مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ
هلال الهاجري
1435/12/20 - 2014/10/14 12:48PM
إِنّ الْحَمْدَ ِللهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ .. اَللهُمّ صَلِّ وَسَلّمْ عَلى مُحَمّدٍ وَعَلى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدّيْن.
(يَا أَيّهَا الّذَيْنَ آمَنُوْا اتّقُوا اللهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوْتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُوْنَ)
(يَا أَيّهَا النَاسُ اتّقُوْا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْرًا وَنِسَاءً وَاتّقُوا اللهَ الَذِي تَسَاءَلُوْنَ بِهِ وَاْلأَرْحَام َ إِنّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا)
(يَا أَيّهَا الّذِيْنَ آمَنُوْا اتّقُوا اللهَ وَقُوْلُوْا قَوْلاً سَدِيْدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا) .. أَمّا بَعْدُ:
فَإنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيْثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْىِ هَدْيُ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَشَرَّ اْلأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةِ فِي النّارِ.
عَنْ أَبي نَجِيحٍ العِرْباضِ بنِ سَاريةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: وَعَظَنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْها العُيُونُ، فَقُلْنا: يا رسولَ اللهِ، كَأنَّها مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فَأَوْصِنا، قالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ).
فيا لها من موعظةٍ نبويَّةٍ كريمةٍ .. ووصيَّةٍ خالصةٍ عظيمةٍ .. فعندَ اختلافِ الزَمنِ .. وتلاطمِ أمواجِ الفِتنِ .. يحتاجُ النَّاسُ إلى من يُرشدُهم إلى سبيلِ النَّجاةِ .. ويُنقذُهم من طريقِ الهلاكِ .. فكيفَ إذا كانت النَّصيحةٌ ممن قالَ اللهُ تعالى فيه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)؟ .. وكيفَ إذا كانت هذه النَّصيحةُ في آخرِ أيامِه وهو يوِّدعُ الحياةَ؟ .. فإنه سيختارُ لأمتِه أهمَ الوصايا .. وسيبذلُ لها خالصَ النوايا.
عبادَ اللهِ .. لقد أخبرَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ أن الأمورَ ستختلفُ اختلافاً كثيراً على من سيعيشُ بعدَه .. وسيقرأُ النَّاسُ في كُتُبِ التَّاريخِ شيئاً عن الإسلامِ والمسلمينَ حتى يظنُّونه ضَرباً من الأساطيرِ والخيالِ .. إذا قارنوه بواقعِهم الأليمِ وما وصلَ إليه المسلمونَ من حالٍ .. فأوصى بثلاثِ وصايا نافعةٍ عِندَ تغيُّرِ الأحوالِ.
الأولى: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) .. وهذه هي وصيَّةُ اللهِ تعالى للأولينَ والآخرينَ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) .. ووصيتُه لأهلِ الإيمانِ خاصةً: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) .. بل هي وصيتُّه لنبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو أتقى النَّاسِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) .. وهيَ أن يجعلَ الإنسانُ بينَه وبينَ عذابِ اللهِ وِقايةً .. بفعلِ الطاعاتِ .. وتركِ المُحرماتِ .. محبةً وتعظيماً للهِ عزَّ وجلَّ .. فهي إذاً باختصارٍ: المحافظةُ على العبادةِ بأنواعِها والثَّباتُ .. والبعدُ عن الحرامِ وأسبابِه في جميعِ الأوقاتِ.
