مواقف تحي الأمة
ناصر محمد الأحمد
1437/06/13 - 2016/03/22 03:00AM
مواقف تحي الأمة
16/6/1437ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: حين يَدْلَهِمّ الخطب، ويجل الأمر، ويظهرالفساد، ويشيع الظلم في كثير من البلدان، حينئذ يخشى الناس على أنفسهم وأولادهم وذويهم، فيضطرون إلى الانزواء بعيداً عن معترك الأحداث بل ويخضعون لهذا الواقع المظلم، ويستسلمون له بعد أن أَلجمت ألسنتهم تلك الأوضاع، فنجدهم قد رضوا أن يتجرعوا مرارة الصبر، وربما شربوا كؤوس الذل والمهانة، لكن الظالم ينسى حين بغيه وجبروته تدبير الخالق العزيز الجبار وأنه له بالمرصاد، فيتمادى في بغيه ويزيد في طغيانه، ولكن يأبى الله إلا أن ينصر دينه ويتم نوره، ويدحض الباطل، ويعلي الحق، فيقيض لتلك الشعوب الذليلة المنكسرة من يخرجها من خنوعها وذلتها، ويبعث فيها روح العزة والكرامة، وذلك حين يضحي العلماء والدعاة بأنفسهم، ويقولون كلمة الحق لا يخافون في الله لومة لائم، ويقيض الله كذلك لأولئك الظلمة من يرهب قلوبهم بالصدع بكلمة الحق ابتغاء مرضاة الله، بعد أن يتخذوا كل الوسائل المتاحة والمشروعة لذلك، وبعد أن يصر الظالم على ظلمه، ويقف مِن شرع الله موقف المعارض، ويقف مِن الدعاة إلى الله موقف المعادي والمحارب.
إن إحياء الأمة من مواتها، وبعثها من غفوتها ونومها، وإخراجها من عبادة غير الله، وقيادتها إلى ربها وسوقها إليه سوقاً جميلاً، وحمل هذا الدين والسعي به والجهاد في سبيله، إن هذا وغيره هو من سمات العلماء الفحول عبر تاريخنا المجيد، ونستعرض هنا صوراً من مواقف أولئك العلماء لعلها تكون إحياءاً للغافلين، ورهبة للظالمين، إذ ضحوا بأرواحهم في سبيل إعلاء دين الله سبحانه، وهي العزاء لكل مسلم يسوؤه تلك التصرفات الجائرة ضد الدين ودعاته.
ولو استرجعنا التاريخ لوجدنا الأمر لا يكاد يختلف، بل يسجل التاريخ تلك الحقيقة الجليّة ألا وهي الصراع بين حزب الرحمن وحزب الشيطان، فإلى أولئك الذين يَسقطون ظلماً وعدواناً في الدفاع عن الإسلام ودعوته: ليعلموا أنه قد سبقهم أقوام على الطريق نفسه، وإليكم صوراً من تلك المواقف: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).
المثال الأول: الإمام البويطي:
هو العلامة، سيد الفقهاء، يوسف أبو يعقوب بن يحيى المصري البويطي صاحب الشافعي ولازمه مدة وفاق الأقران، وكان إماماً في العلم قدوة في العمل زاهداً ربانياً متهجداً، دائم الذكر. سعى به أصحاب ابن أبي دُؤاد حتى كتب فيه ابن أبي دُؤاد إلى والي مصر فامتحنه في محنة خلق القرآن فلم يُجب، وكان الوالي حسن الرأي فيه، فقال له: قل فيما بيني وبينك، قال: إنه يَقتدي بي مئة ألف، ولا يدرون المعنى! فأمر به أن يحمل إلى بغداد.
قال الربيع بن سليمان: رأيته على بغل في عنقه غلٌ، وفي رجليه قيدٌ وبينه وبين الغل سلسلة فيها لَبِنَةُ طوبٍ وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: "إنما خَلق الله الخلق بكن، فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقاً خُلق بمخلوق. ولئن دخلتُ عليه لأصْدُقَنّه يعني الواثق ولأموتنّ في حديدي هذا، حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم".
وتوفي رحمه الله في قيده مسجوناً بالعراق في سنة إحدى وثلاثين ومئتين من الهجرة.
المثال الثاني: الإمام نُعيم بن حماد:
هو العلامة صاحب التصانيف، وكان شديداً في الرد على الجهمية حُمل إلى العراق في إبان تلك الغيمة مع البويطي مقيدين. وكان يقول: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس في ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه".
