من يحرق تاريخ مصر وحضارتها ؟
احمد ابوبكر
1435/04/08 - 2014/02/08 05:50AM
من حريق المجمع العلمى الى حريق متحف الفن الاسلامى ودار الكتب والوثائق القومية ، يدركُ المراقب صاحب الحساسية بالتاريخ والنظرة المتعمقة للواقع أن هناك من يسعى بكل امكانياته وبمخطط ممنهج ومدروس لحرق مصر وهدم صروحا الثقافية والعلمية والحضارية حجراً حجراً ، وطمس كنوزها المعرفية لقطع صلتها بعوامل وجذور نهضتها وقوتها ومحو ملامح تميزها التاريخى الممتد عبر القرون واعادتها الى مجاهل العصور الوسطى .
حرق مصر حلم استعمارى قديم يحاول المأجورون تحقيقه ، وحرق البيت لا يتم أبداً بيد أبنائه ، ولم تُحرق مصر يوماً على مدار تاريخها الطويل بيد أبنائها ، فلا أحد عاقل على الاطلاق يحرق بيته وأملاكه وتراثه وتاريخه ، والذين يحرقون الآن فى مصر وتاريخها وتراثها ومؤسساتها العريقة لا أشك لحظة فى عمالتهم للخارج أو أنهم مرتبطون بقوى وتيارات مصرية تحركها وتوجهها دول غربية معروفة بعدائها التاريخى والحضارى للأمة المصرية ، انهم مدفوعون وممولون من تلك القوى التى عملت دائما على اعاقة نهضة مصر ، كلما حاولت القيام والمسير فى طريق النهضة ، سواء من حركات شبابية مرتبطة بمنظمات خارجية مشبوهة تمويلاً وتحريضاً ، وهم من أحرقوا وقضوا على كنوز المجمع العلمى قبل عامين ، أو تنظيمات مسلحة تحمل عناوين إسلامية تعمل بشكل مباشر أو غير مباشر لصالح القوى المعادية لمصر وهى التى أحرقت كنوز المتحف الاسلامى ودار الكتب والوثائق مؤخراً . القصة طويلة مؤلمة ، لا تبدأ من أحداث ماسبيرو أو العباسية أو شارع محمد محمود أو موقعة مجلس الوزراء وحريق المجمع العلمى ولا تنتهى بأحداث الاتحادية وفض واسقاط حكم الاخوان وفض الاعتصامات وحريق دار الوثائق والكتب ، انما تمتد القصة المؤلمة قبل قرنين من الزمان !
بونابرت المنقذ !
هل نصدق - كمصريين شرفاء - أن الفرنسيين أرادوا حقاً أن يأخذوا بأيدي الشعب المصري من الظلمات إلى النور ، وأن ينقذوه من حكم المماليك الظالم الجائر المستبد ! وأنهم أرادوا نقل قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والتقاليد الفرنسية والثقافة والحضارة الفرنسية العريقة إلى شعب غارق فى الجهالة موبوء بالتخلف ، يحكمه جماعة من البرابرة ، لذلك قدم القائد العظيم والمنقذ العبقري " نابليون بونابرت " على رأس حملة عسكرية علمية تنويرية تحريرية تعليمية لإتمام هذه المهمة الجليلة !
هذا التوصيف المزيف الخادع للحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت شاعَ لفترة طويلة فى أوساطنا الثقافية وأُعجب به كثير من مثقفينا وأدبائنا وكتابنا ، وتعمد كثير من المؤرخين المحدثين توثيقه ونشره على أنه حقيقة من الحقائق المسلم بها تاريخياً . كذلك حديثاً ؛ أرادوا أن يصوروا الأمريكان وقائدهم المغوار الذي لا يشق له غبار" جورج بوش " على أنهم مبعوثي العناية الإلهية الذين أرسلوا لإنقاذ العراقيين من الحكم الظالم المستبد ، وأنهم ما تكبدوا المشاق ولا أنفقوا البلايين ولا قطعوا بجيوشهم وقواتهم تلك المسافات البعيدة إلا من أجل الشعب العراقي المظلوم المسكين ، ومن أجل نشر قيم الحرية وحقوق الإنسان الأمريكية ! والحقيقة المبكية أن الحضارة ( الأمريكانية ) لا تختلف كثيرا عن شقيقتها ( الفرنساوية ) وأن ما فعله الأمريكان " المتحضرون " فى العراق لا يختلف كثيراً عما فعله إخوانهم الفرنسيون فى مصر ، وأن الزعيم المتحضر صاحب القيم والمثل والمبادئ " جورج دبليو بوش " ما هو إلا نسخة بالكربون من القائد الأوربي الذي لا يقهر خواض الغمرات الصليبي المكيافلى المغامر المفتون الفاجر السفاح المغرور " نابليون " ( كما وصفه الأستاذ محمود شاكر ) ، فأحرقوا حضارة العراق ونهبوا تراثه الفكرى والعلمى وسرقوا متاحفه ومكتباته وآثاره النفيسة التى لا تقدر بثمن ، وفعلوا فيه فعلة التتار قديماً .
الحقيقة أننا أدرنا ظهورنا لأسمى ميراث امتلكه البشر وذهبنا ننبش فى المخلفات والقاذورات ، وأننا قوم نستهين بما لدينا من ثقافة أصيلة وحضارة عريقة وقيم راقية ونقف كالفقير الذليل نمتدح الغنى المتكبر ونستجديه ليعطينا ، ونستجديه لينقذنا ويدعمنا ، ولقد أعطانا هذا الغنى المغرور ولكنه بدل أن يعطينا مما لديه من علوم ومعارف وأصول وأساسيات التكنولوجيا وغزو الفضاء والطاقة النووية وغيرها أعطانا جرعات من تمرده على خالقه ، ثم سلب منا خيراتنا وثرواتنا ونهب مواردنا وكنوزنا وتراثنا وأحرق تاريخنا .
