مِنْ رَحِمِ الآلامِ تُولَدُ الأحلامُ ( الجمعة1442/7/21هـ )

يوسف العوض
1442/07/18 - 2021/03/02 11:28AM

       الخطبة الاولى

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : (وأوحينا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنَّ أَرْضِعِيه فَإِذَا خَفَّت عَلَيْه فألقيه فِي أَلِيمٌ وَلا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي أَنَا رَادّوه إلَيْك وجاعلوه مِن المرسلين) هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تُبيّنُ لَنَا عَظمةَ الْحَنانِ الْإِلَهِيِّ عَلَى النِّسَاءِ وَخَاصَّةً الْأُمَّهَات ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، يَتَحَدَّثُ عَنْ قِصّةِ أُمٍّ خَافَتْ عَلَى ابْنِهَا ، وَمَعَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى حِفْظِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دُونَ طَمْأَنَةِ أمِّه وَدُون أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ لَنَا وَلَكِنَّهَا حِكْمَةُ اللَّهِ جلّ وَعَلَا أَن يُعلِّمَ عبَادَه عَاطِفَةَ الْأُمُومَةِ وحنانَها ، وَانَّ أَصْعَبَ الْحِرْمَانِ هُو حِرْمَانُ الْأُمِّ مِنْ ابْنِهَا وَأَصْعبَ الْفِرَاقِ فِرَاقُ الْأُمّ لِوَلَدِهَا ، وَكَيْف لِهَذِه الْأُمِّ الْمُنْكَسِرَةِ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مِثْلِ هَكَذَا مَوَاقِف ، وَكَمْ مِنْ أمٍّ يومياً تعاني هَذِهِ الْحَالَةَ مِنْ الشُّعُورِ بِالْخَطَرِ وَالْخَوْف لِفِقْدَان ابْنِهَا ، وَكَم مِنْهُنَّ عانت حُزْنَ فَقدِ الِابْن وذاقت لَوْعَةَ الْفِرَاق . أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَقَدْ بَدَأَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ بِقَوْلِهِ : (وأوحينا) وَقَد اسْتَخْدَم صِيغَةَ جَمْعِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ إِذا تكلّمَ الحقُّ بِهَا دلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَتَحَدَّثُ بِجَمِيع أَسْمَائِه الدَّالَّةِِ عَلَى عَظَمَتِهِ سُبْحَانَه وسعةِ مُلْكِه ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : (أوحينا نَحْنُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ . . إلخ) ، وَهَذَا إشَارَةٌ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَهَا بِنَفْسِه وَمُلِكهِ وَمَلَائِكَتِه ، وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ الِاطْمِئْنَانِ ، فَمَنْ كَانَ اللَّهُ حَسْبُه فَمَنْ ذَا الَّذِي يَكِيدُ لَه ! .

