مواساة من فقد غالياً ..
د محمد بن حمد الهاجري
1446/01/27 - 2024/08/02 07:48AM
الخطبة الأولى :اما بعد ..ء
فإن من يعش في هذه الدنيا يرى من عجائب الزمان صوراً، ومن حوادث الأيام عبراً، وكلما طال به الأمد، فإذا به يطوي المرحلة تلو المرحلة، حتى يصل إلى الغاية التي عندها منتهى أجله، وانقطاع أمله.
وإنه بين ذلك ليمر بمحطات الاختبار والامتحان، فمرة ينجو ويسلّم، ومرة يصاب في مقتل، وكلما كان إيمان العبد بالله أقوى، كلما كان بلاؤه أشد، قال صلى الله عليه وسلم: "يبتلى المرء على حسب دينه، فإن وُجد في دينه رقّة خُفّف عنه، وإن وُجد في دينه صلابة زيد في بلائه".
وما هذا الابتلاء إلا من أجل تطهير العبد من الذنوب، ولا يزال الابتلاء به حتى يأتي يوم القيامة وقد كُفّرت سيئاته، قال صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة".
والفائز الحق عند هيجان عواصف الابتلاء من قوي بالله يقينه، واطمأن قلبه لأقدار الله، وعلم أن كل شيء بقدر: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص: 68].
وعلى تنوع الابتلاءات التي تمر بالعبد، فإنه مأمور بالصبر على كل حال؛ لأن في الصبر تسلية للمصاب، وتهدئة للنفوس، وبعثاً للطمأنينة في قلب العبد.
وإن من أعظم ما يبتلى به المرء: فقد الأحبة من قريب أو صاحب.
وما الدهـرُ إلا هكذا فاصطبر لـه *** رزيـةُ مالٍ أو فراقُ حبــيبِ
فبينما يعيش المرء في كنف والده، يغذوه بالحنان، ويمده بالعطف، ويعلّمه كيف يعيش في هذه الدنيا على خير حال، فإذا بالموت يخطفه، وإذا به قد أقام تحت الجنادل وحيداً، قد خلّف كل شيء وراءه، ولم يأخذ معه إلا عمله، وإذ بذلك الابن الذي كان لا يعرف الهمّ حمل همّ أسرة فقدت عائلها، فراح يكابد عناء المعيشة، وإذا بفراغ يخيم على قلبه كلما علم أنه فقد باباً من أبواب البر وطريقاً إلى الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: "الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأَضع ذلك الباب أو احفظه"، فقد كان يطمع أن يلج الجنة من خلال ذلك الباب بِراً وإحساناً، فإذا به يفقده، وكم هي حسرة إنْ لم يكن قد أحسن معاشرة أبيه في حياته؟!
وآخرون افتقدوا نبع الحنان الذي لا ينضب، من والدةٍ كانت ترعى الصغير حتى كبر، وتأمل أن يكون لها متكئاً عند النوائب، تعلمه الوصل بإخوانه، والرحمة بأخواته، تسهر لينام، وتتعب ليرتاح، لا تسأم ولا تمل.
وفجأة فإذا بها تودّع الدنيا، مخلّفة قلوباً منكسرة، وأكباداً متصدّعة، لا يُعلم على أي حال يكونون.
فإذا بالولد يحتاج إلى مستند، وإذا بالبنت يُخاف عليها الضيعة إن لم تجد أباً أو أخاً قوياً ناصحاً، وإذا بالأبناء قد افتقدوا سُلّماً إلى الجنة وجسراً موصلاً إليها، جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك؟ فقال: "هل لك من أم؟" قال: نعم، قال: "فالزمها فإن الجنة تحت رجليها".
وحقٌّ على من علم أن برّها كنـز موصل إلى الجنة: أن يحزن على خسران ما يرجوه من البر والخير والعمل الصالح، وأن يكون هذا دافعاً لحسن صحبتها في الدنيا.
وآخر قد افتقد زوجةً كانت عنواناً في الأدب، ورأساً في العفة والسلوك الحسن، ومُقدَّمة في الصلاح، تحوطه بنصحها وخدمتها، ولا تقصّر في مطالبه، وتعينه على صلة رحمه، تتودد إليه طاعة لله، لا تفشي سرّه، ولا تظهر أمره.