إن المحافظةَ على العبادةِ يا أهلَ الإيمانِ لها أثرٌ عظيمُ في الوقايةِ من الفتنِ .. فقبلَ الفتنةِ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا) .. فأوصى بالمبادرةِ والمحافظةِ والمسارعةِ إلى أعمالِ الطاعةِ والعبادةِ قبلَ أن تأتي تلكَ الفِتنُ الظَّلماءُ .. التي يُباعُ فيه الدِّينُ بأرخصِ الأثمانِ من أهلِ الشَّقاءِ .. وأما في أثناءِ الفتنةِ .. فقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلام: (العِبَادَةُ في الهَرجِ –وهو كثرةُ القتلِ زَمنُ الفتنِ- كَهِجرَةٍ إِلَيَّ) .. فجعلَ أجرَ العبادةِ في تلك الأيامِ كأجرِ من تركَ وطنَه ومالَه وأهلَه للهِ تعالى ولرسولِه صلى اللهُ عليه وسلمَ .. وذلك لأنها مَنجاةٌ بإذن اللهِ تعالى من الخوضِ في الفتنةِ لانشغالِه عنها بأنواعِ العباداتِ .. فلسانُه مشغولٌ بذكرِ اللهِ تعالى .. وعينُه مشغولةٌ بالتفكُّرِ بخلقِ اللهِ والبكاءِ من خشيتِه .. وسمعُه مشغولٌ بسماعِ القرآنِ والمفيدِ من الدروسِ .. وقلبُه مشغولٌ في الخوفِ والرَّجاء والإنابةِ والشُّكرِ .. وبدنُه في صلاةٍ وصومٍ ومساعدةِ مُحتاجٍ وعمرةٍ وحجٍ .. فهو مشغولٌ فيما خُلقَ من أجلِه وليس عندَه وقتٌ يخوضُ فيه مع الخائضينَ.
ومن أعظمِ العباداتِ .. الاعتصامِ باللهِ تعالى واللُّجوءِ إليه في الفتنِ .. فهو الركنُ الشَّديدُ .. والعاصمُ لمن يُريدُ .. فقد قالَ سبحانَه: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) .. عن شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأُمِّ سَلَمَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟، قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ دُعَاءَكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟، قَالَ: (يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ).
وقَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: (اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .. و(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي).
وأما الوصيَّةُ الثَّانيةُ: (وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) .. سبحانَ اللهِ .. وصيَّةٌ من خبيرٍ بأحوالِ الفتنِ.
لذلك جاءت الأحاديثُ الكثيرةُ بالمحافظةِ على الجماعةِ ولزومِ وليِّ أمرِ المسلمينَ .. كما قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً –أيْ اختصاصٌ بأمورِ الدُّنيا ومنعُ النَّاسِ حقوقَهم- وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا)، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ)، فالصَّبرُ على ظُلمِ الولاةِ، خيرٌ من مفسدةِ الخروجِ عليهم .. وهذا هو المنهجُ الشَّرعي في التَّعاملِ مع معصيةِ الأمراءِ كما في الحديثِ: (أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) .. لأنَّ من أعظمِ الفِتنِ العامةِ هي المُتعلقةُ بالخروجِ على ولاةِ الأمرِ .. حينَها تحدثُ الفوضى .. ويَختلُّ الأمنُ .. وتسيلُ الدِّماءُ .. ويغيبُ النِّظامُ .. ويضيقُ الرِّزقُ .. ولا يأمنُ الإنسانُ على نفسٍ ولا عِرضٍ ولا مالٍ .. بل ويكونُ الواحدُ مشغولاً عن العباداتِ بالخوفِ والجوعِ وحفظِ النَّفسِ والمالِ والأهلِ .. ولا يتَّفقُ النَّاسُ عادةً على رَجلٍ بعينِه ليجعلونَه أميراً عليهم .. فتستمرُ الفِتنةُ ولا يجتمعُ النَّاسُ بعدَ ذلكَ على إمامٍ أزمنةً طويلةً .. فالصَّبرُ الصَّبرُ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ).
حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِي اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟، قَالَ: (نَعَمْ)، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ، قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ)، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟، قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ)، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟، قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟، -وهذا الشَّاهدُ-، قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ، قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ).