ألم يستغثه رجال أعمال وسياسيون ومثقفون ؟ ألم يذهب مثقف كبير ( لم يسمه عمرو أديب فى برنامجه عندما ذكر القصة لكن الجميع يعرف من هو ) الى المعتصمين أمام مجلس الوزراء واستفزهم وحرضهم للاشتباك مع عناصر الجيش بدعوى أن المجلس العسكرى قام بتصويرهم فى أوضاع مخلة وغير لائقة ؟ استغاثات مبطنة ومعلنة بالغرب وبأمريكا وبتاريخ التخريب والدماء والقتل لم يسلم منها الاسلاميون مؤخراً وهم الذين كانوا يعيبون هذا الفعل الشنيع على الدكتور البرادعى وساويرس وحمزاوى . وهاهى اغاثته ايانا ؛ بالحرق والتدمير ، والذى نعلمه ، أن تلك هى طريقة الغربيين المفضلة على مدار تاريخه فى اغاثتنا ، فلم يغثنا الغرب يوماً الا بتدميرنا وسفك دمائنا واغتصاب عذارانا ونهب ثرواتنا وحرق تراثنا العلمى والحضارى والثقافى .
العراق أولاً .. ومصر على الطريق
يقول الأستاذ محمود شاكر رحمه الله فى كتابه ( رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا) فى وصف حالة مصر بعد رحيل الفرنسيين عنها : " رحلت فلول جيش الفتى السفاح المغرور " نابليون " ، وجلت عن بلاد واسعة عريضة تركتها بلقعاً تصفر فيه الريح ، وانكشحت عن عاصمة عتيقة تركتها خراباً .. كان خراباً شاملاً وتدميراً لمدينة زاهرة من أجمل مدن العالم يومئذ ، بعمارتها وفنونها ، وبركها ومتنزهاتها ، أقدم على تدميرها تدميراً كاملاً بربري جاهل مستخف فى زى متحضر !
ولكن صار هذا التدمير فى عين حياتنا الأدبية الفاسدة هو رسول الحضارة الذي جاء ليخرجنا من ظلمات الجهل إلى عصر النور والتنوير " ، وتلك هى بليتنا ومصيبتنا وعقدتنا التى لا تريد أن تنحل . نرفع من شأن المحتل الغازي الغشوم ونظل – وان قاومناه وأخرجناه بالقوة – متأثرين بأفكاره وأخلاقه وثقافته وحضارته المزيفة ، رافعين شعاراته الفارغة ، مؤمنين بتصوراته المنحرفة منبهرين بإبداعاته الرخيصة ، مُعْرضين عن منبع ثقافتنا ومصدر قوتنا وأصل حضارتنا وسر وجودنا . انظروا إلى ما فعله الأمريكان بالعراق البلد الحضاري الثقافي الكبير ، ان حال العراق خير شاهد على مدى الانحطاط والتدني الذي وصلت إليه الحضارة الغربية ، لقد ارتكب الأمريكان ( المثقفون المتحضرون ) أبشع وأفظع الجرائم فى حق الإنسان ، داسوا على كل القيم والمبادئ والأعراف ، انتهكوا كل المقدسات ، ضيعوا كل الحقوق .. واتضح فى النهاية أن هؤلاء الذين جاءوا ليعلمونا الحرية وحقوق الانسان والقيم والمبادئ ما هم إلا حفنة لصوص ومرتزقة نهبوا أموال الشعب ومدخراته وثرواته وامتصوا دمه ، وقد تابعنا ما يحدث بالعراق منذ دخلها الأمريكان الى أن خرجوا منها قبل أيام بالعراق وكنا كمن يقرأ فى يوميات الجبرتي الذي أرخ لدمار القاهرة ووصف بالتفصيل ما ارتكبه الفرنسيون ( المتحضرون ) فيها من قتل وسرقة ونهب .
الجبرتى من حريق المجمع العلمى الى تدمير دار الكتب والمتحف الاسلامى
يقول الجبرتى رحمه الله فى ( عجائب الآثار فى التراجم والأخبار ) فى وصفه لدخول قوات نابليون القاهرة وما أحدثوه من رعب وإرهاب : " وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات وأطفالهن على أكتافهن يبكين فى ظلمة الليل ، واستمروا على ذلك بطول ليلة الأحد وصبحها وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع ، فلما خرجوا من أبواب البلد وتوسطوا الفلاة تلقتهم العربان والفلاحون فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته ، فكان ما أخذته العرب شيئا كثيرا يفوق الحصر بحيث أن الأموال والذخائر التى خرجت من مصر فى تلك الليلة أضعاف ما بقى فيها بلا شك لأن معظم الأموال عند الأمراء والأعيان وحريمهم وقد أخذوه صحبتهم وغالب مساتير الناس وأصحاب المقدرة أخرجوا أيضا ما عندهم والذي أقعده العجز وكان عنده ما يعز عليه من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين فذهب ذلك جميعه وربما قتلوا من قدروا عليه أو دافع عن نفسه ومتاعه وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن وفيهم الخوندات والأعيان ... ثم يقول : وكانت ليلة وصباحها فى غاية الشناعة جرى فيها ما لم يتفق مثله فى مصر ولا سمعنا بما شابه بعضه فى تواريخ المتقدمين " ... ثم يذكر السبب الذي جعل الناس يسارعون فى الخروج بهذه الطريقة من البلاد ويقول : " .. والذي أزعج قلوب الناس بالأكثر أن فى عشاء تلك الليلة ، شاع فى الناس أن الإفرنج عدوا إلى بولاق وأحرقوها وكذلك الجيزة وأن أولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء " .
ويقول رحمه الله وكأنه - وهو يصف لنا ما ارتكبه الفرنسيون بالجامع الأزهر – يؤرخ لجرائم الغرب اليوم فى وسط القاهرة بيد حفنة من المرتزقة المأجورين الممولين بالملايين من الدولارات : " وبعد هجعة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل ومروا فى الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع كأنهم الشياطين أو جند إبليس وهدموا ما وجدوه من المتاريس ودخل طائفة من باب البرقية ومشوا إلى الغورية وكروا ورجعوا وترددوا ما هجعوا وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين وتراسلوا إرسالا ركبانا ورجالا ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأروقة والحارات وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والمخبآت بالدواليب والخزانات ودشتوا الكتب والمصاحف على الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه " .
أليس هذا وصف لحريق وسط القاهرة عام 2011م عندما رأى العالم ورأينا فى مشهد أدمى قلوبنا ، صبياناً صغاراً وبلطجية مأجورين وعملاء خونة يحرقون تراث مصر وتاريخها ، ويتقافزون فرحين وهم يحولون الميراث العظيم الى كومة رماد ؟ أليس وصفاً دقيقاً لما آلت اليه مصر بعد أن ضرب الارهاب الأعمى قلب العاصمة المصرية واختلط دم ضباط وجنود الجيش والشرطة بأحبار دار الكتب والوثائق القومية بمنطقة باب الخلق ، وهو المبنى المقابل لمديرية أمن القاهرة ، ومن المعروف أن دار الكتب والوثائق القومية ليست مجرد داراً لحفظ الوثائق وعرضها انما هى بمثابة ذاكرة الوطن وسجلها المفتوح الذى يحوى ذخائرها المعرفية ، والحاق أى ضرر بها يعنى ضياع جزء كبير من تاريخ مصر . الأحداث فى مجملها تدلنا على أن هناك جيشاً منظما من المخططين المخربين يعمل بخطط واضحة وأهداف مرسومة وخطوات محددة سلفاً وان اختلفت أدواته وأشكال من ينفذ بهم مخططه الخبيث ما بين عامى 2011م و 2014 م ، ولا حاجة هنا لأن نقول دخلت قوات الاحتلال القاهرة أو دخلت بريطانيا أو أمريكا بجنودها وآلياتها وكتائبها ، فهناك من يقوم بالمهمة فى الداخل على أتم وجه لصالح أعداء مصر الساعين لمحو تاريخها ونسف حضارتها من الوجود ، هناك من يسعى باصرار ودأب لتنفيذ الغاية الاستعمارية الكبرى وحلم الغربيين والصهاينة الأثير وهى " حرق مصر " تاريخاً وحضارة ودولة !
حرق التسامح لصالح الهمجية
اعترف المؤرخون الفرنسيون أنفسهم بأن نابليون أمر بقتل الجنود الذين كانوا قد استسلموا خلال حملته على الشام وكان عدد هؤلاء الأسرى أكثر من ثلاثة آلاف جندي مسلم ، واعترفوا أيضا أنه كان يصدر أوامر يومية يوصى فيها قواده بالإكثار من إعدام الأشخاص على أن تقطع رؤوسهم بعد ذلك ويُطاف بها فى الشوارع إرهاباً للناس .
وقال نابليون فى أحد أوامره اليومية : " نحن نقطع كل ليلة ثلاثين رأساً ، فعليك أن تقطع رؤوس ما لا يقل عن تسعة أو عشرة أشخاص كل يوم " . لم يتوقف الأمر عند قطع الرؤوس والذبح والقتل وتدنيس المقدسات بل انطلق " أصحاب المبادئ والقيم الراقية " – بزعمهم - لينهبوا الأموال والجواهر الثمينة والتحف النادرة والمصوغات الغالية والأمتعة النفيسة .
يقول الجبرتي – وكأنه حاضر معنا اليوم ، يسجل بقلمه ما حدث فى غزوة مجلس الشعب التى قام بها عملاء الغرب فى بلادنا وما فعله المأجورون المغرر بهم والمضحوك عليهم فى غزوة مديرية أمن الدقهلية التى التهمت المسرح الرومانى وغزوة مديرية أمن القاهرة التى التهمت المتحف الاسلامى ودار الوثائق والكتب ، ودلالة ذلك كله من حرق لتراث مصر ولتاريخه - : " وفيه أخرجوا من بيت نسيب إبراهيم كتخدا صناديق ضمنها مصاغ وجواهر وأواني ذهب وفضة وأمتعة وملابس كثيرة " ، ويقول : " ... وفيه ظفروا بعدة ودائع وخبايا بأماكن متعددة بها صناديق وأمتعة وأسلحة وأواني صيني وأواني نحاس قناطير وغير ذلك " .
ويقول : " وفيه دلوا على إنسان عنده صندوقان وديعة لأيوب بك الدفتردار فطلبوه وأمروه بإحضارهما وأحضروهما فوجدوا ضمنها جواهر وسبح لؤلؤ وخناجر جوهرة وغير ذلك " . ويقول : " وفى يوم الثلاثاء عدت الفرنساوية إلى بر مصر وسكن بونابرتة ببيت محمد بك الألفي بالأزبكية بخط الساكت الذي أنشأه الأمير المذكور فى السنة الماضية وزخرفه وصرف عليه أموالا عظيمة وفرشه بالفرش الفاخرة وعند تمامه وسكناه فيه حصلت هذه الحادثة فأخلوه وتركوه بما فيه فكأنه إنما كان يبنيه لأمير الفرنسيس " .
ويقول رحمه الله : " ونهبوا بيت إبراهيم بك ومراد بك اللذين بخطة قوصون وأحرقوهما ونهبوا أيضا عدة بيوت من بيوت الأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وأمتعة وغير ذلك وباعوه بأبخس الأثمان " . هم لا يتوقفون ولا يستحون ولا يرتدعون ما دام الدعم والتمويل الغربى السخى قائماً ، وهم على مدار التاريخ تزيد وحشيتهم وطمعهم الدنيء مع تصاعد المقاومة ضدهم فيستحلون الدماء ويقتلون الأبرياء ، يقول الجبرتي فى وصف الفظائع التى ارتكبوها بعد ثورة القاهرة الثانية : " فعلوا بالأهالي ما يشيب من هوله النواصي وصارت القتلى مطروحة فى الطرقات والأزقة واحترقت الأبنية والدور والقصور والبضائع وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء الخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال " .
ولم يقف جشعهم فى نهب الأموال عند هذا الحد بل صادروا أملاك الناس وابتزوا أموالهم عن طريق فرض ضرائب جديدة عجيبة ، يقول الجبرتي : " كانوا يفرضون الضرائب على المبايعات والدعاوى والمنازعات والمشاجرات والاشهادات والمؤجرات وقبض أجر الأملاك " . حتى المسافر والمولود الجديد يحصلون عليه ضريبة : " والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدرا وكذلك المولود إذا ولد ويقال له أثبات الحياة " ، بل إذا مات شخص وجب على أهله أن يدفعوا على موته ضريبة : " .. إذا مات الميت يشاورون عليه ويدفعون معلوما لذلك " .
لم يكتف الفرنسيون بذلك بل كانوا ينهبون ويسرقون الأموال تحت مسميات أخرى مثل ( السلفة ) أو ( الكلفة ) ؛ يقول الجبرتي : " وفى يوم الثلاثاء طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق وقرروا عليهم دراهم على سبيل السلفة مبلغا يعجزون عنه وحددوا لهم وقتا مقداره ستون يوما يدفعون فيه فضجوا واستغاثوا وذهبوا إلى الجامع الأزهر والمشهد الحسينى وتشفعوا بالمشايخ ، فتكلم المشايخ لهم ولطفوا السلفة إلى نصف المطلوب " . وفى أماكن أخرى فرضوا الكلفة ومن يمتنع عن الدفع جزاؤه الحرق والقتل كما حدث بالخانكة وأبى زعبل عندما سخر الأهالي من هذه الكلفة وامتنعوا عن الدفع فأعلن الفرنسيون القتال وصوبوا مدافعهم ونشروا الخراب والدمار وأشعلوا الحرائق ونهبوا ما استطاعوا منها وارتحلوا ،
واخترعوا أيضا للنهب والسلب ما أسموه بالأمان ، فقد أمر نابليون أن ينادى بالأمان للنساء على أن يدفعن ثمن هذا الأمان فكانت كل سيدة تصالح على نفسها بمبلغ كبير من المال ، بل فرضوا على من يمتلك ماشية أن يشترى الأمان لماشيته .. يقول الجبرتي : " .. وفى يوم الأحد طلبوا الخيول والجمال والسلاح فكان شيئا كثيرا وكذلك الأبقار والأثوار فحصل فيها أيضا مصالحات وأشاعوا التفتيش على ذلك وكسروا عدة دكاكين بجهة سوق السلاح وغيرها وأخذوا ما وجدوه فيها ، وفى كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق ما لا يحصى " .
عندما يصير حرق الوطن بطولة فى حياتنا الأدبية الفاسدة !
يستدرك الأستاذ محمود شاكر استدراكاً مهماً ويلفت النظر الى نوع آخر مهم من أنواع السرقة والنهب وهو السطو على كنوز حضارتنا وثقافتنا كما فعل المأجورون أمس واليوم على اختلاف أشكالهم وشعاراتهم وراياتهم ، يقول رحمه الله : " ولكنهم لم يرحلوا عن القاهرة المخربة وعن الشعب الذي استنفزوا ثروته بالضرائب والإتاوات مدة ثلاث سنوات حتى سرق المستشرقون المصاحبون للحملة الفرنسية ومستشرقون آخرون من كل جنس ، سرقوا كل نفيس من الكتب ، وكانت القاهرة يومئذ من أغنى بلاد العالم بالكتب ، ودليل السرقة قائم بين أعيننا إلى هذا اليوم ، يصيح شاهدا على نفسه بالسطو على ذخائرنا التى يمنون علينا بعد ذلك فى حياتنا الأدبية الفاسدة أنهم حفظوها لنا ونشروا لنا نفائسها .. دليل السرقة قائم فى جميع مكتبات أوربا صغيرها وكبيرها ، فى فرنسا وانجلترا وهولندا وروسيا وغيرها من البلدان ، وفى الأديرة والكنائس ، وفى جميع أرجاء العالم المتحضر ، وكان همهم الأكبر يومئذ هو السطو على كتب علوم الحضارة أولا ثم على كتب التاريخ ثم على كتب الآداب كلها بلا تمييز " تلك هى القصة كاملة ؛ ليست قصة " وصف مصر " كما فى الجوهر النفيس الذى أحرقه المأجورون ضمن ما أحرقوه فى المجمع العلمى.
لكنها قصة " حرق مصر " التى بدأها المحتلون والمستعمرون الغربيون وأذنابهم قديماً ، وهاهم الأذناب والعملاء يعاودون الكرة بتمويل ودعم وتحريض من أسيادهم وآلهتهم فى الغرب ، وقد بدأها شباب مرتبطون بمنظمات غربية مشبوهة يحملون زجاجات المولوتوف وحمل الراية بعدهم تكفيريون وجهاديون يحملون الكلاشينكوف والجرينوف والآر بى جى ويرفعون بياناتهم التى يحرصون على حشوها بآيات القرآن وأحاديث الرسول ، وهو – صلى الله عليه وسلم - من أفعالهم وغبائهم برئ . رحم الله الجبرتي ، ورحم الله الشيخ محمود شاكر ، ورحم الله شهداء وعلماء الأزهر الكبار المناضلين والمقاومين الكبار من الشرقاوى وكريم ومكرم والحلبى الى الشيخ الشهيد عماد عفت ، ورحم الله شهداءنا البواسل الذين حموا تراث وتاريخ مصر بأرواحهم ودمائهم .
