موعظة نهاية العام 1444

صالح العويد
1444/12/26 - 2023/07/14 01:40AM
الحمدلله الواحد القهار ، جعل في تعاقب الليل والنهار عبرةً لأولي الأبصار ، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفار ، حكم بفناء هذه الدار ، وأمر بالتزود لدار القرار وأشهد أن نبينا محمداً عبدالله ورسوله المصطفى المختار ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار ، وصحبة الأبرار ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار. أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله وخذوا من تعاقب الليالي والأيام، وتصرم الشهور والأعوام، أعظم العبر وأبلغ العظات ، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حق تقاته ولاتموتن إلاوأنتم مسلمون فاتقوا الله عباد الله واعتبروا بما ترون وتسمعون. تمر الشهور بعد الشهور والأعوام بعد الأعوام ونحن في سبات غافلون. وتَبَصّروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة تنقضي بها الأعمار (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور:44] إنّ هذه الشمسَ التي تطلع كلَّ يوم من مشرقها وتغرب في مغربها تحمِل أعظمَ الاعتبار، فطلوعُها ثم غيابُها إيذان بأنّ هذه الدنيا ليست دارَ قرار، وإنما طلوعٌ وزوال. سنة كاملة محمّلة بالأيام والليالي ، مثقَلة بالساعات والدقائق والثواني ، مرت شهورها تباعًا ، وتصرّمت أيامها سراعًا .. نتذكر مَرّور الأشهر الثمانية الأولى منها كثمانية أيام، ثم دخل شهر رمضان المبارك، وعاش المسلمون فيه أحلى الأيام ، وقضوا أحلى الليالي ، ثم انقضت تلك الأيام والليالي كساعة من نهار ، ومَرّ عيد الفطر ورحل ، وانتهى موسم العشر والحج كعشية أو ضحاها ، ثم خلعت السنة ثيابها وألقت بخمارها وجلبابها ، لتعلنها صريحة مدوية ، أننا كنا بكثرة الأيام عند بدايتها مغترّين ، وبحبال التسويف في أولها متعلّقين .. فكم منّا من رسم أهدافاً لآخر العام ، فمضى العام وتركه ، وكم من عاجز ألهته الأماني حتى أوقعه الشيطان في حبائله وشَرَكِهِ ، وهكذا عُمر الإنسان، يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه هازم اللذات.. إنّنا سنودع عامًا ماضيًا شهيدًا، ونستقبل عامًا هجريا جديدًا، أَعْوَامٌ مَضَتْ بِأَعْمَارِنَا وَأَعْمَالِنَا، وَأَعْوَامٌ آتِيَةٌ تُقَرِّبُنَا مِنْ آجَالِنَا، وَتَنْقُصُ مِنْ حَيَاتِنَا، أَعْوَامٌ رَحَلَتْ بِخَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَحُلْوِهَا وَمُرِّهَا، وَأَعْوَامٌ تَنْتَظِرُنَا لَا نَعْلَمُ مَا قُدِّرَ لَنَا فِيهَا وَلَا كَمْ بَقِيَ لَنَا مِنْهَا. ها نحنُ نودع عاماً حافِلاً من أعمارِنا ، فما أسرعَ ما مضى وانقضى ، وما أعظمَ ما حَوى ، كم من حبيبٍ فيه فارقنا ، وكم من بلاءٍ فيه واجهنا ، وكم من سيئات فيه اجترَحنا ، والليالي والأيام خزائنُ للأعمال ومراحلُ للأعمار ، تبلي الجديدَ وتقرِّب البعيدَ ، أيامٌ تمرّ ، وأعوام تكرّ ، وأجيال تتعاقَب فهل من مدكر ، والكلّ إلى الله يسير فأين المفر،: "كلُّ الناس يغدو، فبائع نفسَه فمعتقُها أو موبقها" كما صح الخبرعن سيد البشر صلى الله عليه وسلم.. والعام الذي مضى لن يعود عليكم منه إلا الذكريات ، ثم ما دُوِّن في صحائف أعمالكم {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .. وهكذا أيها المسلمون : يجب على العاقل أن يرجع إلى نفسه ، فيحاسبها على ما قدم في يومه وأمسه ، وأسبوعه وشهره ، وفي نهاية عامه، وفي كل دهره ،فإن كان خيراً ازداد وإن يكن غير ذلك أقلع وأناب. فإنما تمحي السيئة الحسنة. قال –صلى الله عليه وسلم-: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"  نهـارُكَ يا مغرورُ سَهْوٌ وغفلة  .. وليلُك نومٌ والأسـى لك لازِمُ .. تُسَرُّ بمـا يفنى وتفرحُ بالمُنَـى .. كما سُرَّ باللذاتِ فِي النوم حالِمُ .. وشُغْلُك