قال ابن يونس: حُمل على القول بتلك الفرية فامتنع أن يجيب فسجن ومات في سجنه سنة تسع وعشرين ومئتين، وجر بأقياده، فألقي في حفرة، ولم يكفن ولم يصلى عليه. وأَوصى نُعيم بن حماد أن يدفن في قيوده وقال: "إني مخاصم".
المثال الثالث: الإمام الخزاعي:
هو أبو عبد الله أحمد بن نصر الخزاعي، كان أمّاراً بالمعروف، قوّالاً بالحق من أكابر العلماء العاملين، ومن أهل العلم والديانة.
حمل من بغداد إلى سامراء مقيداً، وجلس له الواثق فقال له: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله، قال: أفمخلوق هو؟ قال: كلام الله، قال: فترى ربك يوم القيامة؟ قال: كذا جاءت الرواية، قال: ويحك يُرى كما يُرى المحدود المتجسم، ويحويه مكان، ويحصره ناظر؟ أنا كفرت بمن هذه صفته، ما تقولون فيه؟. فقال قاضي الجانب الغربي: هو حلال الدم، ووافقه فقهاء، قال الواثق: ما أراه إلا مؤدياً لكفره قائماً بما يعتقده، ودعا بالسيف وقام وقال: إني لأحتسب خُطاي إلى هذا الكافر، فضرب عنقه بعد أن مدوا له رأسه بحبل وهو مقيد. قال الحسن بن محمد الحربي: سمعت جعفر الصائغ يقول: رأيت أحمد بن نصر حين قتل، قال رأسه: لا إله إلا الله والله أعلم.
وعُلّق في أذن أحمد بن نصر ورقة فيها: هذا رأس أحمد بن نصر دعاه الإمام إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة فجعله الله إلى ناره، وبقي رأسه منصوباً ببغداد، والبدن مصلوباً بسامراء وفي رجليه زوج قيود.
هذه صور لابتلاء العلماء على مر التاريخ من الظلمة، والنتيجة أن أولئك العلماء يُترحم عليهم حتى الآن، أما أولئك الظلمة المحادون لله ولرسول ولشريعته، فإنهم محل المقت والكراهية: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون)
أيها المسلمون: إن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب استحكم الولاء له وكان العطاء للدين سخياً غاية السخاء لأنه معاملة مع كريم وتلقٍ لمننن من إله عظيم. وإذا كانت الحياة تقدم فداء للدين وثمناً له، فهي كذلك تسخر لخدمة الدين وللعطاء له، إذ كل ما فيها لله، وإذا هي حياة أوقفت كلها لله. وإن الإنسان ليأخذه الدهشة والعجب كما تغمره الروعة والخشوع وهو يستعرض ذلك الجهد الموصول، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التأريخ.
إنها نقطة في بحر الإيجابية الذي خاضه أسلافنا فأثمر جهادُهم وبذلُهم أعظم إنجاز يوم طوي بساط المشرق إلى الصين وبساط المغرب إلى المحيط، وما كان هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي رجال يعلنون في كل موقعة قائلين: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
إن هذا المعنى العظيم معنى العطاء للدين والبذل له وتسخير الحياة من أجله حتى إذا الحياة كلُها بليلها ونهارها، وإذا النفس بمشاعرها ووجدانها وبكل طاقاتها مسخرة لهذا الدين. هذا المعنى توارى أو خفت في نفوس كثير من المسلمين بل ضعف في نفوس الشباب المتدين ذاته. لقد قال الله جل وعلا: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز) (الحديد:25). فكونوا أنصار الله وخوضوا في بحر البذل والعطاء لدين الله دعوةً وتعليماً وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.
أنت يا أخي قادر على أن تفعل للإسلام الكثير مهما قل علمك وضعف تدبيرك وخفي اسمك وجهل قدرك.
أنت كنـز الدر والياقوت في لجة البحر وإن لم يعرفوك
محفل الأجيال محتاج إلى صوتك العالي وإن لم يسمعوك
قل وردد: أنا سهم للإسلام فحيث كانت مصلحة الإسلام فارموا بي هناك.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: إن الغيرة على الدين وحمل همّه يجب أن تكون هاجس كل واحد منا، وهماً يجري في عروق كل مسلم صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً أو أنثى، عالماً أو جاهلاً، صالحاً أو فاسقاً، فلا يجوز أن تكون الذنوب والخطايا حاجزاً وهمياً بين العبد وبين العمل الإيجابي لهذا الدين، نريد أن يكون همّ هذا الدين يلاحق المرأة في بيتها، والرجل في متجره، والمعلم في فصله، والطالب مع زملائه، والموظف في دائرته، بل ويحمله الشاب على الرصيف وفي مدرجات الملاعب، فلم تكن الخطيئة يوماً مهما عظمت حائلاً بين المسلم وبين أن يساهم في نصرة هذا الدين، فقد ذهب بعض الصحابة إلى غزوة أحد بعد ليلة من شرب الخمر كما في صحيح البخاري، أنه اصطبح ناس الخمر يوم أحد ثم قتلوا شهداء.