ولعنة الله على كل مدع مجرم مأجور ، وكل خائن عميل – وان تستر بالآيات القرآنية ومزاعم الجهاد ونصرة الدين - وكل صبى أو بلطجى مأجور أفاك أثيم ، ممن يعملون لحساب الذين شربوا ويشربون من دمائنا ودنسوا ويدنسون مقدساتنا ونهبوا وينهبون ثرواتنا وسطوا ويسطون على كنوز حضارتنا فى هذه ( الحياة الأدبية الفاسدة ) .
حرق مصر حلم استعمارى قديم يحاول المأجورون تحقيقه ، وحرق البيت لا يتم أبداً بيد أبنائه ، ولم تُحرق مصر يوماً على مدار تاريخها الطويل بيد أبنائها ، فلا أحد عاقل على الاطلاق يحرق بيته وأملاكه وتراثه وتاريخه ، والذين يحرقون الآن فى مصر وتاريخها وتراثها ومؤسساتها العريقة لا أشك لحظة فى عمالتهم للخارج أو أنهم مرتبطون بقوى وتيارات مصرية تحركها وتوجهها دول غربية معروفة بعدائها التاريخى والحضارى للأمة المصرية ، انهم مدفوعون وممولون من تلك القوى التى عملت دائما على اعاقة نهضة مصر ، كلما حاولت القيام والمسير فى طريق النهضة ، سواء من حركات شبابية مرتبطة بمنظمات خارجية مشبوهة تمويلاً وتحريضاً ، وهم من أحرقوا وقضوا على كنوز المجمع العلمى قبل عامين ، أو تنظيمات مسلحة تحمل عناوين إسلامية تعمل بشكل مباشر أو غير مباشر لصالح القوى المعادية لمصر وهى التى أحرقت كنوز المتحف الاسلامى ودار الكتب والوثائق مؤخراً . القصة طويلة مؤلمة ، لا تبدأ من أحداث ماسبيرو أو العباسية أو شارع محمد محمود أو موقعة مجلس الوزراء وحريق المجمع العلمى ولا تنتهى بأحداث الاتحادية وفض واسقاط حكم الاخوان وفض الاعتصامات وحريق دار الوثائق والكتب ، انما تمتد القصة المؤلمة قبل قرنين من الزمان !
بونابرت المنقذ !
هل نصدق - كمصريين شرفاء - أن الفرنسيين أرادوا حقاً أن يأخذوا بأيدي الشعب المصري من الظلمات إلى النور ، وأن ينقذوه من حكم المماليك الظالم الجائر المستبد ! وأنهم أرادوا نقل قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والتقاليد الفرنسية والثقافة والحضارة الفرنسية العريقة إلى شعب غارق فى الجهالة موبوء بالتخلف ، يحكمه جماعة من البرابرة ، لذلك قدم القائد العظيم والمنقذ العبقري " نابليون بونابرت " على رأس حملة عسكرية علمية تنويرية تحريرية تعليمية لإتمام هذه المهمة الجليلة !
هذا التوصيف المزيف الخادع للحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت شاعَ لفترة طويلة فى أوساطنا الثقافية وأُعجب به كثير من مثقفينا وأدبائنا وكتابنا ، وتعمد كثير من المؤرخين المحدثين توثيقه ونشره على أنه حقيقة من الحقائق المسلم بها تاريخياً . كذلك حديثاً ؛ أرادوا أن يصوروا الأمريكان وقائدهم المغوار الذي لا يشق له غبار" جورج بوش " على أنهم مبعوثي العناية الإلهية الذين أرسلوا لإنقاذ العراقيين من الحكم الظالم المستبد ، وأنهم ما تكبدوا المشاق ولا أنفقوا البلايين ولا قطعوا بجيوشهم وقواتهم تلك المسافات البعيدة إلا من أجل الشعب العراقي المظلوم المسكين ، ومن أجل نشر قيم الحرية وحقوق الإنسان الأمريكية ! والحقيقة المبكية أن الحضارة ( الأمريكانية ) لا تختلف كثيرا عن شقيقتها ( الفرنساوية ) وأن ما فعله الأمريكان " المتحضرون " فى العراق لا يختلف كثيراً عما فعله إخوانهم الفرنسيون فى مصر ، وأن الزعيم المتحضر صاحب القيم والمثل والمبادئ " جورج دبليو بوش " ما هو إلا نسخة بالكربون من القائد الأوربي الذي لا يقهر خواض الغمرات الصليبي المكيافلى المغامر المفتون الفاجر السفاح المغرور " نابليون " ( كما وصفه الأستاذ محمود شاكر ) ، فأحرقوا حضارة العراق ونهبوا تراثه الفكرى والعلمى وسرقوا متاحفه ومكتباته وآثاره النفيسة التى لا تقدر بثمن ، وفعلوا فيه فعلة التتار قديماً .
الحقيقة أننا أدرنا ظهورنا لأسمى ميراث امتلكه البشر وذهبنا ننبش فى المخلفات والقاذورات ، وأننا قوم نستهين بما لدينا من ثقافة أصيلة وحضارة عريقة وقيم راقية ونقف كالفقير الذليل نمتدح الغنى المتكبر ونستجديه ليعطينا ، ونستجديه لينقذنا ويدعمنا ، ولقد أعطانا هذا الغنى المغرور ولكنه بدل أن يعطينا مما لديه من علوم ومعارف وأصول وأساسيات التكنولوجيا وغزو الفضاء والطاقة النووية وغيرها أعطانا جرعات من تمرده على خالقه ، ثم سلب منا خيراتنا وثرواتنا ونهب مواردنا وكنوزنا وتراثنا وأحرق تاريخنا .