فبينما هي كذلك إذ باغتها الأجل، فإذا به وحيداً من أنيس، وحوله أطفالٌ يُخشى عليهم الضياع بين يدي نساء لا يعرفن احتساب الأجر، ولا جرّبن حلاوة الصبر.
لعمرك ما الرزيةُ فقدُ مالٍ *** ولا فرسٌ يموت ولا بعيـرُ
ولكنّ الرزيةَ فقدُ حرٍّ *** يموت لموته خلـقٌ كثيرُ
وآخر قد افتقد ابناً كان يراه يترعرع بين يديه، كلما كبر رأى أحلامه فيه تكبر، وبينما هو يراه كالشجرة اليانعة، في كل يوم تزداد أغصانها زهواً، وعذوقها ثمراً، وبينما يرى ابناً باراً به، يقوم بخدمته، ويتكئ عليه عند الملمات والضعف.
فجأة! فإذا بالموت يخترمه، وإذا به قد تصدع قلبه، وعاد فارغاً بعد أن كان مغتبطاً به فرحاً، وقد عظم عليه المصاب، وكاد أن يفقد صوابه، لكنه أيقن بموعود الله وصدّق بوعده، فإذا به صابراً محتسباً، لما علم من أجر الصبر على فقد الأحبة، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد قال الله -تعالى- لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله -تعالى-: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد"،
ومن الناس من يفقد أخاً، كان عوناً له على ملمات الحوادث، وَصُولاً لرحمه، باذلاً نفسه في سبيل تحقيق راحته، قد رضعا من ثدي واحد، وعاشا إلفين متآلفين، كلٌ منهما يعد أخاه ليوم حاجته، يستأنس به في الوحشة، ويخلفه في الغربة، وإذ بالموت يخطفه، وإذ به خاوي اليدين منه، وقد صار وحيداً بعد اجتماع، ضعيفاً بعد قوة ومنعة، مستهدفاً بعد تخوف، وكم يزداد استيحاشه إذا كان ذا طاعة لربه، وسلوك حسن واستقامة على دين، لما استشهد زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- شقيق عمر بن الخطاب الأكبر (وهو من عبّاد الصحابة الأتقياء البررة) لما استشهد يوم اليمامة حزن عليه عمر كثيراً، وكان كثيراً ما يتذكره ويقول: "ما هبت ريح الصبا إلا وأنا أجد ريح زيد".
ومن الناس من يفقد صديقاً، كان مؤنساً له في الوحشة، ومعيناً على الطاعة، يقوّيه إذا ضعف، ويرشده إلى سبل الخير، ويسهّل له طرقه، قد اجتمعا على الطاعة وحسن القصد.
وفجأة! إذ بالأجل يباغت صاحبه، في زمن قلّ فيه الأصدقاء الناصحون، والأحبةُ المخلصون المعينون على طاعة الله، وإذا به قد فقد مَن في فقده أبلغ التأثير.
فكم هو شديد على النفس أن تفقد ذا تقى، يُهتدي به الضلال، ويستأنس به المستوحشون، ويسترشد به الحيارى.
إلى الله أشكو لا إلى النـاس *** أرى الأرض تُطوى والأخلاء
وهكذا تتنوع الابتلاءات في هذا الباب، وكلٌّ يفقد شخصاً يحبه ويودّه ويألفه، ولكن المصيبة العظمى! أن كثيراً منا مفرطٌ في حقوق أحبته في حياتهم، فإذا رحلوا عن الدنيا بكى وتألم، وتمنى أن لو كان كذا وكذا.
فما دمنا في زمن الإمهال فلماذا لا نحسن لأحبتنا ونعمل معهم في هذه الحياة، الذي طالما تمنينا فعله حين يُغَيَّبون عن أعيننا تحت الثرى؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية :
عباد الله: فقد الأحبة خطب مؤلم, وحدث موجع, بل هو نار تستعر في الفؤاد وتحرق الكبد، فليس من الهين أن يرحل ريحانة الفؤاد والزينة بين العباد, لكنه اليقين ينزل على القلوب المؤمنة عندها يهون المصاب.
