من غشّ فليس مني
عبدالله الغامدي
الحمد لله الذي أمرنا بالعدل والإنصاف، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، نهانا الله على لسانه عن التطفيف والإجحاف، صلَّى الله على وعلى آله وذريته وأتباعه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين} أما بعد:
يروي لنا أسلم مولى عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- موقفًا من تلك المواقف العديدة التي شهدها مع عمر -رضي الله عنه- حينما كان يخرجُ معهِ في هزيعٍ من الليل؛ ليتفقَّدَ الرعيَّة ويفتّشَ عن أحوال المسلمين؛ فيقول أسلمُ رحمه الله راويًا لنا تفاصيلَ تلك الحادثة: خرجَ عمرُ بن الخطَّاب في إحدى الليالي يتفقَّدُ رعيتَه، فأصابَه الإعياءُ، فاتكأ على جدارٍ ليرتاحَ، فسمعَ أمًا تنادي ابنتهَا بأن تخلطَ الماءَ باللبنِ حتى يكثُرَ مقدارُ اللبن؛ فيبيعان منه كميةً أكبر بهذا الخلط، ويحصلان منه على سعرٍ أعلى بذلك التكثير، فقالت الفتاةُ لأمَّها: يا أُمَّاه ألم تسمعي أنَّ عمرَ نهى عن هذا؟! فقالت الأم لابنتها: يا ابنتاه إنَّك بمكانٍ لا يدري عنك عمر، فاخلطي اللبن مع الماء! فقالت الفتاة -وهي لا تعلم أنَّ عمر يسمعها من وراء الباب- يا أُمَّاه إن كان عُمر لا يسمعني ولا يراني، فإنَّ ربَّ عمر يسمعني ويراني!
سمعَ عمرُ -رضي الله عنه- قولَ الفتاة؛ ففرحَ بما سمعه منها، وسُرَّ بما قالته هذه الفتاة؛ فلمَّا أصبحَ عُمر نادى ابنَه مصعبًا، وأمرَه أن يتزوَّجَ من هذه الفتاةَ الأمينة، التي كان من بركاتِ أمانتها فيما بعد: أنَّها ولدت ابنةً، وأنجبت هذه الابنةُ: عُمر بن عبد العزيز رحمه الله، الذي أصبحَ خليفةً للمسلمين فيما بعد، وظلَّ إلى يومنا هذا: المثلَ الذي يُضرب للناسِ في الأمانةِ والعدل.
فانظر كيف باركَ اللهُ لهذه الفتاة، ورزقها الزواجَ بابنِ خليفةِ المسلمين، ثُمَّ جعلَ الصلاحَ في ذُريَّتها بعدَ ذلك؛ وذلكَ بحرصِهَا على الأمانةِ في بيعهَا وشرائهَا!
وهذه البركةُ التي حصَّلتَها تلك الفتاة؛ ليست خاصةً بها، ولا حِكرًا عليها؛ بل هي لكلِّ تاجرٍ أمينٍ في تجارتِه، ولكُلِّ بائعٍ صادقٍ في بيعه؛ قال ﷺ: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا. فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما، فعسى أن يربحا ربحا ، ويمحقا بركة بيعهما).[1]
ومع كونِ الصادقِ المصدوقِ ﷺ بيَّن لنا أنَّ البائعَ والمشتري: (إن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما، فعسى أن يربحا ربحا ، ويمحقا بركة بيعهما) إلا أنَّك تجدُ كثيرًا من النَّاس مع الأسف يُفرِّطُ في هذه البركة ويُضيّعها؛ وذلك بتساهلهِ في التَّجارة والبيع، وغشّهِ لإخوانَه المسلمين؛ غيرَ مبالٍ بما وردَ في ذلكَ من النصوص العظيمة التي تُحذِّر وتُعظِّم من شأنِ غشّ المسلمين وخداعهم، ولو في الأمر اليسير والشيء القليل.
ومن ذلك: ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (أن رسول الله ﷺ مر على صُبرةِ طعام فأدخل يده فيها ، فنالت أصابعه بللا ، فقال : ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال : أصابته السماء ، يا رسول الله . قال : أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشَّ فليس مني!).[2]
تخيَّل -أيُّها البائع أو التَّاجر- أنَّ رسولَ الله ﷺ يُعلن براءته منك؛ بمُجرَّدِ غشِّك لإخوانك المسلمين، فهل ما حصَّلته بالغشِّ ولو كان كثيرًا؛ يستحقُّ أن تخسرَ لأجله هذه الخسارةَ العظيمة ببراءة رسول الله ﷺ منك، أو دعاءِ أخيك المسلم عليك!
