موعدنا مع الله ..

عبدالله حمود الحبيشي
1439/06/20 - 2018/03/08 14:21PM
الخطبة الأولى

إنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ..
أَمَّا بَعْدُ .. عباد الله .. إن بيننا وبين الله موعد (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) إنه موعد جدير بالتأمل والتفكر .. (إنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ) .. إنه الوعد الحق ولن يتخلف عنه أحد من خلق الله (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) .
إنه يوم العرض على الله (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى? رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) .
إنه مقام عظيم وعرض شديد .. إنه الوقوف أمام الملك العليم الحكيم القوي العزيز .. لا تخفى منا خافية .
(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .. (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) يوم تختبر سرائر الصدور، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه ، فتبيض وتسود ، ففي الدنيا تنكتم كثير من الأمور ، ولا تظهر عيانًا للناس ، وأما في القيامة ، فيظهر بِرُّ الأبرار ، وفجور الفجار ، وتصير الأمور علانية .. فكلنا معروض بين يدي الخالق أمام أعين الخلائق ، مكشوف لهم .. فيا لها من فضيحة! للخائن والمرائي والمخادع .. ظهرت سريرته الفاسدة وبانت (فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) .
(هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
ولقد جاء في الكتاب والسنة بعض الصور والمشاهد لهذا العرض ولهذا الموقف .
فمن مشاهد العرض على الله قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى? عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَ?ئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى? رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَ?ؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى? رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) .
صدوا بأنفسهم عن سبيل الله ، وصدوا غيرهم عنها ، فصاروا أئمة يدعون إلى النار .. وَيَبْغُونَ شريعة الله أن تعوج بالتحريف والتشويه.. واليوم هم أمام الله .. أمام الملك الجبار .. العظيم القهار يُعرضون عليه واقفين بين يديه .. فيسمعون ما لم يكونوا يسمعونه من قبل ، بل لا يجرأ أحد أن يقوله لهم قبل ذلك اليوم (هَ?ؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى? رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) .
كانوا في الدنيا طغاة متجبرين .. آمرين ناهين .. ظالمين متسلطين.. أما يوم العرض (وَلَوْ تَرَى? إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ) إنهم أهل الإجرام الذين أصروا على الذنوب العظيمة ، عابثين لاهين لم يؤمنوا بالبعث (لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا) .. فطففوا في تعاملاتهم .. فويل لهم (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَ?ئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وهاهم اليوم ناكسوا رؤوسهم ذلا ومهانة بين يدي الله وأمام خلقه .

ومشهد عظيم من مشاهد العرض على الله يصور لنا أعوان الفاسدين والظالمين وأذنابهم وهم يجادلون أسيادهم وكبراءهم .. يقول تعالى (وَلَوْ تَرَى? إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى? بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى? بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .

ويذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم مشهدا من مشاهد العرض على الله .. فيقول : (فيلقى العبدَ ) أي الله يلقى العبد الكافر (فيقول: أي فُلْ ! ألم أُكرِمْك ، وأُسَوِّدْك ، وأُزَوِّجْك ، وأُسخِّرْ لك الخيلَ والإبلَ، وأذرْك ترأسُ وتربعُ ؟ فيقول : بلى . قال فيقول : أفظننتَ أنك مُلاقي ؟ فيقول : لا . فيقول : فإني أنساك كما نسِيتني. ثم يلقى الثاني فيقول : أي فُلْ ! ألم أُكرِمْك ، وأُسوِّدْك ، وأُزَوِّجْك ، وأُسَخِّرْ لك الخيلَ والإبلَ ، وأذرْك ترأسُ وتربعُ ؟ فيقول : بلى . أي ربِّ ! فيقول : أفظننتَ أنك مُلاقي ؟ فيقول : لا . فيقول : فإني أنساك كما نسِيتني . ثم يلقى الثالثَ فيقول له مثلَ ذلك . فيقول: يا ربِّ ! آمنتُ بك وبكتابِك وبرسلِك وصليتُ وصمتُ وتصدقتُ . ويُثني بخيرٍ ما استطاع . فيقول : ههنا إذا . قال ثم يقال له : الآن نبعثُ شاهدَنا عليك . ويتفكَّر في نفسِه : من ذا الذي يشهدُ عليَّ ؟ فيختُم على فِيه . ويقال لفخِذِه ولحمِه وعظامِه : انطِقي. فتنطقُ فخِذُه ولحمُه وعظامُه بعملِه . وذلك ليعذرَ من نفسِه. وذلك المنافقُ . وذلك الذي يسخط اللهُ عليه" .

عباد الله .. وإذا كانت تلك بعض مشاهد الذل والهوان والمهانة يوم العرض على الله فهناك من يُكرم ويعز ويأمن نسأل الله أن نكون منهم ..
يقول عليه الصلاة والسلام (إن اللهَ يُدْنِي المؤمنَ ، فيَضَعُ عليه كنفَه ويَسْتُرُه ، فيقولُ : أتَعْرِفُ ذنبَ كذا : أَتَعْرِفُ ذنبَ كذا ؟ فيقول : نعم. أَيْ ربِّ ، حتى إذا قرَرَّه بذنوبِه ، ورأى في نفسِه أنه هلَكَ ، قال: ستَرْتُها عليك في الدنيا ، وأنا أغفِرُها لك اليوم ، فيُعْطَى كتابُ حسناتِه) .
ومشهد آخر من مشاهد العرض على الله فيه العدل وفيه الرحمة وفيه بيان فضل الذكر .. فيقول عليه الصلاة والسلام (إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رجلًا من أُمَّتي على رُءُوسِ الخَلائِقِ يومَ القيامةِ فينشرُ عليهِ تسعةً وتسعينَ سِجِلًّا ، كلُّ سِجِلٍّ مثلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يقولُ، أَتُنْكِرُ من هذا شيئًا ، أَظَلَمَكَ كتبَتِي الحافظونَ ؟ فيقولُ: لا يا رَبِّ ، فيقولُ أَفَلكَ عُذْرٌ ؟ فيقولُ : لا يا رَبِّ فيقولُ : بلى إِنَّ لكَ عندَنا حسنةً فإنَّهُ لا ظُلْمَ عليكَ اليومَ فتخرجُ بِطَاقَةٌ فيها أشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ فيقولُ أحْضُرْ وزْنَكَ ، فيقولُ : ما هذه البِطَاقَةُ مع هذه السِّجِلَّاتِ ؟ فقال : إِنَّكَ لا تُظْلَمُ ، قال : فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ في كَفَّةٍ ، و البِطَاقَةُ في كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وثَقُلَتِ البِطَاقَةُ ، فلا يَثْقُلُ مع اسْمِ اللهِ شيءٌ) .
فاتقوا الله عباد الله، وتأهّبوا للعرض الأكبر على الله (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) .
جعلني الله وإياكم ممن قال الله فيهم (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) .
اللهم اجعلنا من أهل السعادة في ذلك اليوم، وبيّض وجوهنا، وثقّل موازيننا، و ارض عنا يوم نلقاك .. أقول قولي هذا واستغفر الله ..

الخطبة الثانية ..

الْحَمْدُ لِلَّهِ ..
عباد الله .. رأى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شاتَينِ تنتطِحانِ ، فقال (يا أبا ذرٍّ ! أتدري فيما تنتطِحانِ)؟ قلتُ : لا ، قال (ولكنْ ربُّك يدري ، وسيقضي بينهما يومَ القيامةِ) ولكن ربك يدري .. فلا يضيع شيء ولا يُنسى .. شاتان بهيمتان نطحت هذه تلك يقض الله بينهم يوم القيامة.. فكيف بالبشر المكلفين ..
فمن ظلم وسرق وآذى وقصر .. ربك يدري .. ولذا قال عليه الصلاة والسلام مؤكدا ومحذرا (لتؤدُّنَّ الحُقوقُ إلى أَهلِها يومَ القيامةِ، حتَّى يُقتَصُّ للشَّاةِ الجَمَّاءِ ، مِنَ الشَّاةِ القَرناءِ بِنَطحِها) .
إنه يوم تجتمع الخصوم عند الله فلا يضيع حق ولا يُبخس أحد كائنا من كان .. بل حتى أهل النار لا يضيع حقهم إن كان لهم .. يقول عليه الصلاة والسلام (يَحشُرُ اللهُ الناسَ عُراةً غُرْلًا بُهْمًا ليس معهم شيءٌ فينادِي بصوتٍ يسمعُه من بَعُدَ كما يسمعُه من قَرُبَ أنَا الملِكُ أنَا الدَّيَّانُ لا ينبغي لأحدٍ من أهلِ الجنةِ أن يَدخلَ الجنةَ وأحدٌ من أهلِ النارِ يُطالبُه بمظلَمَةٍ ، و لا ينبغي لأحدٍ من أهلِ النارِ أن يَدخلَ النارَ وأحدٌ من أهلِ الجنةِ يُطالبُه بمظلَمَةٍ) قالوا وكيف وإنَّا نأتي عُراةً غُرْلًا بُهْمًا قال (بالحسناتِ والسيئاتِ) .
إنه العرض على الله والوقوف بين يديه .. لنتذكره ونستعد له (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ويقول عليه الصلاة والسلام (ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه تَرجُمانٌ ، فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عملِه ، وينظر أشْأَمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم ، وينظر بين يدَيه فلا يرى إلا النّارَ تلقاءَ وجهِه ، فاتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ) .
نسأل الله أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض
اللهم يسر حسابنا ويمن كتابنا واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أنت أعلم به منا
المشاهدات 3333 | التعليقات 0