لما أفاق عروة بن الزبير بعد أن قطعوا قدمه؛ لأنها أصابتها الآكلة، قالوا: "أحسن الله عزائك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك فقد مات"، فقال: "اللهم لك الحمد إن كنت ابتليت فقد عافيت، وإن كنت أخذت فقد أعطيت، أعطيتني أربعة أولاد فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، وأعطيتني أربعة أعضاء فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة". هذا هو اليقين الحق .
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة، ويجلب الصبر، ويذهب الأسى أن يتذكر الإنسان ما وقع للخلق قبله وفي زمانه، فما من أحد إلا وأصيب، وقلب بصرك يمنة فلن ترى يمنة إلا محنة، ويسرة فلن ترى إلا حسرة، فلست المصاب من بينهم، ولست أعظمهم مصابا، فقد طرق هذا الطارق من أمير ووزير ومستشار ومشير، وكبير وصغير، وغني وفقير، وطبيب ولبيب، وعدو وحبيب، ولم يفرق بين عار وكاس، فكل دارت عليه هذه الكاس.
فلئنْ فقدت ولدا، فلقد فقد غيرك أولاد، ولئن فقدت والدا أو الدة، فلقد فقد غيرك والدا وولدةً، فارحم قلبك واذكر ربك يسكن قلبك، … ويحك! أتدري من هو الذي يجدد أحزانك، ويُعظّم مصابك كأنك أنت الذي أصبت من بين العالمين إنه الشيطان الرجيم، فلا تستسلم له، تذكر رسولك وحبيبك -عليه الصلاة والسلام-، فقد أمه وأباه وعاش يتيما، تذكر نبيك -عليه الصلاة والسلام- يوم فقد الحبيب والناصر والمعين بموت خديجة -رضي الله عنها- وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو كأس كل شاربه.
يروى أن امرأة من الأعراب حجت ومعها وحيدها، فمرض عليها في الطريق ومات، فدفنت بمساعدة الركب الذين معها، ثم وقفت بعد دفنه وقالت: "يا بني؛ والله لقد غدوتك رضيعا وفقدتك سريعا, وكأن لم يكن بين الحالتين مدة، أتلذذ فيها بعيشك، وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك"، ثم قالت: "اللهم منك العدل ومن خلقك الجور، اللهم وهبتني قرة عين فلم تمتعني به كثيرا، بل سلبتنيه وشيكا، ثم أمرتني بالصبر ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك ورضيت قضاءك، فلك الحمد في السراء والضراء. اللهم ارحم غربته واستر عورته، يوم تكشف العورات، وتظهر السوءات، رحم الله من ترحم على من استودعته الردم ووسدته الثرى"، ثم لما أرادت الانصراف، قالت: "أي بني لقد تزودت لسفري فيا ليت شعري ما زادك بسفرك ويوم ميعادك، اللهم إني أسألك الرضا عنه برضاي عنه، أستودعك بني من استودعني إياك جنينا في الأحشاء، ومن يجازي من صبر في السراء والضراء".
أيها المصابون: عليكم من الله الرحمات يوم أصبتم ويوم صبرتم، ويوم احتسبتم، جعل الله مصابكم من الباقيات الصالحات، وأمنكم من الفزع يوم تنشر السجلات، وكتب لنا ولكم السعادة في الحياة وبعد الممات.
هذا واعلموا أن الأحبة أحوج ما يكونون في قبورهم إلى أعمال الخير التي تُرفع بها الدرجات، وتُمحى بها السيئات من صدقة ودعاء وإحسان، فلا تبخلوا بما تستطيعون.
ألا واعلموا أن من كان باكياً فليبكِ على نفسه، وما رحيل هؤلاء الأحبة إلا إنذار لنا بأننا قريب عن هذه الدنيا راحلون، ولها مفارقون، فهل أحسنا العمل؟ قال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر: 30 - 31]، وقال صلى الله عليه وسلم: "جاءني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به".
النّفس تبكي على الدّنيا وقد علمت
فإن من يعش في هذه الدنيا يرى من عجائب الزمان صوراً، ومن حوادث الأيام عبراً، وكلما طال به الأمد، فإذا به يطوي المرحلة تلو المرحلة، حتى يصل إلى الغاية التي عندها منتهى أجله، وانقطاع أمله.