يا بائعًا بالغشِّ أنت مُعَرَّضٌ *** لدعوةِ مظلومٍ إلى سامعِ الشكوَى
فكلْ مِن حلالٍ وارتدعْ عن محرَّمٍ *** فلست على نارِ الجحيمِ غدًا تقوَى
وحتى يتضحَ لنا مفهوم الغشّ في التَّجارة؛ ليحذره المرء ويبتعد عنه، نذكرُ تعريفًا يُقرَّب معناه، فنقول: (هو كتم أمرٍ لو علِمَه المشتري لأنقصَ به الثمن، أو تركَ بسببه شراءَ السِّلعة).
ومن صور ذلك: أن يبيعَ البائعُ منتجًا على أنَّه أصليٌّ وهو مُقلَّد غيرُ أصليّ، أو يضع عليه علامةً أنَّه من البلد الفلاني المعروف بجودة التصنيع، وهو في الحقيقةِ من بلدٍ آخر رديء الصنع، أو يعرض الجانب الحسن من السِّلعة فقط ويخفي الجانب الرديء منها، أو يذكر أنَّها بمواصفات مُعيَّنة عالية وهي دون ذلك! سواءٌ كان ذلك في السيارات، أو الشقق والعقارات، أو الأجهزة والجوالات، أو الأطعمة، أو الأقمشة، أو غير ذلك من أيِّ أمرٍ وسلعةٍ تُشترى وتُباع.
ولما كان كثيرٌ من التُجَّار قد يقعُ منه مثل هذه الأفعال والتصرّفات الخادعة في البيع؛ لحرصه على المال، وعدم مبالاته أحصَّله من حلالٍ أم من حرام، قال النبيُّ ﷺ مُحذَّرًا ومبيِّنًا حالَ كثيرٍ من التُجَّار: (إن التُجَّار هم الفُجَّار قال : رجل يا نبي الله ألم يُحلَّ اللهُ البيع؟ قال : إنهم يقولون فيكذبون، ويحلفون ويأثمون!).[3]
وهذا الأمرُ الذي ذكره النبيُّ ﷺ من أخطرِ الأمور التي يتساهلُ فيها كثيرٌ ممن يشتغلُ بالتجارةِ والبيعِ والشَّراء: وهو أن يحلفَ باللهِ كذبًا، مستغلًا بذلك تعظيم المسلمين للحلف بالله، من أجلِ أن يبيعَ سلعتَه. وقد وردَ في ذلك حديثٌ عظيمٌ يقشعرُّ لهُ بدنُ كُلِّ مسلم، ولا أظنُّ أحدًا يسمع بهذا الحديث، ثُمَّ يتهاونُ بعد ذلك في الحلفِ بالله؛ ليُروَّجَ بضاعته أو يبيعَ سلعتَه!
فقد أخبرنا النبيُّ ﷺ أنَّ هناك ثلاثةَ أصنافٍ من النَّاس لن يُكلَّمهم اللهُ يومَ القيامة ، ولن ينظرَ إليهم، ولن يزكّيهم، ولهم عذاب أليم! والمخيفُ في هذا الحديث: أنَّ واحدًا من هؤلاء الثلاثة الذين ذكر النبيُّ ﷺ عنهم هذه العقوبة العظيمة، هو: (رجلٌ بايع رجلا بسلعة بعد العصر، فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا، فصدَّقه، وهو على غير ذلك!).[4]
لا يُكلَّمه الله، ولا ينظرُ إليه، وله عذابٌ أليم! أليسَ هذا كافيًا ليرتدع من يحلفُ بربّه كذبًا؟!
ولا يُفهم مما سبقَ ذكره -أيُّها الكِرام-: أنَّ كلَّ تاجرٍ ممَّن تنطبق عليه هذه الأحاديث المذكورة؛ بل هناك الكثيرُ من التُجَّار ممَّن يدخلون تحتَ هذا الفضلِ العظيم، الذي يقول عنه النبيُّ ﷺ: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء).[5]
فبعضُ تُجَّارنا كما أخبرَ النبيُّ ﷺ يكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ وذلك لصدقهم في بيعهم، وأمانتهم في تجارتهم، ونصحهم لإخوانهم.
وقد سطَّرَ سلفنا الصَّالح -رحمهم الله- لمن بعدهم من التُجَّار؛ أروعَ الأمثلةِ في أمانتهم، وصدق نصحهم للمسلمين في بيعهم وشرائهم.