وفي قصة أبي محجن الثقفي عبرة وعظة وهو الذي كان يشرب الخمر ويُجلد عليها فلم يمنعه ذلك عن الجهاد في القادسية، وكعب بن مالك وهو المتخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعه ذلك من الاعتزاز بدينه والتمسك به أمام إغراءات ملك غسان.
إن العمل للدين ليس مصنفاً إلى شرائح وفئات، فكل مسلم بانتمائه للإسلام عامل للدين مهما كان عليه ومهما كان فيه من خطأ، ومهما اعتراه من تقصير، فينبغي ألا تُضيف إلى أخطائك خطأ آخر هو القعود عن العمل للدين.
إن العمل للدين ليس وظيفة تصدر برقم وتاريخ، ولكنه صدر بأمر رباني برقم مائة وخمسة وعشرين من سورة النحل: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة) (النحل:125).
إن العمل للدين ينبغي أن يبقى ظاهراً في حياتنا، نراه في شاب يوزع شريطاً أو كتاباً، نراه في شاب يبلغ كلمة، نراه في موقف يعلن إنكار منكر، نراه في معلم يوجه طلابه، وأب يرشد أبنائه، نراه هنا ونراه هناك.
إن العمل للدين أمر لا نستخفي به ولا نتستر عليه بل ينبغي أن تبقى ساحتنا فوارة بالعمل الضخم للدين، نراه في كل فلتة وفي كل لفتة: (وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) (محمد:38) .
أيها المسلمون: إن الدعوة إلى الله عز وجل صورة من صور العمل لهذا الدين ومظهر من مظاهر الغيرة عليه. كل الكلمات تسقط وتبقى كلمة الداعية، وكل العبارات تهوي وتسمو كلمة الداعية، الدعوة إلى الله من أعظم ما يُتقرب به إلى الله كما قال ابن القيم رحمه الله: "مقام الدعوة إلى الله من أشرف مقامات التعبّد".
إن مما يقوي في قلبك الغيرة على دين الله أن تستشعر المسؤولية وجسامتها وأن تقدر الخطر الداهم على أمتك وتستشعر استمرارية دعاة الباطل في إشاعة باطلهم: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيما) (النساء:27). (وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُم) (ص:6). (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّه) (الانفال:36).
فأنت ترى أصحاب الملل الباطلة والنحل الضالة يبذلون كل غال ورخيص دفاعاً عن باطلهم ونشراً لمبادئهم دون انتظار لجزاء دنيوي.
مؤسف كل الأسف أن ترى بعض شبابنا يقضي مع زملائه سنين عدداً في مقاعد الدراسة، أو موظفاً مع زملائه، لم يتلقوا منه كلمة نصح، أو توجيهاً لمعروف، أو تغييراً لمنكر، أو مساهمة في نشر الخير ودعوة الغير.
لابد من العمل للدين على كل المستويات، دعوة للمنحرفين والغافلين إلى التمسك بالإسلام، ودعوة للمتمسكين به لبعث هممهم وتعريفهم بطريق العمل وفقه الدعوة، لابد من الدعوة إلى الله وعلو الهمة فيها لانتشال الأمة من تيهها الذي تهيم فيه، فالسواد الأعظم قد انحرف غير ما قصد كيدٍ ولا إرادة سوء، لابد من الدعوة إلى الله لاستنقاذ العصاة الذين تخلفوا عن منازل الفضل، لابد من الدعوة إلى الله وإلا فسدت الأرض، وأَسِنَت الحياة وتعفنت وذاقت البشرية الويلات من بُعدها عن منهج الله، حينما يعيش المسلم الدعوة إلى الله يومها فقط سيذوق معنى السعادة.
إن السعادة أن تعيش لفكرة الحق التليد ..
لعقيدة كبرى تحل قضية الكون العتيد ..
وتجيب عما يسأل الحيران في وعي رشيد ..
فتشيع في النفس اليقين وتطرد الشك العنيد ..
وترد للنهج المسدد كل ذي عقل شريد ..
هذه العقيدة للسعيد ..
هي الأساس هي العمود من عاش يحملها ويهتف باسمها فهو السعيد ..
اللهم ..