مواعظ القرآن (4)
د. محمود بن أحمد الدوسري
1441/09/25 - 2020/05/18 19:43PM
مواعظ القرآن (4)
د. محمود بن أحمد الدوسري
الحمد لله وكفى, وصلاةٌ وسلامٌ على عبادِه الذين اصطفى؛ أمَّا بعد: فإنَّ الذي يخشعُ لله تعالى, ويَخْضَعُ له, ويُذِلُّ نفسَه لخالِقِه في دُنياه يُؤَمِّنُه اللهُ تعالى في أُخراه, والذي لا يخشع لله تعالى ولا يركع ولا يسجد يكون ذَلِيلاً في أُخراه, ويكون هناك خشوعُه اضراراً رَغْماً عنه, قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 1, 2]. فَوُجوه أهلِ الكفرِ والضَّلال تكون ذليلةً يوم القيامة, خاشعةً خشوعاً اضطرارياً؛ من الذل والفضيحة والخزي.
* قال الله تعالى - واصِفاً طعامَ أهلِ النار: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6]. والضَّرِيع: نباتٌ ذو شَوك, يقال له: الشِّبْرِق, وهو سُمٌّ من السُّموم, وهو طعامٌ من شرِّ وأخْبَثِ أنواعِ الطعام, فإذا يَبِسَ قِيلَ له الضَّرِيع. وقال تعالى - في مَوضِعٍ آخَرَ: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 35, 36]. والغِسْلين: هو صَدِيدُ أهل النار.
وهذا يدل على أنَّ النار دَرَكاتٌ؛ فمِنْ أهلها قومٌ ليس لهم طعام إلاَّ من ضَرِيع, وقومٌ آخَرِين ليس لهم طعام إلاَّ من غِسلين. والقولُ في الطعام, كالقول في الشراب؛ فمنهم مَنْ شرابُه الحَمِيم, ومنهم مَنْ شرابُه الصَّدِيد.
والسؤال هنا: كيف ينبتُ "الضَّرِيعُ" في النار؟ فيقال: إنَّ الله تعالى على كل شيء قدير, وهو الذي خَلَقَ النارَ, وهو قادر على أنْ يجعلَها لا تأكل الضَّريع؛ كما قال لها: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69], فهو سبحانه قادر على أنْ يجعلَها تحرق الكفارَ, ولا تحرق الضَّريع. واللهُ تعالى يخلق ما يشاء, ويفعل ما يُريد, لا مُعَقِّب لِحُكمِه, ولا رادَّ لِقضائه تبارك وتعالى.
وهذا الاعتراض؛ كاعتراض كفَّار قريشٍ, إذْ تَعَجَّبوا من قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات: 62], فبيَّن اللهُ تعالى أنَّ هذه الشجرةَ جعلَها فِتنةً لهم, فقال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [أي: في قَعْرِ النار] * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 63-65]. فهذا تَبْشِيعٌ لها وتَكرِيهٌ لذِكرِها. قال قتادة - رحمه الله: (ذُكِرَتْ شجرةُ الزقوم، فافْتُتِنَ بها أهلُ الضلالة، وقالوا: صاحِبُكم ينبئكم أنَّ في النار شجرةً، والنارُ تأكل الشجر! فأنزل الله عز وجل: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} غُذِّيَتْ من النار، ومنها خُلِقَتْ). وقال مجاهد - رحمه الله: ({إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} قال أبو جهل - لعنه الله: إنما الزقومُ التَّمْرُ والزُّبْدُ أتَزَقَّمُه).
وكما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60]. عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: (هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ, {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ}: هي شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) رواه البخاري.