وإنه بين ذلك ليمر بمحطات الاختبار والامتحان، فمرة ينجو ويسلّم، ومرة يصاب في مقتل، وكلما كان إيمان العبد بالله أقوى، كلما كان بلاؤه أشد، قال صلى الله عليه وسلم: "يبتلى المرء على حسب دينه، فإن وُجد في دينه رقّة خُفّف عنه، وإن وُجد في دينه صلابة زيد في بلائه".
وما هذا الابتلاء إلا من أجل تطهير العبد من الذنوب، ولا يزال الابتلاء به حتى يأتي يوم القيامة وقد كُفّرت سيئاته، قال صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة".
والفائز الحق عند هيجان عواصف الابتلاء من قوي بالله يقينه، واطمأن قلبه لأقدار الله، وعلم أن كل شيء بقدر: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص: 68].
وعلى تنوع الابتلاءات التي تمر بالعبد، فإنه مأمور بالصبر على كل حال؛ لأن في الصبر تسلية للمصاب، وتهدئة للنفوس، وبعثاً للطمأنينة في قلب العبد.
وإن من أعظم ما يبتلى به المرء: فقد الأحبة من قريب أو صاحب.
وما الدهـرُ إلا هكذا فاصطبر لـه *** رزيـةُ مالٍ أو فراقُ حبــيبِ
فبينما يعيش المرء في كنف والده، يغذوه بالحنان، ويمده بالعطف، ويعلّمه كيف يعيش في هذه الدنيا على خير حال، فإذا بالموت يخطفه، وإذا به قد أقام تحت الجنادل وحيداً، قد خلّف كل شيء وراءه، ولم يأخذ معه إلا عمله، وإذ بذلك الابن الذي كان لا يعرف الهمّ حمل همّ أسرة فقدت عائلها، فراح يكابد عناء المعيشة، وإذا بفراغ يخيم على قلبه كلما علم أنه فقد باباً من أبواب البر وطريقاً إلى الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: "الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأَضع ذلك الباب أو احفظه"، فقد كان يطمع أن يلج الجنة من خلال ذلك الباب بِراً وإحساناً، فإذا به يفقده، وكم هي حسرة إنْ لم يكن قد أحسن معاشرة أبيه في حياته؟!
وآخرون افتقدوا نبع الحنان الذي لا ينضب، من والدةٍ كانت ترعى الصغير حتى كبر، وتأمل أن يكون لها متكئاً عند النوائب، تعلمه الوصل بإخوانه، والرحمة بأخواته، تسهر لينام، وتتعب ليرتاح، لا تسأم ولا تمل.
وفجأة فإذا بها تودّع الدنيا، مخلّفة قلوباً منكسرة، وأكباداً متصدّعة، لا يُعلم على أي حال يكونون.
فإذا بالولد يحتاج إلى مستند، وإذا بالبنت يُخاف عليها الضيعة إن لم تجد أباً أو أخاً قوياً ناصحاً، وإذا بالأبناء قد افتقدوا سُلّماً إلى الجنة وجسراً موصلاً إليها، جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك؟ فقال: "هل لك من أم؟" قال: نعم، قال: "فالزمها فإن الجنة تحت رجليها".
وحقٌّ على من علم أن برّها كنـز موصل إلى الجنة: أن يحزن على خسران ما يرجوه من البر والخير والعمل الصالح، وأن يكون هذا دافعاً لحسن صحبتها في الدنيا.
وآخر قد افتقد زوجةً كانت عنواناً في الأدب، ورأساً في العفة والسلوك الحسن، ومُقدَّمة في الصلاح، تحوطه بنصحها وخدمتها، ولا تقصّر في مطالبه، وتعينه على صلة رحمه، تتودد إليه طاعة لله، لا تفشي سرّه، ولا تظهر أمره.
فبينما هي كذلك إذ باغتها الأجل، فإذا به وحيداً من أنيس، وحوله أطفالٌ يُخشى عليهم الضياع بين يدي نساء لا يعرفن احتساب الأجر، ولا جرّبن حلاوة الصبر.
