من مواعظ وأحكام الشتاء
هلال الهاجري
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:
فَإنَّ المُؤمِنَ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ فِكرَةٌ، وَفِي كُلِّ حَدَثٍ عِبرَةٌ، وَمِن ذَلِكَ مَا يَرى مِن تَقَلُّبِ الفُصُولِ والأَيَامِ، فَمِنْ حَرَارةٍ تَشوي الوُجُوهَ إلى بَردٍ يَكسِرُ العِظَامَ، وَصَدَقَ اللهُ تَعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)، فَتَعَالوا لِنَرى العِبرةَ والدُّروسَ مِنْ فَصلِ الشِّتَاءِ، فَهُوَ مَوسِمٌ مَليءٌ بِالمَواعظِ وطَاعَاتِ الأَتقِياءِ.
مِن طَاعَاتِ الشِّتَاءِ: النَّهَارُ فِيهِ قَصيرٌ، والصَّومُ فِيهِ يَسيرٌ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ: (الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ)، ويَكَونُ اللَّيلُ فِيهِ طَويلٌ، ولِلصَّالِحينَ فِيهِ قِيامٌ وتَرتيلٌ، بَكَى مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عِندَ مَوتِهِ وَقَالَ: (إنَّما أبْكي عَلَى ظَمَإ الهَوَاجِرِ، وَقِيَامِ لَيلِ الشِّتَاءِ)، وهَكَذَا كَانُوا في الشِّتَاءِ مَا بَينَ صِيَامٍ وقِيَامٍ، وكَانُوا يَستَقبِلُونَهُ بِالفَرحِ والتَّرحِيبِ والإكرَامِ، يَقُولُ ابنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (مَرحَباً بِالشِّتَاءِ؛ تَنْزِلُ فيهِ البَرَكَةُ، وَيَطولُ فِيهِ اللَّيلُ لِلقِيَامِ، وَيَقْصُرُ فِيهِ النَّهَارُ لِلصِّيَامِ).
مِن طَاعَاتِ الشِّتَاءِ: التي تُرفعُ بِهِا الدَّرَجَاتُ، وتُمحَى فِيهِا الخَطيئَاتُ، إتمَامُ الوُضوءِ مَع شِدَّةِ بُرودةِ المَاءِ، وَكَثَافَةِ وضِيقِ مَلابِسِ الشِّتَاءِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟)، قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ).
مِن الأَحَكَامِ التي يَحتَاجُهَا كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الشِّتَاءِ، لِكَثرَةِ ارتِدَاءِ الجَواربِ بِسَبَبِ بُرودَةِ الأَجواءِ، هُو مَعرِفَةُ شُرُوطِ المَسحِ عَليهَا في الطَّهَارةِ، وهَيَ: أَن يَلبَسهُمَا بَعدَ طَهَارةِ وُضوُءٍ تَامَّةٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرادَ المُغِيرَةُ بنُ شُعبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَن يَنزِعَ خُفَّيهِ لِلوُضُوءِ، قَالَ: (دَعهُمَا فَإنِّي أَدْخَلتُهُمَا طَاهِرَتينِ)، فمسَحَ عَليهِمَا، وَأَن يَكونَ المَسحُ في الحَدَثِ الأَصغَرِ وَلَيسَ فِي الحَدَثِ الأَكبَرِ كَالجَنَابةِ، وَأَن يَكُونَ المَسحُ في المُدَةِ المُحَدَّدَةِ وهِيَ: يَومٌ وَليلةٌ لِلمُقيمِ، وثَلاثَةُ أَيَّامٍ لِلمُسَافِرِ، وأَن يَكونَ الجَورَبُ يُغطِي مَحلَ الفَرضِ، يَعني: مَكَانَ الغَسلِ فِي الوُضُوءِ، ولِذَلِكَ لا يَجوزُ المَسحُ عَلى الجَواربِ القَصيرةِ التي لا تُغطي الكَعبِينِ.
ومِن أَحَكَامِ الشِّتَاءِ فِي التَّعَاملِ مَعَ الرِّيحِ، هُو مَعرِفَةُ مَا وَرَدَ في الحَدِيثِ الصَّحيحِ، فَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ، وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ).
ومِن أَحَكَامِ الشِّتَاءِ الوِقَائيَّةِ بَإذنِ اللهِ مِن الحَريقِ، هُو إطفَاءُ النَّارِ قَبلَ النَّومِ لأَنَّهَا لَيسَتْ بِصَديقٍ، احْتَرَقَ بَيْتٌ بالمَدِينَةِ علَى أهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بشَأْنِهِمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إنَّ هذِه النَّارَ إنَّما هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فأطْفِئُوهَا عَنْكُمْ)، فَتَأَكَدُوا مِن إطفَائهَا وإخَراجِهَا مِن المَكانِ، فَإنَّه لا يَنفَعُ النَّدَمُ إذا فَاتَ الأوانُ.