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله: (إنَّ ناسًا رَجَعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنه لم تحتملْ قلوبُهم وعقولُهم ذلك، فكَذَّبوا بما لم يُحيطوا بِعِلمه، وجَعَلَ اللهُ ذلك ثباتًا ويقينًا لآخَرِين؛ ولهذا قال: {إِلاَّ فِتْنَةً} أي: اختبارًا وامتحانًا. وأمَّا "الشجرةُ الملعونةُ": فهي شجرةُ الزقوم؛ كما أخبرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنةَ والنار، ورأى شجرةَ الزقوم، فكذَّبُوا بذلك, حتى قال أبو جهلٍ - لعنه الله: هاتوا لنا تَمْرًا وزُبْدًا، وجعلَ يأكُلُ هذا بهذا, ويقول: تَزَقَّموا، فلا نَعْلَمُ الزقومَ غيرَ هذا).
* قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]. والمقصود بالغاشية: هي القيامة؛ لأنها تغشى الناسَ بالأهوال. وقيل: هي النار؛ لأنها تغشى وُجوهَ الناس؛ كما قال سبحانه: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} [إبراهيم: 50] أي: تُغَطِّي وجُوهَهم بِلَفْحِها ولَهِيبِها؛ كما قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]. واختار ابنُ جرير الطبري - رحمه الله - التَعمِيمَ. أي: أنَّ النارَ والقيامةَ كِلاهُما غاشيةٌ. فقال - رحمه الله: (وَكِلْتَاهما غاشية؛ هذه تَغْشَى الناسَ بالبلاءِ والأهوالِ والكُروب، وهذه تَغْشَى الكفارَ باللَّفْحِ في الوُجوه).
أيها الإخوة الكرام.. وهناك توجيهٌ آخَرُ لأهل العلم - في الغاشية: نَعَمْ هي عامَّة, ولكن على الناس جميعاً, فتغشى أقواماً بالعذاب, وتغشى أقواماً بالرحمة. وهم المؤمنون الذين قال اللهُ فيهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية: 8]. ولم يُعطف بالواو؛ لاخْتِلافِ مَضْمُونيهما. و{يَوْمَئِذٍ}: هو يومُ الغاشيةِ المُتقدِّم, وهذا يقتضي أنَّ الغاشيةَ عامَّةٌ في الفريقين. فمنهم مَنْ تغشاه بِهَولِها - وهم الكفار الذين غَشِيَهم العذابُ حِسًّا ومَعنى ظاهراً وباطنا. ومنهم مَنْ تغشاه بنعيمِها - وهم المؤمنون الذين تَغْشاهم النِّعْمَةُ والنَّعيم, كما غَشِيتْ أولئك النِّقمة.
فالغاشية تُطلق على الخير, كما تُطلق على الشر, وهي بمعنى: الشُّمول والإحاطة التامة. ومن إطلاقها على الخير؛ ما جاء في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» رواه مسلم.
* قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]. والاستفهام هنا للتوبيخ والتَّقريع؛ لأنهم أنكروا البعثَ, واستبعدوا وقوعَه, والمعنى: أفلا ينظرون إلى الإبل - التي هي غالِبُ مواشِيهِم, وأكثرُ ما يُشاهدونه من المخلوقات - كيف خُلِقَتْ خَلْقاً مَعْدُولاً به عن سائر أنواع الحيوانات, على ما هي عليه من الخَلْقِ البديع؛ من عِظَمِ جُثَّتِها, ومَزِيدِ قُوَّتِها, وبَدِيعِ أوصافِها.
الخطبة الثانية
الحمد لله ... أيها المسلمون .. قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]. وهذا الكَبَدُ هو العَنَاءُ والمَشَقَّةُ والجَهْدُ والتَّعبُ والنَّصَب, من قولهم: كابَدَ فُلانٌ الأُمورَ, وقال بهذا أكثرُ أهل العلم, وقد لَخَّصَ ذلك القرطبيُّ - رحمه الله - فقال: (قال علماؤنا: أوَّلُ ما يُكابِدُ قَطْعَ سُرَّتِه, ثم إذا قُمِطَ قِماطاً وشُدَّ رِباطاً؛ يُكابِدُ الضِّيقَ والتَّعَب, ثم يُكابِدُ الارتضاع, ولو فاته لَضَاع, ثم يُكابد نَبْتَ أسنانِه, وتَحَرُّكَ لِسانِه, ثم يُكابد الفِطامَ, الذي هو أشدُّ من اللَّطام, ثم يُكابد الخِتانَ والأوجاعَ والأحزان, ثم يُكابد المُعلِّمَ وصَولَتَه, والمُؤدِّبَ وسِياسَتَه, والأستاذَ وهَيبَتَه, ثم يُكابد شُغْلَ التَّزويج والتَّعجيلِ فيه, ثم يُكابد شُغْلَ الأولادِ والخَدَم, ثم يُكابد شُغل الدُّورِ, وبِناءَ القصور, ثم الكِبَرَ والهَرَم, وضَعْفَ الرُّكبة والقَدم, في مَصائِبَ يكثُرُ تِعدادُها, ونوائِبَ يَطول إِيرادُها؛ من صُداعِ الرأسِ ووَجَعِ الأضراس, ورَمَدِ العين, وغَمِّ الدَّين, ووَجَعِ السِّنِّ, وأَلَمِ الأُذن, ويُكابد مِحَناً في المال والنفس؛ مِثْلُ الضَّرْبِ والحَبْسِ, ولا يَمْضي عليه يومٌ إلاَّ يُقاسي فيه شِدَّة, ولا يُكابد إلاَّ مَشقَّةً, ثم الموتُ بعد ذلك كلِّه, ثم مُساءلةُ المَلَكِ, وضَغْطَةُ القَبْر وظُلمَتُه, ثم البَعْثُ والعَرْضُ على الله تعالى, إلى أنْ يَسْتَقِرَّ به القرارُ إمَّا في الجنة وإمَّا في النار, قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} فلو كان الأمرُ إليه؛ لَمَا اختارَ هذه الشدائِدَ, ودَلَّ هذا على أنَّ له خالِقاً دَبَّرَه, وقضى عليه بهذه الأحوال فَلْيَمتثِلْ أمْرَه).
عبادَ الله .. ما صَغَّرَ النَّفْسَ مِثلُ المعصية, ورَفَعَها وشَرَّفها مِثلُ طاعَةِ الله؛ قال تعالى - عن النفس: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]. وأصْلُ التَّدْسِيَة: الإخفاء, ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 59], فالعاصِي يَدُسُّ نفسَه بالمعصية, ويُخْفِي مكانَها, ويتوارى من الخَلْق من سوءِ ما يأتي به, قد انْقَمَعَ عند نفسِه, وانقمعَ عند الله, وانقمعَ عند الخَلْق, فالطاعةُ والبِرُّ تُكْبِرُ النفسَ وتُعِزِّها وتُعليها حتى تصيرَ أشرفَ شيءٍ وأكبَرَه وأزكاه وأعلاه, ومع ذلك فهي أذلُّ شيءٍ وأحْقَرُه وأصغَرُه لله تعالى. وبهذا الذُّل لله تعالى؛ حصل لها العِزُّ والشَّرف, فما صَغَّرَ النفسَ مِثْلُ معصيةِ الله, وكَبَّرَها وشرَّفها ورفعَها مِثْلُ طاعةِ الله.
* قال الله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]؛ إنَّ عطاءَ اللهِ تعالى لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ ومُتنوِّع, ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» رواه البخاري ومسلم. ومن ذلك: القرآنُ والسَّبعُ المثاني, وهي الفاتحة, قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]. ومن ذلك: نهرُ الكوثر, قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟». فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ, هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه مسلم. ومن ذلك: شهادةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم على أُمَّته, وشهادةُ أُمَّته على سائر الأُمم, قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. ومن ذلك كونُه صلى الله عليه وسلم جُعِلَ سَيِّدَ ولدِ آدم. ومن ذلك: المقامُ المحمود, والحوضُ المَوْرُود. نسألُ اللهَ تعالى أنْ نَشْرَبَ منه شَرْبَةً هَنِيئةً لا نَظْمَأ بعدها أبداً.
المرفقات
مواعظ-القرآن-4
مواعظ-القرآن-4