لعمرك ما الرزيةُ فقدُ مالٍ *** ولا فرسٌ يموت ولا بعيـرُ
ولكنّ الرزيةَ فقدُ حرٍّ *** يموت لموته خلـقٌ كثيرُ
وآخر قد افتقد ابناً كان يراه يترعرع بين يديه، كلما كبر رأى أحلامه فيه تكبر، وبينما هو يراه كالشجرة اليانعة، في كل يوم تزداد أغصانها زهواً، وعذوقها ثمراً، وبينما يرى ابناً باراً به، يقوم بخدمته، ويتكئ عليه عند الملمات والضعف.
فجأة! فإذا بالموت يخترمه، وإذا به قد تصدع قلبه، وعاد فارغاً بعد أن كان مغتبطاً به فرحاً، وقد عظم عليه المصاب، وكاد أن يفقد صوابه، لكنه أيقن بموعود الله وصدّق بوعده، فإذا به صابراً محتسباً، لما علم من أجر الصبر على فقد الأحبة، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد قال الله -تعالى- لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله -تعالى-: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد"،
ومن الناس من يفقد أخاً، كان عوناً له على ملمات الحوادث، وَصُولاً لرحمه، باذلاً نفسه في سبيل تحقيق راحته، قد رضعا من ثدي واحد، وعاشا إلفين متآلفين، كلٌ منهما يعد أخاه ليوم حاجته، يستأنس به في الوحشة، ويخلفه في الغربة، وإذ بالموت يخطفه، وإذ به خاوي اليدين منه، وقد صار وحيداً بعد اجتماع، ضعيفاً بعد قوة ومنعة، مستهدفاً بعد تخوف، وكم يزداد استيحاشه إذا كان ذا طاعة لربه، وسلوك حسن واستقامة على دين، لما استشهد زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- شقيق عمر بن الخطاب الأكبر (وهو من عبّاد الصحابة الأتقياء البررة) لما استشهد يوم اليمامة حزن عليه عمر كثيراً، وكان كثيراً ما يتذكره ويقول: "ما هبت ريح الصبا إلا وأنا أجد ريح زيد".
ومن الناس من يفقد صديقاً، كان مؤنساً له في الوحشة، ومعيناً على الطاعة، يقوّيه إذا ضعف، ويرشده إلى سبل الخير، ويسهّل له طرقه، قد اجتمعا على الطاعة وحسن القصد.
وفجأة! إذ بالأجل يباغت صاحبه، في زمن قلّ فيه الأصدقاء الناصحون، والأحبةُ المخلصون المعينون على طاعة الله، وإذا به قد فقد مَن في فقده أبلغ التأثير.
فكم هو شديد على النفس أن تفقد ذا تقى، يُهتدي به الضلال، ويستأنس به المستوحشون، ويسترشد به الحيارى.
إلى الله أشكو لا إلى النـاس *** أرى الأرض تُطوى والأخلاء
وهكذا تتنوع الابتلاءات في هذا الباب، وكلٌّ يفقد شخصاً يحبه ويودّه ويألفه، ولكن المصيبة العظمى! أن كثيراً منا مفرطٌ في حقوق أحبته في حياتهم، فإذا رحلوا عن الدنيا بكى وتألم، وتمنى أن لو كان كذا وكذا.
فما دمنا في زمن الإمهال فلماذا لا نحسن لأحبتنا ونعمل معهم في هذه الحياة، الذي طالما تمنينا فعله حين يُغَيَّبون عن أعيننا تحت الثرى؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية :
عباد الله: فقد الأحبة خطب مؤلم, وحدث موجع, بل هو نار تستعر في الفؤاد وتحرق الكبد، فليس من الهين أن يرحل ريحانة الفؤاد والزينة بين العباد, لكنه اليقين ينزل على القلوب المؤمنة عندها يهون المصاب.
لما أفاق عروة بن الزبير بعد أن قطعوا قدمه؛ لأنها أصابتها الآكلة، قالوا: "أحسن الله عزائك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك فقد مات"، فقال: "اللهم لك الحمد إن كنت ابتليت فقد عافيت، وإن كنت أخذت فقد أعطيت، أعطيتني أربعة أولاد فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، وأعطيتني أربعة أعضاء فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة". هذا هو اليقين الحق .
