موعظة من وفاة مشهور
عبدالكريم الخنيفر
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديا له.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا،
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عباد الله، بينما كنتُ أُعدُّ خطبةَ هذه الجمعةِ أرسلَ لي أحدُهم رابطًا وضمنه قولَه: لن ترى منشورًا لهذا الحسابِ بعدَ اليوم، استغربتُ كلامَه فدخلتُ للرابط، فإذا هي منشوراتٌ لمشهورٍ يوم أمس لا يدري بما يفاجئه يومه، حيث يُخبر بما سيفعلُ في سفره، ويَعِدُ بزيارةِ من لم يزرهم، ويُخطط لما سيُنجزه من الأعمال، لكنَّ باغتَ الموتِ فاجأه في حادث أليم، فرحمه الله وأسكنه فسيحَ جناته.
أيها المسلمون، هل كان هذا الإنسانُ يظنُّ لوهلةٍ أنَّ هذه آخرُ لحظاته؟!
هل قدَّر تلك الساعةَ التي حانَ فيها أجلُه ليختمَ مشاريعَه والتزاماتِه؟
وهل يمكن أن يدهمَنا الموتُ ولم ننجزْ أشغالَنا، لم نُشبعْ رغباتِنا، بل لم نرضَ عن أنفسنا فيما فرَّطنا في جَنْبِ الله، هل تنتظرُ ساعةُ الموتِ توبةً نصوحًا؟ أو إتمامَ عملٍ صالح؟ أو لعلَّ الأجلَ يُملي لمسرفِ الذنبِ حتى يثوبَ إلى رشده..
لا والله بل يأتيكم بغتةً وأنتم لا تشعرون.
فلماذا يا عبادَ الله لماذا صار تذكّر الموت باردًا، وأثرُه باهتًا، حتى لا يكاد يعدو أن يكونَ خبرًا عابرًا، أو مجرّدَ مشاعرِ فَقْدٍ سُرعان ما تذوي.
لكنَّ معنى تذكّرِ الموتِ أعمقُ، وأثرُه أنجع،
حتى أنَّه ليكفي بذاتِه أن يكونَ الواعظَ والرادعَ للإنسان، قال الرسول ﷺ: كفى بالموتِ واعظًا. وقال بعضُ السلف: مَن أكثرَ ذِكرَ الموت أكرمه اللهُ بثلاث: بتعجيلِ التوبة وقناعةٍ في القلب ونشاطٍ في العبادة، ومَن نسيَ الموتَ عاقبه اللهُ بثلاث: بتسويفِ التوبةِ وتركِ الرِّضا بالقليلِ وتكاسلٍ في العبادة.
حريٌّ بنا يا عبادَ الله تذكُّرُ الموت، ولاسيما في وقتٍ فَشَتْ فيه المنكراتُ حتى أَلِفَها الناس، بل صاروا يمارسونَها ويجاهرونَ بها وينشرونها دون رادعٍ ولا زاجر، وهذا موذنٌ بخطرٍ عظيم حيَن يصلُ الإنسانُ إلى أن يأمنَ عذابَ الله ويأمنَ من الموت، وقد استفهم اللهُ عز وجل موبِّخًا وصولَ الإنسانِ لهذه المرحلة فقال: ﴿أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. هكذا يا عباد الله تكون مآلات الأمور، إما إن يسير الإنسان في هذه الحياة متيقِّظًا قلبُه يرى الموعظةَ رسالةً خاصةً له فيعيها وينتفع منها بالعمل الصالح والتوبة والاستغفار، وإما أن يسير سادِرًا في غيِّه مسرفًا في ذنبه، جسدٌ حي وقلبٌ ميِّت كما وصفه الرسول ﷺ في قوله: تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ.
اللهم يا ربَّنا أيقظ قلوبنا واستر عيوبنا واغفر ذنوبنا
أقول قولي هذا وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، أما بعد عباد الله،
إن التذكيرَ بالموت ليس تفكيرًا سلبيًّا ولا تنكيدًا مزاجيًّا، ولا ينبغي أن يكونَ كذلك، بل هو سببٌ ناجعٌ لتزكيةِ النفسِ بالتوبةِ والاستغفارِ والإكثارِ من الأعمالِ الصالحةِ، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾.
وقد حثَّ النبي ﷺ على زيارةِ القبورِ لهذا السبب، كي يرى الإنسانُ الموتى يتمنَّون العودةَ للحياةِ فيعملوا صالحًا، أما هو فيعودُ ليعملَ هذه الأعمالَ الصالحة، قال الرسول ﷺ : ((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)).
فحريٌّ بنا أن نتخذَ الموعظةَ بالموتِ وسيلةً لتجديدِ التوبةِ والتفكُّرِ في النفس وما قدَّمتْ في هذه الحياة، ما دام في أوقاتِنا فرصةٌ قائمةٌ، وفي أجسادِنا أنفاسُ تتحرك.
كما أننا يا عبادَ الله ينبغي أن نتعهَّدَ من استرعانا اللهُ إياهم من الزوجة والأبناء، وكذلك الأقاربَ والمعارفَ بالموعظة كما كان النبي ﷺ يتخوَّل الصحابةَ بالموعظة، حتى تحيى القلوبُ وتزكوَ النفوسُ وترقَّ الأفئدةُ فينقشعَ عنها دَنَسُ الرانِ، وتختفي منها غمامةُ الغفلة.
وإن أعظمَ المواعظِ وأبلَغها وأشدَّها تأثيرًا هي الموعظةُ بالقرآن الكريم، الذي وصفه اللهُ بالموعظة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلمُؤْمِنِين﴾.
فما أعظمَ وما أشدَّ فائدةً من الاتعاظِ بالقرآن، بما فيه من المواعظِ والأخبار، التي كانت غايتُها أن يتعظَ بها المتَّقون أولوا الألباب، كما قال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
اللهم انفعنا بالقرآن واجعلنا ممن يتعظ به،
اللهم آت نفوسنا تقوها وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها،
ربنا هبْ لنا من أزواجنا وذرياتنا قرةَ أعين واجعلنا للمتقين إماما، ربنا اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء.
اللهم ارفع عنا الوبا والغلا، اللهم ارفع عنا الوبا والغلا،
اللهم ارفع عنا الوبا والغلا،
اللهم من أرادنا بسوء أو فتنة أو فساد فأشغله في نفسه، وردَّ كيدَه في نحره واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا رب العالمين.
اللهم احفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك، وجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه ونائبه لما فيه خير البلاد والعباد.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين،
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا
اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً نافعاً غير ضار ، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1639727202_الموعظة بالموت.pdf