مواعظ سورة الزلزلة.

عبدالله بن رجا الروقي
1436/07/04 - 2015/04/23 20:03PM
أما بعد فإن الله سبحانه قد أمر بتدبر كتابه فقال تعالى:
﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾

ومن سور القرآن التي تتلى على أسماعنا كثيرا ونحتاج إلى تدبرها سورة الزلزلة يقول الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَأَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8) }
هذه السورة تضمنت شيئا من أهوال يوم القيامة فيه عظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فقوله تعالى: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾
أي: تحركت من أسفلها ، وزلزلت زلزالًا عظيمًا يعم الأرض كلها وقد جاء بيان ذلك وما يصيب الناس من الفزع العظيم في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾

﴿ وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾ يعني: ألقت ما فيها من الموتى والكنوز، قال تعالى في سورة الانشقاق: ﴿ وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت ﴾ .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيءالقاتل فيقول: في هذا قَتَلْتُ، ويجيء القاطع فيقول: في هذاقَطَعتُ رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قُطِعت يدي، ثم يَدَعُونه فلا يأخذون منه شيئا" رواه مسلم.

وقوله تعالى : ﴿ وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا ﴾ أي: استنكر أمرها بعد ما كانت قارة ساكنة ثابتة، إذ هي تتحرك وتضطرب ، وتلقي ما في بطنها منالأموات من الأولين والآخرين، وحينئذ يسأل الناسُ هذا السؤال استنكارًا واستعظامًا لما أصابها.

وقوله: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ أي: تحدث بما عملالعاملون على ظهرها من خير وشر فإن الأرض من الشهود الذين يشهدون على العباد بأعمالهم.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ قال: قال لها ربها: قولي، فقالت.ا.هـ
وقوله: ﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ أي: أمرها. فالله سبحانه وتعالي يأمر الأرض أن تخبر بما عمل عليها.
والأرض هي أحد الشهود على الأعمال ، وهناك شهود آخرون ، فمنهم الملائكة قال تعالى : ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ *
كرامًا كاتبين * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾
ومن الشهود أعضاء الإنسان وجوارحه قال تعالى ﴿ ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰٓ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ ﴾ وقال تعالى ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْغَٰفِلَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ لُعِنُوا۟ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌۭ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ﴾
وهناك الشاهد الأعظم على أعمال العباد وهو الله رب العالمين ، قال سبحانه وتعالى : ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدًا ﴾.
وإذا علم الإنسان حق العلم أن عليه شهودًا وكتبة حافظين فعليه أن يخشى من الله عزوجل ويحذر من معصيته ، قال تعالى ﴿ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍۢ وَمَا تَتْلُوا۟ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍۢ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَٰبٍۢ مُّبِينٍ ﴾

ثم قال تعالى في سورة الزلزلة : ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا ﴾ أي: يرجعون من موقف الحساب أنواعًا وأصنافًا وفرقا، ما بين شقي مأمور به إلى النار، وسعيد مأمور به إلى الجنة.

وقوله تعالى: ﴿ لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي: ليشاهدوا أعمالهم ويجازوا عليها من خير وشر. ولهذا قال: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ أي أن الإنسان سيجد في صحيفة عمله ماقدمه من خير أو شر ولو كان يسيرا جدا ففي هاتين الآيتين الأخيرتين غاية الترغيب في فعل الخير ولو كان قليلا وغاية الترهيب من فعل الشر ولو كان حقيرا ويدل على ذلك قوله تعالى:
﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾ وقوله تعالى:
﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ وقوله تعالى : ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ﴾

وفي الصحيحين أن النبي ﷺ تحدث عن الخيل وأنها بحسب نية مقتنيها فسئل عن الحُمُر فقال: "ما أنزل الله فيها شيئًا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْمِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } .
ومَعْنَى الْفَاذَّةِ: الْقَلِيلَةُ النَّظِيرِ ، وَالْجَامِعَةِ: أَيْ التَّامَّةُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِكُلِّ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ.

وعن صعصعة بن معاوية –رضي الله عنه-: أنه أتى النبي ﷺ فقرأ عليه ﷺ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْيَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } قال: حسبي! لا أبالي ألا أسمع غيرها. رواه أحمد.

وقد حث النبي ﷺ على فعل الخير حتى ولو كان صدقة
يسيرة جدًا أو كلمة طيبة قال ﷺ : " لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ ، وَلاَ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ أَلَمْ أُوتِكَ مَالاً فَلَيَقُولَنَّ بَلَى ثُمَّ لَيَقُولَنَّ أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولاً فَلَيَقُولَنَّ بَلَى فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ ثمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلاَيَرَى إِلاَّ النَّارَ فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ." رواه البخاري
وفي رواية له : اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ اتَّقُواالنَّارَ ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ.
وعند مسلم: « مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ ».

وعَنِ جَرِيرٍ رضي الله عنه أن رَسُولِ الله ﷺ خَطَبَ فَقَالَ « (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) وَالآيَةَ الَّتِى فِىالْحَشْرِ (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تمرةٍ...الحديث». رواه مسلم
.
وقد كان النبي ﷺ ينهى أصحابه عن احتقار شيء من المعروف يعمله المسلم ، ولو كان يسيرًا ، فإن الإنسان في أشد الحاجة لحسنة يعملها ، فعن أَبِى ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ ﷺ « لاَتَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ ».رواه مسلم.

وكذلك أوصى النَّبِيِّ ﷺ النساء فقالَ: يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسَنَ شَاةٍ. يعني: ظلفها.

عباد الله ، الحذرَ الحذرَ من التساهل في الذنوب اتكالًا على رحمة الله ، ومغفرته ، وأملاً في التوبة بعد فعل الذنب ، فإن الله قد حذر عبادٓه نفسه ، فقال تعالى : ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُۥ ۗ وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ ﴾ ، وربما لايوفق العبد للتوبة فيُحال بينه وبينها قال تعالى : ﴿ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾
وقد حذر النبي ﷺ من ذلك فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ كان يقول: "يا عائشة، إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا". رواه ابن ماجه .
قال البخاري رحمه الله: باب مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ.
ثم ذكر حديث أَنَسٍ ، رَضِيَ الله عنه قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُوبِقَاتِ.
والموبقات: المهلكات.

كل هذه الأحاديث تفيد الحث الشديد على العمل الصالح ولو كان يسيرًا
والتحذير البالغ من عمل السوء ولو كان قليلا وهو مادلت عليه سورة الزلزلة.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
المشاهدات 3379 | التعليقات 1

ما شاء الله تبارك الله أحسنت وأجدت شيخ عبدالله كتب الله أجرك ونفع بك.