ومن كانَ يحلمُ بخلافةٍ راشدةٍ .. فليسمعْ هذا الحديثَ .. عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ رحمَه الله قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ الثَّقَفِيِّ فَقَالَ: (اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، مَنَّ علينا بتمامِ النعمةِ وكمالِ الدِّينِ وأمرنا باتِّباعِ هديِّ الأنبياءِ والمرسلينَ وحذَّرَنا من اتِّباعِ المخالفينَ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له يقضي بالحقِّ ويحكمُ بالعدلِ وهو أحكمُ الحاكمينَ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه خاتمَ النبيينَ وأفضلَ المرسلينَ صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم إلى يومِ الدِّينِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً، أما بعد:
فأما الوصيَّةُ الثَّالثةُ من النَّاصحِ الأمينِ صلى اللهُ عليه وسلمَ فهي: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ).
فعندَ التباسِ الحقِّ بالباطلِ .. واختلاطِ الهُدى بالضَّلالِ .. نحتاجُ إلى نورِ الرِّسالةِ .. وشُعاعِ النُّبوةِ .. ليُنيرَ للنَّاسِ الطَّريقَ .. ويُعرفَ العدوُّ من الصَّديقِ .. وينجوَ الحريصُ من الوادي السَّحيقِ .. فالسُّنةُ هي سفينةُ النَّجاةِ وبرُّ الأمانِ .. حينَ اختلافِ الأمورِ وتغيُّرِ الزَّمانِ .. فعضُّوا عليها بأقصى الأضراسِ من الأسنانِ.
ذكرَ الحُميديُّ أنه كانَ عندَ الشافعي رحمَه اللهُ، فأتاه رجلٌ فسألَه عن مسألةٍ، فقالَ الشافعي: قضى فيها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ كذا وكذا، فقالَ الرجلُ للشافعي: وما تقولُ أنتَ؟، فقالَ الشافعي: سبحانَ اللهِ، أتراني في كنيسةٍ؟، أتراني في بَيْعةٍ؟ –أي دارِ عبادةِ اليهودِ-، أترى على وسطي زِنَّاراً؟ –وهو شعارُ أهلِ الذِّمةِ-، أقولُ لك قضى رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، وأنتَ تقولُ: ما تقولُ أنت؟!.
لقد أخبرَ نبيُّكم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بافتراقِ هذه الأمَّةِ .. فقال: (افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَن الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ؟ قَالَ: (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي) .. فعليكم يا أهلَ الإيمانِ بسُنَّةِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. وواللهِ إنها واضحةٌ لمن أرادَها .. يسيرةٌ لمن طَلبها .. بَيْضَاءُ للباحثِ عنها .. لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.
قالَ أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلَّامٍ المُتوفى بعد المائتينِ للهجرةِ: المتَّبعُ للسُّنَّةِ كالقابضِ على الجمرِ، وهو اليومُ عندي أفضلُ من ضربِ السَّيفِ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ .. قالَ الألباني: هذا في زمانِه، فماذا يُقالُ في زمانِنا نحنُ؟!
اللهم إنا نسألُك الهدى والتقى، والعفافَ والغنى، وأن تجعلَنا هداةً مُهتدينَ .. اللهم اجعلْ خيرَ أعمالِنا خواتيمَها، وخيرَ أيامِنا يومَ نلقاك وأنتَ راضٍ عنا .. اللهم آمنا في الأوطانِ والدورِ وأصلح اللهم ولاةَ الأمورِ، اللهم وفقْ ولاةَ أمرِ المسلمينَ كافةً يا ربَّ العالمينَ للعملِ بكتابِك واتِّباعِ سنَّةِ نبيِّك محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ، اللهم أنزلْ علينا الرحماتِ، وأفضْ علينا الخيراتِ، وضاعفْ لنا الحسناتِ، وارفع لنا الدرجاتِ، وأقل لنا العثراتِ، وامح عنا السيئاتِ برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ.