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة، ويجلب الصبر، ويذهب الأسى أن يتذكر الإنسان ما وقع للخلق قبله وفي زمانه، فما من أحد إلا وأصيب، وقلب بصرك يمنة فلن ترى يمنة إلا محنة، ويسرة فلن ترى إلا حسرة، فلست المصاب من بينهم، ولست أعظمهم مصابا، فقد طرق هذا الطارق من أمير ووزير ومستشار ومشير، وكبير وصغير، وغني وفقير، وطبيب ولبيب، وعدو وحبيب، ولم يفرق بين عار وكاس، فكل دارت عليه هذه الكاس.
فلئنْ فقدت ولدا، فلقد فقد غيرك أولاد، ولئن فقدت والدا أو الدة، فلقد فقد غيرك والدا وولدةً، فارحم قلبك واذكر ربك يسكن قلبك، … ويحك! أتدري من هو الذي يجدد أحزانك، ويُعظّم مصابك كأنك أنت الذي أصبت من بين العالمين إنه الشيطان الرجيم، فلا تستسلم له، تذكر رسولك وحبيبك -عليه الصلاة والسلام-، فقد أمه وأباه وعاش يتيما، تذكر نبيك -عليه الصلاة والسلام- يوم فقد الحبيب والناصر والمعين بموت خديجة -رضي الله عنها- وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو كأس كل شاربه.
يروى أن امرأة من الأعراب حجت ومعها وحيدها، فمرض عليها في الطريق ومات، فدفنت بمساعدة الركب الذين معها، ثم وقفت بعد دفنه وقالت: "يا بني؛ والله لقد غدوتك رضيعا وفقدتك سريعا, وكأن لم يكن بين الحالتين مدة، أتلذذ فيها بعيشك، وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك"، ثم قالت: "اللهم منك العدل ومن خلقك الجور، اللهم وهبتني قرة عين فلم تمتعني به كثيرا، بل سلبتنيه وشيكا، ثم أمرتني بالصبر ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك ورضيت قضاءك، فلك الحمد في السراء والضراء. اللهم ارحم غربته واستر عورته، يوم تكشف العورات، وتظهر السوءات، رحم الله من ترحم على من استودعته الردم ووسدته الثرى"، ثم لما أرادت الانصراف، قالت: "أي بني لقد تزودت لسفري فيا ليت شعري ما زادك بسفرك ويوم ميعادك، اللهم إني أسألك الرضا عنه برضاي عنه، أستودعك بني من استودعني إياك جنينا في الأحشاء، ومن يجازي من صبر في السراء والضراء".
أيها المصابون: عليكم من الله الرحمات يوم أصبتم ويوم صبرتم، ويوم احتسبتم، جعل الله مصابكم من الباقيات الصالحات، وأمنكم من الفزع يوم تنشر السجلات، وكتب لنا ولكم السعادة في الحياة وبعد الممات.
هذا واعلموا أن الأحبة أحوج ما يكونون في قبورهم إلى أعمال الخير التي تُرفع بها الدرجات، وتُمحى بها السيئات من صدقة ودعاء وإحسان، فلا تبخلوا بما تستطيعون.
ألا واعلموا أن من كان باكياً فليبكِ على نفسه، وما رحيل هؤلاء الأحبة إلا إنذار لنا بأننا قريب عن هذه الدنيا راحلون، ولها مفارقون، فهل أحسنا العمل؟ قال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر: 30 - 31]، وقال صلى الله عليه وسلم: "جاءني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به".
النّفس تبكي على الدّنيا وقد علمت
أن السّعادة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
إلّا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه
وإن بناها بشرٍّ خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدّهر نبنيها
فهل قدمنا بين أيدينا من الأعمال الصالحة ما يكون سبباً في نجاتنا؟ هل سينفعنا في قبورنا، دمعة تُذرف، أو قلب يئنّ وينـزف؟
فهل قدمنا بين أيدينا من الأعمال الصالحة ما يكون سبباً في نجاتنا؟ هل سينفعنا في قبورنا، دمعة تُذرف، أو قلب يئنّ وينـزف؟