى والنور. 
 
وإن أعظم الهدى والنور الذي جاء به رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند ربه عز وجل هو توحيد الله تعالى الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور فعبدوا الله وحده لا يشركون به شيئا. قال الله عز وجل : {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.
 
وإن من أعظم الهدى والنور الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الدعوة إلى اتباعه  والاستقامة على شريعة ربه عز وجل، وترك الأوضاع البشرية، والمحدثات البدعية. قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
 
وإن من أعظم الهدى والنور الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى جمع الكلمة وترك الفرقة، قال الله عز وجل : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.
 
وإن من أعظم الهدى والنور الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب،  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ" رواه أحمد.
 
فالاحتفال الحقيقي بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الاحتفال بالتوحيد، والاستقامة على الشرع, والمحافظة على وحدة الأمة، والخلق بمكارم الأخلاق. 
 
ونختم بقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
 
وصلوا وسلموا على من أمركم الله عز وجل بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه وتعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. 
المشاهدات 754 | التعليقات 0