(يَا أَيّهَا الّذَيْنَ آمَنُوْا اتّقُوا اللهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوْتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُوْنَ)
(يَا أَيّهَا النَاسُ اتّقُوْا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْرًا وَنِسَاءً وَاتّقُوا اللهَ الَذِي تَسَاءَلُوْنَ بِهِ وَاْلأَرْحَام َ إِنّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا)
(يَا أَيّهَا الّذِيْنَ آمَنُوْا اتّقُوا اللهَ وَقُوْلُوْا قَوْلاً سَدِيْدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا) .. أَمّا بَعْدُ:
فَإنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيْثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْىِ هَدْيُ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَشَرَّ اْلأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةِ فِي النّارِ.
عَنْ أَبي نَجِيحٍ العِرْباضِ بنِ سَاريةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: وَعَظَنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْها العُيُونُ، فَقُلْنا: يا رسولَ اللهِ، كَأنَّها مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فَأَوْصِنا، قالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ).
فيا لها من موعظةٍ نبويَّةٍ كريمةٍ .. ووصيَّةٍ خالصةٍ عظيمةٍ .. فعندَ اختلافِ الزَمنِ .. وتلاطمِ أمواجِ الفِتنِ .. يحتاجُ النَّاسُ إلى من يُرشدُهم إلى سبيلِ النَّجاةِ .. ويُنقذُهم من طريقِ الهلاكِ .. فكيفَ إذا كانت النَّصيحةٌ ممن قالَ اللهُ تعالى فيه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)؟ .. وكيفَ إذا كانت هذه النَّصيحةُ في آخرِ أيامِه وهو يوِّدعُ الحياةَ؟ .. فإنه سيختارُ لأمتِه أهمَ الوصايا .. وسيبذلُ لها خالصَ النوايا.
عبادَ اللهِ .. لقد أخبرَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ أن الأمورَ ستختلفُ اختلافاً كثيراً على من سيعيشُ بعدَه .. وسيقرأُ النَّاسُ في كُتُبِ التَّاريخِ شيئاً عن الإسلامِ والمسلمينَ حتى يظنُّونه ضَرباً من الأساطيرِ والخيالِ .. إذا قارنوه بواقعِهم الأليمِ وما وصلَ إليه المسلمونَ من حالٍ .. فأوصى بثلاثِ وصايا نافعةٍ عِندَ تغيُّرِ الأحوالِ.
الأولى: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) .. وهذه هي وصيَّةُ اللهِ تعالى للأولينَ والآخرينَ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) .. ووصيتُه لأهلِ الإيمانِ خاصةً: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) .. بل هي وصيتُّه لنبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو أتقى النَّاسِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) .. وهيَ أن يجعلَ الإنسانُ بينَه وبينَ عذابِ اللهِ وِقايةً .. بفعلِ الطاعاتِ .. وتركِ المُحرماتِ .. محبةً وتعظيماً للهِ عزَّ وجلَّ .. فهي إذاً باختصارٍ: المحافظةُ على العبادةِ بأنواعِها والثَّباتُ .. والبعدُ عن الحرامِ وأسبابِه في جميعِ الأوقاتِ.