مِن مَواعِظِ الشِّتَاءِ التي يَغفَلُ عَنهَا الكَثيرُ، هُو تَذَكُّرُ ذَلِكَ النَّفَسَ مِن نَارِ السَّعِيرِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ)، فَالزَّمهَرِيرُ هُوَ شِدَّةُ البَردِ، قَالَ بَعضُ السَّلفِ: يَستَغيِثُ أَهلُ النَّارِ مِنَ الحَرِّ، فيُغاثُونَ بريحٍ بارِدةٍ، يَصدَعُ العِظامَ بَرْدُها، فيَسألُونَ الحَرَّ، فَنَعُوذُ باللهِ مِن حَرِّ جَهنَمَ وزَمهَرِيرِها.
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ العَظيمِ، ونفعني وإياكم بِسُنةِ النَّبيِّ الكَريمِ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم ولِسَائرِ المُسلِمينَ فاستغفروهُ إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى أَشرَفِ الأنبياءِ والمُرسلينَ وَعَلى آلهِ وَأَصحَابهِ والتابعينَ لهم بِإحسَانٍ إلى يَومِ الدِّينِ .. أَمَّا بَعدُ:
مِن مَواعِظِ الشِّتَاءِ التي تُنَادي قُلوبَ المُؤمِنينَ، هُو تَذكِيرُنَا بإخوَانِنَا الفُقَراءِ والمَسَاكِينِ، وَأَعظُمُ الصَّدَقَاتِ مَا كَانَ في شِدَّةِ الحَاجَةِ، رأى رَجلٌ في الشَّامِ رؤيا عجيبةً في المنامِ، فجهَّزَ لها متاعَه ودابتَه، ثُمَّ انطلقَ إلى المدينةِ النَّبويةِ، يسيرُ الليلَ والنَّهارَ، ويقطعُ الفَيافيَ والقِفارَ، حتى إذا بَلغَ المدينةَ صارَ يقولُ للنَّاسِ: دُلُّوني على صفوانَ بنِ سُليمٍ، فقِيلَ له: وما حاجتُكَ بصفوانَ بنِ سُليمٍ؟، قالَ: رأيتُه في المنامِ وقد دَخلَ الجَنَّةَ، فقيلَ له: بأيِّ شيءٍ؟، قالَ: بقَميصٍ كَساهُ إنسانًا، فسُئلَ صَفوانُ رحمَه اللهُ عن قِصَّةِ القَميصِ، فقَالَ: خرجتُ من المسجدِ في ليلةٍ بارِدةٍ فإذا رجُلٌ عُريانٌ، فنزعتُ قَميصي فكسوتُه.
وَفِي قَولِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، تَظهَرُ عَاطِفَةُ المُؤمنِ وَرَحمَتِهِ بِإخوانِهِ المؤمنينَ، فَإذا جَلَسَتَ أَنتَ وَأَبنَاءَكَ عَلى مَائدةِ العَشَاءِ السَّاخنِ في اللَّيلةِ البَارِدَةِ، قَد آوَاكُم بَيتٌ دَافئٌ، وفِراشٌ نَاعمٌ، فَتَذكَّرْ أنَّ لَكَ إخواناً أُخرِجُوا مِنْ بُيُوتِهم قَهراً، فَهُم نُزلاءُ الخِيَامِ دَهراً، لِبَاسُهم العَراءُ، ولِحافُهم السَّماءُ، فَرُّوا مِن مَوتِ السَّلاحِ والحروبِ، فقتلَهم البردُ في الملاجيءِ والدُّروبِ، وَمِنهُم مَن هُو بينِنَا لا نَفطنُ لهُ، فهم بينَ بردِ الشِّتاءِ والجُوعِ، وبَينَ الأَحزانِ والدُّموعِ، يَنظرُ إلى زَوجَتِه وَأَبنَائهِ وَهُم يَشتَكُونَ، وَلا يَملِكُ إلا دُعَاءَ خَالقِ الكونِ.
اللهمَّ يا حيُّ يا قيّومُ برحمتِك نَستغيثُ، ارحم إخوانَنا وأهلَنا في كلِّ مكانٍ، اللهمَّ اكشف عنهم البلاءَ، واجعل لهم مَخرجاً، اللهمَّ أطعمْ جائعَهم، وأمِّنْ خائفَهم، اللهمّ فَرِّجْ همَّهم، ويسِّرْ أمرَهم، اللهمَّ اغفر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرِنا، وأدخلنا جنتَك، وأعذنا من نارِك يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ اجعلنا مقيمي الصَّلاةِ ومن ذرياتِنا، ربنا وتقبلْ دعاءَنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنينَ يومَ يقومُ الحسابُ، اللهمَّ استر عيوبَنا، واقض ديونَنا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، اللهم اهدِ ضالَنا، واجمع على الحقِّ كلمتَنا يا ربَّ العالمينَ، اللهم آمنا في الأوطانِ والدورِ، وأصلح الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واغفر لنا يا عزيزُ يا غفورُ، اللهمَّ اكفنا بحلالِك عن حرامِك، واغننا بفضلِك عمن سواك، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
المرفقات
1734515564_من مواعظ وأحكام الشتاء.docx
1734515574_من مواعظ وأحكام الشتاء.pdf