فيما سوف تكره غِبَّهُ .. كذلك في الدنيـا تعيشُ البهائمُ .. ألا فارجع إلى ربك ، واستغفره لذنبك ، وابك على خطيئتك ، وقدم لنفسك ، من قبل أن تقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت ، فيقال لك: كلا ، إنها كلمة هو قائلها .. فَالْتَمِسْ -يَا مُسْلِمُ- عُمْرَكَ، وَاغْتَنِمْ خَمْسَكَ الْتِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا، وَحَثَّ عَلَى اغْتِنَامِهَا، وَحَذَّرَ مِنَ الْغَبْنِ فِيهَا وَخَسَارَتِهَا، فَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ” (الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ التَّرْغِيبِ، (3355)).وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَهْمَا طَالَ بِكَ الْمُقَامُ، وَحَفَلَتْ بِكَ الْأَيَّامُ فَلَا بُدَّ مِنْ يَوْمٍ يَكُونُ فِيهِ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى؛ رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: “يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ“(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ). ياعبد الله كم أودعت بيديك في القبر من قريب؟! ، وكم ودعت من أخ وحبيب؟! ، ألم تفكر في يومٍ تكون فيه أنت المودَع المودَّع ؟! ، ألم تعمل ليوم تكون فيه أنت المحمول المشيَّع؟! ، عجبًا لك ثم عجبًا! ، كلما ازددت من الآخرة دنوًا ، ازددت غفلة وعتوا .. فيا قوم، إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ والعمر أمانَة، سيُسأل عنه المرء يومَ القيامة، الأيام تُطوى، والأعمار تَفنى، والأبدان تَبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله كما صح بذلك الخبر والأعمال بالخواتيم فمن أصلح فيما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي، الموتى يتحسّرون على فوات الحسنات الباقية، والأحياء يتحسرون على فوات أطماع الدنيا الفانية، ما مضى من الدنيا وإن طالت أوقاته فقد ذهبت لذاته وبقيت تبِعاته، وكأن لم يكن إذا جاء الموت وميقاته أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: )اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِير(ٍ الشورى:47.اللهم اجعل يومنا خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من حاضرنا ، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم                         الحمد لله حكم بالفناء على أهل هذه الدار، والصلاة والسلام على المصطفى المختار، وعلى آله الأطهار وأصحابه المهاجرين والأنصار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار. أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واغتنموا فرص الحياة فيما يقربكم إلى الله، وليكن لكم من مرور الليالي والأيام، وتصرم الشهور والأعوام، وما يحدث في طياتها من الحوادث الجسام والأهوال العظام، عبرٌ ومزدجر وعمل صالح تجدون ثوابه عند الله مدخر واعلموا أنكم تستقبلون فاتحة شهورِ العام شهرُ الله المحرَّم، وهوعند الله من أعظم الشهور ، عظيمُ المكانة قديم الحرمة ، ومن فضائلِه كثرةُ صيامِ أيّامه، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم فأكثروا فيه الصيام وفقني الله وإياكم لصالح الأعمال، ووقانا جميعا من الزلل والآثام وإياكم ومحدثات الأمور ومن ذلك ما يحصل من المحدثات مع نهاية كل عام وبدايته فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أعاذنا الله منها ومن نحب واعلموا رحمكم الله أن من أفضل الطاعات وأشرف القربات كثرة صلاتكم وسلامكم على خير البريَّات صاحب المعجزات الباهرات والآيات البينات، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولا كريما: ] إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبدالله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.  
المشاهدات 1411 | التعليقات 0