إن المحافظةَ على العبادةِ يا أهلَ الإيمانِ لها أثرٌ عظيمُ في الوقايةِ من الفتنِ .. فقبلَ الفتنةِ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا) .. فأوصى بالمبادرةِ والمحافظةِ والمسارعةِ إلى أعمالِ الطاعةِ والعبادةِ قبلَ أن تأتي تلكَ الفِتنُ الظَّلماءُ .. التي يُباعُ فيه الدِّينُ بأرخصِ الأثمانِ من أهلِ الشَّقاءِ .. وأما في أثناءِ الفتنةِ .. فقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلام: (العِبَادَةُ في الهَرجِ –وهو كثرةُ القتلِ زَمنُ الفتنِ- كَهِجرَةٍ إِلَيَّ) .. فجعلَ أجرَ العبادةِ في تلك الأيامِ كأجرِ من تركَ وطنَه ومالَه وأهلَه للهِ تعالى ولرسولِه صلى اللهُ عليه وسلمَ .. وذلك لأنها مَنجاةٌ بإذن اللهِ تعالى من الخوضِ في الفتنةِ لانشغالِه عنها بأنواعِ العباداتِ .. فلسانُه مشغولٌ بذكرِ اللهِ تعالى .. وعينُه مشغولةٌ بالتفكُّرِ بخلقِ اللهِ والبكاءِ من خشيتِه .. وسمعُه مشغولٌ بسماعِ القرآنِ والمفيدِ من الدروسِ .. وقلبُه مشغولٌ في الخوفِ والرَّجاء والإنابةِ والشُّكرِ .. وبدنُه في صلاةٍ وصومٍ ومساعدةِ مُحتاجٍ وعمرةٍ وحجٍ .. فهو مشغولٌ فيما خُلقَ من أجلِه وليس عندَه وقتٌ يخوضُ فيه مع الخائضينَ.
ومن أعظمِ العباداتِ .. الاعتصامِ باللهِ تعالى واللُّجوءِ إليه في الفتنِ .. فهو الركنُ الشَّديدُ .. والعاصمُ لمن يُريدُ .. فقد قالَ سبحانَه: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) .. عن شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأُمِّ سَلَمَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟، قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ دُعَاءَكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟، قَالَ: (يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ).
وقَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: (اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .. و(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي).
وأما الوصيَّةُ الثَّانيةُ: (وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) .. سبحانَ اللهِ .. وصيَّةٌ من خبيرٍ بأحوالِ الفتنِ.
لذلك جاءت الأحاديثُ الكثيرةُ بالمحافظةِ على الجماعةِ ولزومِ وليِّ أمرِ المسلمينَ .. كما قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً –أيْ اختصاصٌ بأمورِ الدُّنيا ومنعُ النَّاسِ حقوقَهم- وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا)، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ)، فالصَّبرُ على ظُلمِ الولاةِ، خيرٌ من مفسدةِ الخروجِ عليهم .. وهذا هو المنهجُ الشَّرعي في التَّعاملِ مع معصيةِ الأمراءِ كما في الحديثِ: (أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) .. لأنَّ من أعظمِ الفِتنِ العامةِ هي المُتعلقةُ بالخروجِ على ولاةِ الأمرِ .. حينَها تحدثُ الفوضى .. ويَختلُّ الأمنُ .. وتسيلُ الدِّماءُ .. ويغيبُ النِّظامُ .. ويضيقُ الرِّزقُ .. ولا يأمنُ الإنسانُ على نفسٍ ولا عِرضٍ ولا مالٍ .. بل ويكونُ الواحدُ مشغولاً عن العباداتِ بالخوفِ والجوعِ وحفظِ النَّفسِ والمالِ والأهلِ .. ولا يتَّفقُ النَّاسُ عادةً على رَجلٍ بعينِه ليجعلونَه أميراً عليهم .. فتستمرُ الفِتنةُ ولا يجتمعُ النَّاسُ بعدَ ذلكَ على إمامٍ أزمنةً طويلةً .. فالصَّبرُ الصَّبرُ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ).
حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِي اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟، قَالَ: (نَعَمْ)، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ، قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ)، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟، قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ)، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟، قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟، -وهذا الشَّاهدُ-، قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ، قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ).
ومن كانَ يحلمُ بخلافةٍ راشدةٍ .. فليسمعْ هذا الحديثَ .. عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ رحمَه الله قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ الثَّقَفِيِّ فَقَالَ: (اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، مَنَّ علينا بتمامِ النعمةِ وكمالِ الدِّينِ وأمرنا باتِّباعِ هديِّ الأنبياءِ والمرسلينَ وحذَّرَنا من اتِّباعِ المخالفينَ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له يقضي بالحقِّ ويحكمُ بالعدلِ وهو أحكمُ الحاكمينَ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه خاتمَ النبيينَ وأفضلَ المرسلينَ صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم إلى يومِ الدِّينِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً، أما بعد:
فأما الوصيَّةُ الثَّالثةُ من النَّاصحِ الأمينِ صلى اللهُ عليه وسلمَ فهي: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ).
