موسمُ الغيث؛ فلنستسقِ لقلوبنا

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/09/06 - 2025/03/06 22:01PM

الحمدُ للهِ، الذي مَنَّ ببلوغِ الشَّهرِ، وتفضَّلَ على الناسِ بنُزولِ القرآنِ في ليلةِ القَدرِ، فأحيَا به القلوبَ، وأنارَ به العيونَ، وشرحَ به الصُّدورَ.

والصلاةُ والسلامُ، على مَن أُنزِلَ القرآنُ عليه، وأُمِرَ بالبلاغِ، فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِهِ حتَّى أتاهُ اليقينُ.

عبادَ اللهِ، مَنِ اتَّقى اللهَ، كانَ مِن أوليائِهِ، الذينَ لا خوفٌ عليهمْ ولا هم يحزنونَ.

قالَ تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَولِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: ٦٢-٦٣]

وبعدُ:

معاشرَ الصَّائمينَ، إذا انقطعَ الغيثُ عن الأرضِ، ساءَ حالُها؛ لأنَّهُ لا حياةَ لها بدونِهِ.

فتَقْفِرُ عندئذٍ، ويَغْبَرُّ وجهُها، وتَغِيضُ الآبارُ والعيونُ، وتَجِفُّ الأنهارُ، ويَتَقَلَّصُ الضَّرعُ، ويَجِفُّ الزَّرعُ، ويَضِيقُ العيشُ، ويكثرُ الخوفُ والمرضُ والجوعُ، ويُطِلُّ الموتُ برأسِهِ، مُهدِّدًا الإنسانَ والحيوانَ، فيرفعونَ رؤوسَهمْ بقنوطٍ إلى السماءِ، يَرجُونَ مِنْ ربِّهِمُ الغيثَ والرَّحمةَ.

هكذا كانَ حالُ البشريةِ، لمَّا انقطعَ عنها الوحيُ مِنَ السَّماءِ قبلَ بعثةِ النبيِّ - عليهِ الصلاةُ والسلامُ -.

طُمِسَتْ معالمُ الدينِ، الذي بَعَثَ اللهُ بهِ أنبياءَهُ ورُسُلَهُ السابقينَ؛ فانتشرتِ الخرافةُ والوثنيةُ، وفَشَتِ الفواحشُ والمُنْكراتُ، وأَكَلَ القويُّ الضَّعيفَ، فلا يجدُ القويُّ مَنْ يَرْدَعُهُ، ولا يجدُ الضَّعيفُ مَنْ يَنْصُرُهُ!

فبينا همْ كذلكَ، إذْ أَذِنَ اللهُ بنُزولِ الوحيِ، فأحيَا اللهُ بهِ القلوبَ بعدَ موتِها، وأنارَ بهِ البصائرَ، وصَلُحَ بهِ حالُ دُنياهمْ وأُخْراهمْ.

فكانَ لقلوبِهِمْ وعقولِهِمْ، بمثابةِ الغيثِ للأرضِ. وقدْ شَبَّهَهُ اللهُ بذلكَ، فقالَ:

﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: ١٧]

وكانتْ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، هي أوَّلَ قَطَراتِ هذا الغيثِ نُزولًا، ثمَّ تتابعَ نُزولُهُ حتَّى أكملَ اللهُ لعبادِهِ النِّعمةَ.

وكانَ هذا الحدثُ العظيمُ، في مثلِ هذا الشهرِ الكريمِ:

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: ١٨٥]

وللقرآنِ في رمضانَ خصوصيةٌ معروفةٌ، ففيهِ نَزَلَ، وبهِ يَتَرَنَّمُ الصَّائمونَ، ويَتَلَذَّذُونَ بتلاوتِهِ آناءَ الليلِ وأطرافَ النَّهارِ.

وكانَ جبريلُ - عليهِ السلامُ - يُدارسُ النبيَّ - عليهِ السلامُ - القرآنَ في كلِّ ليلةٍ مِنْ ليالي رمضانَ.

عن عبداللهِ بنِ عبَّاسٍ - رضيَ اللهُ عنهُما - قالَ:

“كانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنرَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ” رواهُ البخاريُّ.

وعلى إثرِهِ كانَ سَلَفُنا الصالحُ، فقدْ كانوا يَعرِفُونَ للقرآنِ قدرَهُ في رمضانَ، ويتفرَّغونَ لتلاوتِهِ وتدبُّرِهِ والإقبالِ عليهِ.

لذلكَ - أيُّها الصائمونَ - فشهرُ رمضانَ مِنْ كلِّ عامٍ، هو موسمُ الغيثِ.

وكما أنَّ مواسمَ الأمطارِ، مواسمُ جميلةٌ، يُحِبُّها الناسُ، تَنشَرِحُ فيها صُدورُهُم، وتَخْضَرُّ فيها أرضُهُم، وتَفيضُ فيها آبارُهُم وعيونُهُم وأوديتُهُم، فيَطيبُ بذلكَ مأكلُهُم وفرجتُهُم ونُزْهَتُهُم، فكذلكَ موسمُ غيثِ القلوبِ والعقولِ، يفرحُ بهِ المؤمنونَ، وتَنْشَرِحُ صُدورُهُم، وتَرِقُّ قلوبُهُم، ويَفيضُ البِشْرُ والخيرُ على وِجْدانِهِم، وتُعْمَرُ مساجدُهُم وبيوتُهُم.

فهيّا - أخي الصائمَ - في هذا الموسمِ، نستسقي لقلوبِنا، فما هوَ إلَّا أنْ تفتحَ دَفَّتَيْ المصحفِ، فيَنْهَمِرَ هذا الغيثُ على قلبِكَ، محمَّلًا بكلِّ أسبابِ حياةِ القلوبِ:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤]

تَتْلُوهُ، فَتَعْرِفُ رَبَّكَ، وَعَظِيمَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ؛ فَتُحِبَّهُ وَتَخْشَاهُ.

تَتْلُوهُ، فَتَعْرِفُ أَسْبَابَ النَّجَاةِ فَتَسْلُكُهَا، وَأَسْبَابَ الشَّقَاءِ فَتَنْأَى عَنْهَا.

تَتْلُوهُ، فَتَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدِ رَبِّكَ، فَيَعْظُمُ تَوَكُّلُكَ عَلَيْهِ، فَيُزِيلُ الْقُرْآنُ مَخَاوِفَكَ، وَتَغْمُرُ الطُّمَأْنِينَةُ قَلْبَكَ.

تَتْلُوهُ، فَتَعْرِفُ سَعَةَ رَحْمَةِ اللهِ وَعَفْوِهِ، فَلَا تَقْنَطَ، فَتَتَوَجَّهُ لِرَبِّكَ الْوَدُودِ الرَّحِيمِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ.

تَتْلُوهُ، فَتَعْرِفُ قِصَصَ الْغَابِرِينَ وَأَخْبَارَهُمْ، فَتَتَّعِظُ وَتَعْتَبِرُ.

تَتْلُوهُ، فَتَعْرِفُ حُدُودَ شَرْعِ رَبِّكَ وَمَحَارِمَهُ، فَلَا تَتَعَدَّاهَا.

تَتْلُوهُ، فَتَعْرِفُ دَلَائِلَ الْحَقِّ وَطَرَائِقَ التَّفْكِيرِ السَّلِيمِ، وسُبَلَ أهلِ الفسادِ؛ فَلَا يُغْوِيَكَ غَاوٍ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، أَوْ يَمْكُرَ بِكَ مَاكِرٌ.

وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ.