ومن ذلك: أنَّ جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- كان إذا قام إلى السلعة يبيعها، بصَّر المشتري بعيوبها ثم خيَّره، وقال: (إنْ شئت فخذ، وإنْ شئت فاترك، فقيل له: إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع -يعني لن تُباع بضاعتُك!- فقال: إنا بايعنا رسول الله ﷺ على النصح لكل مسلم)!
بل كان السلف -رحمهم الله- إذا رأوا بائعًا يغشُّ أحدًا من إخوانهم المسلمين، لم يرضوا بذلك أو يسكتوا عنه؛ بل كانوا يذهبون إلى المشتري وينصحونه -ولو لم يكن لهم علاقةٌ أو مصلحةٌ من هذا البيع-؛ وذلك من حرصهم على إخوانِهم، ومحبَّتهم لهم ما يُحبّون لأنفسهم.
ومن ذلك: ما جاء أنَّ واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- كان واقفًا في السوق؛ فباع رجلٌ ناقةً له بثلاث مئة درهم، فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة؛ فسعى وراءه وجعل يصيح به: يا هذا أشتريتها للحم أو للظهر؟! فقال: بل للظهر -يعني لأركبَ عليها- فقال: إن بخفّها نقبًا قد رأيته، وإنها لا تتابعُ السَّيرَ، فعاد فردَّها فنقصها البائعُ مئةَ درهم، وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت عليَّ بيعي! فقال واثلة: إنا بايعنا رسول الله ﷺ على النصح لكل مسلم!
اللهم اجعلنا من الناصحين لإخوانهم المسلمين، ونعوذ بك اللهم أن نكون من المخادعين أو الغاشّين
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وذريته ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} أما بعد:
من التَّنبيهاتِ التي يجب أن نتفطَّن لها -يا كِرام-: أن الغشَّ لا يكون في المال فقط، ولا يقع من التُجَّار فقط، بل قد يقعُ الغشُّ من أيِّ واحدٍ منَّا، ولو لم يكن بائعًا أو تاجرًا
قد يقع الغشُّ من الأب والأم، وقد يقع الغشُّ من الموظَّف، وقد يقع الغشُّ من المعلم، وقد يقع الغشُّ من الطالب؛ فيدخلُ هؤلاءِ جميعًا تحتَ قولِ النبيِّ ﷺ: من غشَّ فليس مني.
فكلُّ من أمرَه الله بأمرٍ، أو استأمنه النَّاسُ على شيءٍ، فما حفظ هذا الشيء الذي استُؤمن عليه، أو لم يؤدِّ الأمرَ كما طُلبَ منه؛ فهو متعرضٌ لبراءةِ الرسول ﷺ منه لكونه غاشًا.
إذا فرَّط الوالدان في تربيةِ أبنائهم وبناتهم، وما أحسنوا رعايتهم كما أمرهم بذلك النبيُّ ﷺ؛ فهما داخلان تحت قول النبي ﷺ: من غشَّ فليس مني.
وإذا تساهل الموظَّفُ في عملهِ؛ بتأخّره وغيابه دون عذر، أو أهملَ إنجاز بعضَ الأعمالِ الموكَّلِ بها دون سبب؛ فهذا الموظَّفُ داخلٌ تحتَ قول النبي ﷺ: من غشَّ فليس مني.
وإذا لم يشرح المعلم المنهج لطُلّابه بالصّورة المطلوبة، أو فاضلَ بين درجاتهم من غيرِ سببٍ يُوجبُ ذلك؛ فهذا المعلمُ داخلٌ تحت قول النبيِّ ﷺ: من غشَّ فليس منَّي.
وإذا حصلَ الطالبُ على درجةٍ في الامتحان لا يستحقُّها؛ وإنما حصلَ عليه لكونه غشَّها من صاحبهِ، أو نقلها من شيءٍ كان معه؛ فهذا الطالبُ داخلٌ تحتَ قوله ﷺ: من غشَّ فليس مني.
نسأل الله -تعالى- أن يجنبنا الغش بجميع أنواعه وأشكاله
وأن يطهر مجتمعاتنا من الغش والمكر والخديعة
وأن يرزقنا خشيته وتعظيمه ومراقبته سبحانه.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
[1] متفق عليه
[2] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه
[3] أخرجه الإمام أحمد في مسنده
[4] متفق عليه
[5] "أخرجه الترمذي في جامعه، وقال: "حديثٌ حسن