فعندَ التباسِ الحقِّ بالباطلِ .. واختلاطِ الهُدى بالضَّلالِ .. نحتاجُ إلى نورِ الرِّسالةِ .. وشُعاعِ النُّبوةِ .. ليُنيرَ للنَّاسِ الطَّريقَ .. ويُعرفَ العدوُّ من الصَّديقِ .. وينجوَ الحريصُ من الوادي السَّحيقِ .. فالسُّنةُ هي سفينةُ النَّجاةِ وبرُّ الأمانِ .. حينَ اختلافِ الأمورِ وتغيُّرِ الزَّمانِ .. فعضُّوا عليها بأقصى الأضراسِ من الأسنانِ.
ذكرَ الحُميديُّ أنه كانَ عندَ الشافعي رحمَه اللهُ، فأتاه رجلٌ فسألَه عن مسألةٍ، فقالَ الشافعي: قضى فيها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ كذا وكذا، فقالَ الرجلُ للشافعي: وما تقولُ أنتَ؟، فقالَ الشافعي: سبحانَ اللهِ، أتراني في كنيسةٍ؟، أتراني في بَيْعةٍ؟ –أي دارِ عبادةِ اليهودِ-، أترى على وسطي زِنَّاراً؟ –وهو شعارُ أهلِ الذِّمةِ-، أقولُ لك قضى رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، وأنتَ تقولُ: ما تقولُ أنت؟!.
لقد أخبرَ نبيُّكم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بافتراقِ هذه الأمَّةِ .. فقال: (افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَن الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ؟ قَالَ: (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي) .. فعليكم يا أهلَ الإيمانِ بسُنَّةِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. وواللهِ إنها واضحةٌ لمن أرادَها .. يسيرةٌ لمن طَلبها .. بَيْضَاءُ للباحثِ عنها .. لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.
قالَ أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلَّامٍ المُتوفى بعد المائتينِ للهجرةِ: المتَّبعُ للسُّنَّةِ كالقابضِ على الجمرِ، وهو اليومُ عندي أفضلُ من ضربِ السَّيفِ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ .. قالَ الألباني: هذا في زمانِه، فماذا يُقالُ في زمانِنا نحنُ؟!
اللهم إنا نسألُك الهدى والتقى، والعفافَ والغنى، وأن تجعلَنا هداةً مُهتدينَ .. اللهم اجعلْ خيرَ أعمالِنا خواتيمَها، وخيرَ أيامِنا يومَ نلقاك وأنتَ راضٍ عنا .. اللهم آمنا في الأوطانِ والدورِ وأصلح اللهم ولاةَ الأمورِ، اللهم وفقْ ولاةَ أمرِ المسلمينَ كافةً يا ربَّ العالمينَ للعملِ بكتابِك واتِّباعِ سنَّةِ نبيِّك محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ، اللهم أنزلْ علينا الرحماتِ، وأفضْ علينا الخيراتِ، وضاعفْ لنا الحسناتِ، وارفع لنا الدرجاتِ، وأقل لنا العثراتِ، وامح عنا السيئاتِ برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ.
المرفقات
مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ.docx
مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ.docx
المشاهدات 3768 | التعليقات 2
جزاك الله خيرا شيخ هلال الهاجري .
وجزاك الله خيرا شيخ شبيب القحطاني ، وتمنينا شيخنا الخطيب لو أكرمتنا يوما ما بخطبة من خطبك زيادةً على دعائك اللطيف للخطباء ب " جزاك الله خيرا " فقد بلغت بها مشاركاتك المئات ونحن نريد أن تكرمنا بالعلم . وجزاك الله خيرا .
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق