مواسم المغفرة وإطلالة رمضان

د. عبدالله بن حسن الحبجر
1443/08/28 - 2022/03/31 08:27AM

ألقيت في تأريخ 25 / 11 / 1422 هــ .

ثم أعيد نشرها بتصرف يسير لموافقة استقبال شهر رمضان المبارك .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

أيها الأخ المسلم ...

يأسرك هذا الدين بحسن أحكامه ، ويمتلك قلبك بروعة نظامه ، فهو مبرأ من المشقة ، منزه عن العبث ، بعيد عن العنت ، سليم من الحرج ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) ( هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ) فالمتأمل فيه يجد أمراً عجباً ، والمتفقه فيه يزداد فرحاً ، ويمتلئ به سروراً ، اتصف مشرعه جل وعلا بالعفو ، وبنيت أحكامه على الرفق ، وأقيمت دعائمه على اللطف ، وأسست قواعده على الرحمة ( ورحمتي وسعت كل شيء ) ولما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده ( سبقت رحمتي غضبي ) فالله جل وعلا أرحم الراحمين.

والكتاب الذي أنزله ( هدى ورحمة ) والنبي الذي أرسله ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) إن الله تعالى بلطفه وعفوه وجوده وكرمه وفضله وإحسانه هيأ لعباده مواسم الطاعة وميادين العبادة ، وأفانين البر ودروب الإحسان ، فهو لا يريد لعباده العذاب ، ولا يحب لهم أن يدخلوا النار ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليما ) ولعلمه جل وعلا بضعف الإنسان وجهله وغفلته وتفريطه هيأ له أبواباً للخير كثيرة ، وطرقاً للبر عظيمة ، وأسباباً للمغفرة متعددة ، جعل أبواباً للتوبة مشروعة ، ويسر للجنة طرقاً واسعة ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ).

عفو يحب العفو، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، نادى عباده المسرفين على أنفسهم نداءً يفيض بالرحمة ويشرق بالأمل ويتلألأ بالعفو ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ) وفي الحديث القدسي ( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ) أخرجه الترمذي.

فلنتأمل شيئاً من تلك الرحمات المتدفقة والعطايا المتعددة.

هيأ تعالى لعباده مواسم للخير عظيمة ، تغفر فيها ذنوبهم ، وتكفر فيها سيئاتهم ، وترفع فيها درجاتهم ، وتحط بها خطاياهم ، منها ما هو يومي ومنها ما هو أسبوعي أو شهري أو سنوي.

فاليومي الصلوات الخمس ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ) وقال r : ( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة ، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذك الدهر كله ) رواه مسلم.

ويقول r : ( خمس صلوات افترضهن الله عز وجل ، من أحسن وضوءهن وصلاتهن بوقتهن ، وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن ، كان له على الله عهد أن يغفر له ) رواه أبو داود.

بل الأعجب من ذلك ، والأعظم مما هنالك ، أن الإنسان قد تغفر ذنوبه وتمحى عيوبه قبل أن يدلف إلى الصلاة ، وقبل أن يمثل بين يدي مولاه ، وذلك بالوضوء ( من توضأ فأحسن الوضوء ، خرجت خطاياه من جسده ، تخرج من تحت أظفاره ) أخرجه مسلم.

ومن المواسم ما هو أسبوعي: وذلك يوم الجمعة الذي فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه.

يقول r : ( من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ) أخرجه مسلم.

وأما المواسم الشهرية فمثل قوله r ( صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله ) متفق عليه.

وأما المواسم السنوية فكثيرة كقوله r حينما سئل عن يوم عرفة ( يكفر السنة الماضية والباقية ) ومثل صوم يوم عاشوراء ( يكفر السنة الماضية ) رواه مسلم.

ومن المواسم السنوية ما يستمر شهراً كاملاً تتنزل فيه الرحمات ، ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه.

وجعل فيه عشر ليال هي أعظم ما فيه ، وأعظمها ليلة واحدة هي ليلة القدر ، فمن أدركها وقامها إيماناً واحتساباً غفر له ، بل هي بنص القرآن الكريم خير من ألف شهر ).

ثم جعل من المواسم السنوية ما يستمر قرابة الأسبوع وهو حج البيت الحرام ، فمن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) وجعل في شهر ذي الحجة عشرة أيام هي أهم ما فيه وأفضل أيام السنة ، وهي العشر الأول من ذي الحجة ، وجعل أفضلها يوم عرفة ، فمن صامه غفر له السنة الماضية والباقية ، ومن شهده مع الحجيج فقد أشهد الله ملائكته أنه قد غفر لهم ) .

أسأل الله تعالى ألا يحرمنا أجر هذه الأيام وهذه المواسم العظيمة، وأن يكتب لنا فيها حظاً ونصيباً وافراً ، وأن يتجاوز فيها عن سيئاتنا وأن يشمل بالرحمة والدينا وإخواننا المسلمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده          وبعد:

فلا يزال المؤمن في هذه الدنيا ينتقل من خير إلى خير ، ومن موسم إلى موسم ومن فضل إلى فضل ، يتعرض لنفحات الله ، ويستنزل رحماته والأعجب من ذلك كله أنه تعالى قد هيأ لهم فوراً أخرى عظيمة ، وطرقاً كثيرة متنوعة في منتهى اليسر وفي غاية السهولة ، ليس فيها تعب ولا يعتريها نصب ، وليس فيها غياب عن الأهل ولا مفارقة للأوطان ، ولا صرف للأموال ، بل هي في متناول اليد ، وأقرب من شراك النعل ، ومن ذلك ذكر الله تعالى وتمجيده وتسبيحه وتكبيره وتهليله ، وإن أردت مثلاً لذلك فاستمع إلى لطف المولى ونعمة الرب ورحمة الرحمان ( من قل سبحان الله وبحمده في يوم مئة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ) خرجه الترمذي.

ويقول صلى الله عليه وسلم ( من قال استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف ) بل استمع إلى حديث عظيم تتجلى فيه الرحمة الربانية والمغفرة الإلهية يقول عليه الصلاة والسلام ( إن الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك: فمن هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبه الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، فإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هّمَ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ولا يهلك على الله إلا هالك ) أورده الألباني في صحيح الجامع.

فياله من أجر عظيم وعطاء كريم، مكفّرات قد أشرعت أبوابها ويُسرت أسبابها فأين طلابها ؟ فيامن تريد الأجر والثواب ، يا من ترغب في الجنة ونعيمها، يا باغي الخير أقبل ، ها هي النفحات الربانية تأتي بين فينة وأخرى. وها هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم تستقبل الليلة أو التي تليها سيد شهور العام ، ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) .

شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهر العتق والغفران، شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنات، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات، وترفع فيه الدرجات، وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه سبحانه على عباده بأنواع الكرامات، ويجزل فيه لأوليائه العطيات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام، فصامه المصطفى ﷺ وأمر الناس بصيامه، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من صامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم، فاستقبلوه بالفرح والسرور والعزيمة الصادقة على صيامه وقيامه والمسابقة فيه إلى الخيرات والمبادرة فيه إلى التوبة النصوح من سائر الذنوب والسيئات والتناصح والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم .

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين» (رواه مسلم).

اللهم بلغنا جميعا رمضان وبارك لنا فيه، اللهم أعنا فيه على الصيام والقيام وتلاوة القرآن وطاعتك وما يقرب إليك يا رحيم يا رحمن

اللهم اجعله شهر عز ونصر للإسلام والمسلمين ، اللهم وأصلح فيه أحوال المسلمين في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام 

المشاهدات 945 | التعليقات 0