ألم يستغثه رجال أعمال وسياسيون ومثقفون ؟ ألم يذهب مثقف كبير ( لم يسمه عمرو أديب فى برنامجه عندما ذكر القصة لكن الجميع يعرف من هو ) الى المعتصمين أمام مجلس الوزراء واستفزهم وحرضهم للاشتباك مع عناصر الجيش بدعوى أن المجلس العسكرى قام بتصويرهم فى أوضاع مخلة وغير لائقة ؟ استغاثات مبطنة ومعلنة بالغرب وبأمريكا وبتاريخ التخريب والدماء والقتل لم يسلم منها الاسلاميون مؤخراً وهم الذين كانوا يعيبون هذا الفعل الشنيع على الدكتور البرادعى وساويرس وحمزاوى . وهاهى اغاثته ايانا ؛ بالحرق والتدمير ، والذى نعلمه ، أن تلك هى طريقة الغربيين المفضلة على مدار تاريخه فى اغاثتنا ، فلم يغثنا الغرب يوماً الا بتدميرنا وسفك دمائنا واغتصاب عذارانا ونهب ثرواتنا وحرق تراثنا العلمى والحضارى والثقافى .
العراق أولاً .. ومصر على الطريق
يقول الأستاذ محمود شاكر رحمه الله فى كتابه ( رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا) فى وصف حالة مصر بعد رحيل الفرنسيين عنها : " رحلت فلول جيش الفتى السفاح المغرور " نابليون " ، وجلت عن بلاد واسعة عريضة تركتها بلقعاً تصفر فيه الريح ، وانكشحت عن عاصمة عتيقة تركتها خراباً .. كان خراباً شاملاً وتدميراً لمدينة زاهرة من أجمل مدن العالم يومئذ ، بعمارتها وفنونها ، وبركها ومتنزهاتها ، أقدم على تدميرها تدميراً كاملاً بربري جاهل مستخف فى زى متحضر !
ولكن صار هذا التدمير فى عين حياتنا الأدبية الفاسدة هو رسول الحضارة الذي جاء ليخرجنا من ظلمات الجهل إلى عصر النور والتنوير " ، وتلك هى بليتنا ومصيبتنا وعقدتنا التى لا تريد أن تنحل . نرفع من شأن المحتل الغازي الغشوم ونظل – وان قاومناه وأخرجناه بالقوة – متأثرين بأفكاره وأخلاقه وثقافته وحضارته المزيفة ، رافعين شعاراته الفارغة ، مؤمنين بتصوراته المنحرفة منبهرين بإبداعاته الرخيصة ، مُعْرضين عن منبع ثقافتنا ومصدر قوتنا وأصل حضارتنا وسر وجودنا . انظروا إلى ما فعله الأمريكان بالعراق البلد الحضاري الثقافي الكبير ، ان حال العراق خير شاهد على مدى الانحطاط والتدني الذي وصلت إليه الحضارة الغربية ، لقد ارتكب الأمريكان ( المثقفون المتحضرون ) أبشع وأفظع الجرائم فى حق الإنسان ، داسوا على كل القيم والمبادئ والأعراف ، انتهكوا كل المقدسات ، ضيعوا كل الحقوق .. واتضح فى النهاية أن هؤلاء الذين جاءوا ليعلمونا الحرية وحقوق الانسان والقيم والمبادئ ما هم إلا حفنة لصوص ومرتزقة نهبوا أموال الشعب ومدخراته وثرواته وامتصوا دمه ، وقد تابعنا ما يحدث بالعراق منذ دخلها الأمريكان الى أن خرجوا منها قبل أيام بالعراق وكنا كمن يقرأ فى يوميات الجبرتي الذي أرخ لدمار القاهرة ووصف بالتفصيل ما ارتكبه الفرنسيون ( المتحضرون ) فيها من قتل وسرقة ونهب .
الجبرتى من حريق المجمع العلمى الى تدمير دار الكتب والمتحف الاسلامى
يقول الجبرتى رحمه الله فى ( عجائب الآثار فى التراجم والأخبار ) فى وصفه لدخول قوات نابليون القاهرة وما أحدثوه من رعب وإرهاب : " وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات وأطفالهن على أكتافهن يبكين فى ظلمة الليل ، واستمروا على ذلك بطول ليلة الأحد وصبحها وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع ، فلما خرجوا من أبواب البلد وتوسطوا الفلاة تلقتهم العربان والفلاحون فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته ، فكان ما أخذته العرب شيئا كثيرا يفوق الحصر بحيث أن الأموال والذخائر التى خرجت من مصر فى تلك الليلة أضعاف ما بقى فيها بلا شك لأن معظم الأموال عند الأمراء والأعيان وحريمهم وقد أخذوه صحبتهم وغالب مساتير الناس وأصحاب المقدرة أخرجوا أيضا ما عندهم والذي أقعده العجز وكان عنده ما يعز عليه من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين فذهب ذلك جميعه وربما قتلوا من قدروا عليه أو دافع عن نفسه ومتاعه وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن وفيهم الخوندات والأعيان ... ثم يقول : وكانت ليلة وصباحها فى غاية الشناعة جرى فيها ما لم يتفق مثله فى مصر ولا سمعنا بما شابه بعضه فى تواريخ المتقدمين " ... ثم يذكر السبب الذي جعل الناس يسارعون فى الخروج بهذه الطريقة من البلاد ويقول : " .. والذي أزعج قلوب الناس بالأكثر أن فى عشاء تلك الليلة ، شاع فى الناس أن الإفرنج عدوا إلى بولاق وأحرقوها وكذلك الجيزة وأن أولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء " .
ويقول رحمه الله وكأنه - وهو يصف لنا ما ارتكبه الفرنسيون بالجامع الأزهر – يؤرخ لجرائم الغرب اليوم فى وسط القاهرة بيد حفنة من المرتزقة المأجورين الممولين بالملايين من الدولارات : " وبعد هجعة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل ومروا فى الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع كأنهم الشياطين أو جند إبليس وهدموا ما وجدوه من المتاريس ودخل طائفة من باب البرقية ومشوا إلى الغورية وكروا ورجعوا وترددوا ما هجعوا وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين وتراسلوا إرسالا ركبانا ورجالا ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأروقة والحارات وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والمخبآت بالدواليب والخزانات ودشتوا الكتب والمصاحف على الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه " .
أليس هذا وصف لحريق وسط القاهرة عام 2011م عندما رأى العالم ورأينا فى مشهد أدمى قلوبنا ، صبياناً صغاراً وبلطجية مأجورين وعملاء خونة يحرقون تراث مصر وتاريخها ، ويتقافزون فرحين وهم يحولون الميراث العظيم الى كومة رماد ؟ أليس وصفاً دقيقاً لما آلت اليه مصر بعد أن ضرب الارهاب الأعمى قلب العاصمة المصرية واختلط دم ضباط وجنود الجيش والشرطة بأحبار دار الكتب والوثائق القومية بمنطقة باب الخلق ، وهو المبنى المقابل لمديرية أمن القاهرة ، ومن المعروف أن دار الكتب والوثائق القومية ليست مجرد داراً لحفظ الوثائق وعرضها انما هى بمثابة ذاكرة الوطن وسجلها المفتوح الذى يحوى ذخائرها المعرفية ، والحاق أى ضرر بها يعنى ضياع جزء كبير من تاريخ مصر . الأحداث فى مجملها تدلنا على أن هناك جيشاً منظما من المخططين المخربين يعمل بخطط واضحة وأهداف مرسومة وخطوات محددة سلفاً وان اختلفت أدواته وأشكال من ينفذ بهم مخططه الخبيث ما بين عامى 2011م و 2014 م ، ولا حاجة هنا لأن نقول دخلت قوات الاحتلال القاهرة أو دخلت بريطانيا أو أمريكا بجنودها وآلياتها وكتائبها ، فهناك من يقوم بالمهمة فى الداخل على أتم وجه لصالح أعداء مصر الساعين لمحو تاريخها ونسف حضارتها من الوجود ، هناك من يسعى باصرار ودأب لتنفيذ الغاية الاستعمارية الكبرى وحلم الغربيين والصهاينة الأثير وهى " حرق مصر " تاريخاً وحضارة ودولة !
حرق التسامح لصالح الهمجية
اعترف المؤرخون الفرنسيون أنفسهم بأن نابليون أمر بقتل الجنود الذين كانوا قد استسلموا خلال حملته على الشام وكان عدد هؤلاء الأسرى أكثر من ثلاثة آلاف جندي مسلم ، واعترفوا أيضا أنه كان يصدر أوامر يومية يوصى فيها قواده بالإكثار من إعدام الأشخاص على أن تقطع رؤوسهم بعد ذلك ويُطاف بها فى الشوارع إرهاباً للناس .
وقال نابليون فى أحد أوامره اليومية : " نحن نقطع كل ليلة ثلاثين رأساً ، فعليك أن تقطع رؤوس ما لا يقل عن تسعة أو عشرة أشخاص كل يوم " . لم يتوقف الأمر عند قطع الرؤوس والذبح والقتل وتدنيس المقدسات بل انطلق " أصحاب المبادئ والقيم الراقية " – بزعمهم - لينهبوا الأموال والجواهر الثمينة والتحف النادرة والمصوغات الغالية والأمتعة النفيسة .
يقول الجبرتي – وكأنه حاضر معنا اليوم ، يسجل بقلمه ما حدث فى غزوة مجلس الشعب التى قام بها عملاء الغرب فى بلادنا وما فعله المأجورون المغرر بهم والمضحوك عليهم فى غزوة مديرية أمن الدقهلية التى التهمت المسرح الرومانى وغزوة مديرية أمن القاهرة التى التهمت المتحف الاسلامى ودار الوثائق والكتب ، ودلالة ذلك كله من حرق لتراث مصر ولتاريخه - : " وفيه أخرجوا من بيت نسيب إبراهيم كتخدا صناديق ضمنها مصاغ وجواهر وأواني ذهب وفضة وأمتعة وملابس كثيرة " ، ويقول : " ... وفيه ظفروا بعدة ودائع وخبايا بأماكن متعددة بها صناديق وأمتعة وأسلحة وأواني صيني وأواني نحاس قناطير وغير ذلك " .
ويقول : " وفيه دلوا على إنسان عنده صندوقان وديعة لأيوب بك الدفتردار فطلبوه وأمروه بإحضارهما وأحضروهما فوجدوا ضمنها جواهر وسبح لؤلؤ وخناجر جوهرة وغير ذلك " . ويقول : " وفى يوم الثلاثاء عدت الفرنساوية إلى بر مصر وسكن بونابرتة ببيت محمد بك الألفي بالأزبكية بخط الساكت الذي أنشأه الأمير المذكور فى السنة الماضية وزخرفه وصرف عليه أموالا عظيمة وفرشه بالفرش الفاخرة وعند تمامه وسكناه فيه حصلت هذه الحادثة فأخلوه وتركوه بما فيه فكأنه إنما كان يبنيه لأمير الفرنسيس " .
ويقول رحمه الله : " ونهبوا بيت إبراهيم بك ومراد بك اللذين بخطة قوصون وأحرقوهما ونهبوا أيضا عدة بيوت من بيوت الأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وأمتعة وغير ذلك وباعوه بأبخس الأثمان " . هم لا يتوقفون ولا يستحون ولا يرتدعون ما دام الدعم والتمويل الغربى السخى قائماً ، وهم على مدار التاريخ تزيد وحشيتهم وطمعهم الدنيء مع تصاعد المقاومة ضدهم فيستحلون الدماء ويقتلون الأبرياء ، يقول الجبرتي فى وصف الفظائع التى ارتكبوها بعد ثورة القاهرة الثانية : " فعلوا بالأهالي ما يشيب من هوله النواصي وصارت القتلى مطروحة فى الطرقات والأزقة واحترقت الأبنية والدور والقصور والبضائع وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء الخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال " .
ولم يقف جشعهم فى نهب الأموال عند هذا الحد بل صادروا أملاك الناس وابتزوا أموالهم عن طريق فرض ضرائب جديدة عجيبة ، يقول الجبرتي : " كانوا يفرضون الضرائب على المبايعات والدعاوى والمنازعات والمشاجرات والاشهادات والمؤجرات وقبض أجر الأملاك " . حتى المسافر والمولود الجديد يحصلون عليه ضريبة : " والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدرا وكذلك المولود إذا ولد ويقال له أثبات الحياة " ، بل إذا مات شخص وجب على أهله أن يدفعوا على موته ضريبة : " .. إذا مات الميت يشاورون عليه ويدفعون معلوما لذلك " .
لم يكتف الفرنسيون بذلك بل كانوا ينهبون ويسرقون الأموال تحت مسميات أخرى مثل ( السلفة ) أو ( الكلفة ) ؛ يقول الجبرتي : " وفى يوم الثلاثاء طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق وقرروا عليهم دراهم على سبيل السلفة مبلغا يعجزون عنه وحددوا لهم وقتا مقداره ستون يوما يدفعون فيه فضجوا واستغاثوا وذهبوا إلى الجامع الأزهر والمشهد الحسينى وتشفعوا بالمشايخ ، فتكلم المشايخ لهم ولطفوا السلفة إلى نصف المطلوب " . وفى أماكن أخرى فرضوا الكلفة ومن يمتنع عن الدفع جزاؤه الحرق والقتل كما حدث بالخانكة وأبى زعبل عندما سخر الأهالي من هذه الكلفة وامتنعوا عن الدفع فأعلن الفرنسيون القتال وصوبوا مدافعهم ونشروا الخراب والدمار وأشعلوا الحرائق ونهبوا ما استطاعوا منها وارتحلوا ،
واخترعوا أيضا للنهب والسلب ما أسموه بالأمان ، فقد أمر نابليون أن ينادى بالأمان للنساء على أن يدفعن ثمن هذا الأمان فكانت كل سيدة تصالح على نفسها بمبلغ كبير من المال ، بل فرضوا على من يمتلك ماشية أن يشترى الأمان لماشيته .. يقول الجبرتي : " .. وفى يوم الأحد طلبوا الخيول والجمال والسلاح فكان شيئا كثيرا وكذلك الأبقار والأثوار فحصل فيها أيضا مصالحات وأشاعوا التفتيش على ذلك وكسروا عدة دكاكين بجهة سوق السلاح وغيرها وأخذوا ما وجدوه فيها ، وفى كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق ما لا يحصى " .
عندما يصير حرق الوطن بطولة فى حياتنا الأدبية الفاسدة !
يستدرك الأستاذ محمود شاكر استدراكاً مهماً ويلفت النظر الى نوع آخر مهم من أنواع السرقة والنهب وهو السطو على كنوز حضارتنا وثقافتنا كما فعل المأجورون أمس واليوم على اختلاف أشكالهم وشعاراتهم وراياتهم ، يقول رحمه الله : " ولكنهم لم يرحلوا عن القاهرة المخربة وعن الشعب الذي استنفزوا ثروته بالضرائب والإتاوات مدة ثلاث سنوات حتى سرق المستشرقون المصاحبون للحملة الفرنسية ومستشرقون آخرون من كل جنس ، سرقوا كل نفيس من الكتب ، وكانت القاهرة يومئذ من أغنى بلاد العالم بالكتب ، ودليل السرقة قائم بين أعيننا إلى هذا اليوم ، يصيح شاهدا على نفسه بالسطو على ذخائرنا التى يمنون علينا بعد ذلك فى حياتنا الأدبية الفاسدة أنهم حفظوها لنا ونشروا لنا نفائسها .. دليل السرقة قائم فى جميع مكتبات أوربا صغيرها وكبيرها ، فى فرنسا وانجلترا وهولندا وروسيا وغيرها من البلدان ، وفى الأديرة والكنائس ، وفى جميع أرجاء العالم المتحضر ، وكان همهم الأكبر يومئذ هو السطو على كتب علوم الحضارة أولا ثم على كتب التاريخ ثم على كتب الآداب كلها بلا تمييز " تلك هى القصة كاملة ؛ ليست قصة " وصف مصر " كما فى الجوهر النفيس الذى أحرقه المأجورون ضمن ما أحرقوه فى المجمع العلمى.
لكنها قصة " حرق مصر " التى بدأها المحتلون والمستعمرون الغربيون وأذنابهم قديماً ، وهاهم الأذناب والعملاء يعاودون الكرة بتمويل ودعم وتحريض من أسيادهم وآلهتهم فى الغرب ، وقد بدأها شباب مرتبطون بمنظمات غربية مشبوهة يحملون زجاجات المولوتوف وحمل الراية بعدهم تكفيريون وجهاديون يحملون الكلاشينكوف والجرينوف والآر بى جى ويرفعون بياناتهم التى يحرصون على حشوها بآيات القرآن وأحاديث الرسول ، وهو – صلى الله عليه وسلم - من أفعالهم وغبائهم برئ . رحم الله الجبرتي ، ورحم الله الشيخ محمود شاكر ، ورحم الله شهداء وعلماء الأزهر الكبار المناضلين والمقاومين الكبار من الشرقاوى وكريم ومكرم والحلبى الى الشيخ الشهيد عماد عفت ، ورحم الله شهداءنا البواسل الذين حموا تراث وتاريخ مصر بأرواحهم ودمائهم .
ولعنة الله على كل مدع مجرم مأجور ، وكل خائن عميل – وان تستر بالآيات القرآنية ومزاعم الجهاد ونصرة الدين - وكل صبى أو بلطجى مأجور أفاك أثيم ، ممن يعملون لحساب الذين شربوا ويشربون من دمائنا ودنسوا ويدنسون مقدساتنا ونهبوا وينهبون ثرواتنا وسطوا ويسطون على كنوز حضارتنا فى هذه ( الحياة الأدبية الفاسدة ) .