فَأَقْبِلْ - أَيُّهَا الصَّائِمُ - فِي هَذَا الشَّهْرِ، عَلَى كِتَابِ رَبِّكَ، وَأَكْثِرْ مِنْ تِلَاوَتِهِ، وَتَعَرَّفْ عَلَيْهِ، وَوَثِّقْ صِلَتَكَ بِهِ، وَتَدَبَّرْ مَعَانِيَهُ، فَإِنَّ بِهِ حَيَاةَ قَلْبِكَ وَهِدَايَتَهُ، وَطُمَأْنِينَةَ نَفْسِكَ وَسَعَادَتَهَا، فَبِقَدْرِ تَعَلُّقِكَ بِالْقُرْآنِ يَكُونُ تَخَلُّصُكَ مِنَ الضَّلَالِ وَالشَّقَاءِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿طه ۝ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: ١-٢].

 


أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ…

 


الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

وَبَعْدُ،

مَعَاشِرَ الصَّائِمِينَ: إِنَّ الْقُلُوبَ كَحَالِ الْأَرْضِ، مِنْهَا مَا يَنْتَفِعُ بِالْغَيْثِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ.

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ” رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي يَمْنَعُ مِنِ انْتِفَاعِ الْقَلْبِ بِالْقُرْآنِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِتِلَاوَتِهِ أُمُورٌ:

النِّفَاقُ، وَالْكِبْرُ وَبَطَرُ الْحَقِّ، وَالْحَسَدُ، وَالشَّهْوَةُ، فَهَذِهِ أُصُولُ الْمَوَانِعِ الَّتِي يَتَفَرَّعُ عَنْهَا الْكَثِيرُ مِنَ الْخَطَايَا وَالسَّيِّئَاتِ.

فَحَتَّى تَنْتَفِعَ قُلُوبُنَا بِالْقُرْآنِ، فَلَا بُدَّ أَوَّلًا، أَنْ نَجْتَهِدَ فِي إِزَالَةِ الْمَوَانِعِ، بِكَثْرَةِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ، وَمُرَاقَبَةِ هَذِهِ الْقُلُوبِ وَآفَاتِهَا، وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَالْأَمْرَاضِ، حَتَّى تَطْهُرَ، وَتَتَهَيَّأَ لِاسْتِقْبَالِ كَلَامِ اللهِ.

فَكَثِيرٌ مِنَّا إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللهُ، يَشْتَكِي مِنْ عَدَمِ التَّلَذُّذِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَلْنُفَتِّشْ عَنِ الْمَوَانِعِ أَوَّلًا، ثُمَّ نُزِيلُهَا، فَإِنَّ السَّبَبَ لَا يَعْمَلُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْمَانِعُ.

قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: “لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ، لَمَا شَبِعْتُمْ مِنْ كَلَامِ رَبِّكُمْ”.

أَيُّهَا الصَّائِمُونَ، إِذَا صَقَلَتِ التَّوْبَةُ قُلُوبَنَا، ثُمَّ أَصَابَهَا الْقُرْآنُ، حَلَّ الرَّبِيعُ بِهَا، كَمَا هُوَ حَالُ الْأَرْضِ إِذَا أَصَابَهَا الْغَيْثُ، وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: “اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا”.

وَمَنْ حَلَّ الرَّبِيعُ بِقَلْبِهِ، طَرَدَ كُلَّ جَدْبٍ وَقَحْطٍ، مِنَ الذُّنُوبِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْأَحْزَانِ وَالْأَكْدَارِ.

وَمَنْ حَلَّ الرَّبِيعُ بِقَلْبِهِ، أَثْمَرَ ثِمَارًا يَانِعَةً، وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ؛ مِنْ بَرٍّ وَخُشُوعٍ وَصِيَامٍ وَصَدَقَةٍ وَصَلَاةٍ وَذِكْرٍ وَتَوْبَةٍ وَدُعَاءٍ.

 


اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا، وَجِلَاءَ أَحْزَانِنَا، وَذَهَابَ هُمُومِنَا وَغُمُومِنَا.

 


اللَّهُمَّ انْفَعْنَا وَارْفَعْنَا بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُكَ وَخَاصَّتُكَ.

المشاهدات 1036 | التعليقات 0