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : ومعنى (أوحينا) أَي أَلْهمْنَا وقَذَفنَا فِي الصَّدْرِ مَا نُرِيدُ مِنْ وارداتٍ وإلهاماتٍ ، وَوَارِدُ الْحَقِّ قَوِيٌّ وَفِيه طُمَأْنِينَةٌ وَانْشِرَاحُ صَدْر ،(إلى أمِّ موسى) فِيه تنزّلٌ إِلَهِي أَيْ أَنَّهُ بِعَظَمَتِه وَجَلَالَة قَد تنزّلِ إلَى هَذِهِ الْمِسْكِينَةِ الَّتِي تعاني خَوَّفَهَا الشَّدِيدَ عَلَى ابْنِهَا ، وَمَعَ أَنَّ اللَّفْظَ (وأوحينا إلى) دالّ أَنَّهُ عَنْ طَرِيقِ مَلَك مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، فَيَسْتَبِين لَنَا أَنْ الْمِلْكَ مَا هُوَ إلاّ وَاسِطَةُ الْوَحْي ، وأنَّ الْوَحْي أَصْلُه إِلَهِي ، قُذف فِي صَدْرِهَا مَعَ نُورِ السَّكِينَةِ الَّتِي يَحٍفُّ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ الذَّاكِرِين الْمُتَوَكِّلِين عَلَيْه ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهُ فِي الْآيَةِ كَذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَان معلّماً لأمّ مُوسَى ومُرشداً لَهَا فِي اتِّخَاذِ القَرَارِ ، وَكَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَأْمُرَهَا بِإِلْقَائِه ويطمئنَها أَنَّه سيردُّ مُوسَى إلَيْهَا ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْمَرْءُ يسيطرُ عَلَيْهِ الْقَلَقُ مِنْ اتِّخَاذِ القَرَارِ وَالْخَوْفُ مِنْ الْعَوَاقِب فَإِنَّهُ يَكُونُ بأشدِّ الْحَاجَةِ لِمَن يُسَاعِدُهُ فِي اتِّخَاذِ القَرَارِ ويرشدُه إلَى الصَّوَابِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا شَاعَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ صَبِيٍّ يُولَد وَكَانُوا يَتَرَقَّبُون الْحَوَامِلَ ، فَكَان الْخَطَرُ بِأُمِّ مُوسَى مُحدقاً وَخَاصَّةً لمّا وَضَعَتُه ولداً يَأْسِرُ القُلوبَ حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ فِيه : (وألقيت عَلَيْك مَحَبَّة مني) ، فَهَل تَسَلَّمُه لِلْمَوْت؟! أَمْ هَلْ تُخْفِيه عَنِ الأَنْظَارِ وتحميه مِنْ الْقَتْلِ ؟! وَهُنَا يَأْتِي الْإِرْشَادُ الْإِلَهِيّ لها حَيْثُ قَدْ علّمها كَيْف تَصنعُ القَراَرَاتِ حَالَ الْخَوْفِ ، وَذَلِكَ أَنَّ تَحْرِصَ عَلَى اتِّخَاذِ قَرَارٍ أَكْثَرَ أمناً وأقلَّ مُخَاطَرَةً ، وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ أَمْرَيْنِ أن لَا تُسلّم ابْنِهَا لِلْقَتْل وان تُتَّخَذ الحيطَةَ والحَذَرَ ، لِهَذَا فَقَدْ صَنعَتْ لَهُ تابوتاً وَجَعَلْتُه مربوطاً بِجَانِبِ الِيمِّ حَيْثُ إنَّ مَنْزِلَهَا كَان بِجَانِبِ الِيمِّ ، وَكَانَ هَذَا التَّابُوت معدّاً لِإِخْفَاء مُوسَى وَقْتَ أَنْ يَأْتِيَ جُنُودُ فِرْعَوْنِ للتفتيش ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَأْتِي مَرْحَلَةُ التَّنْفِيذ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تَقْيِيم دَرَجَةِ الْأَمَانِ وَالْمُخَاطَرَةِ ، فَقَالَ لَهَا : (أرضعيه فَإِذَا خَفَّت عَلَيْه فألقيه) ، أَيْ مَا دَامَ هُوَ فِي أَمَانٍ فاستمري فِي رَضَاعَتِه ، فَإِنْ حَصَلَ الْخَوْفُ فألقيه فِي التَّابُوتِ الَّذِي صَنْعَتِه لَهُ لِيَكُونَ فِي مَأْمَن مِنْ الْجُنْدِ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَأْتِي مَرْحَلَةُ احْتِسَاب مَخاطِرِ الْمُغامَرَةِ ، وتُسمى الْخُطَطَ البَديلَةَ ، فَإِن إلْقَاء مُوسَى فِي تَابُوتٍ وَهُوَ طِفْلٌ رَضِيعٌ وَعَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَانَ فِيهِ مُغامَرَةُ حُصُولِ أَحَدِ، ثَلَاثِ احْتِمَالَاتٍ ، فَإِمَّا أَنْ يَنْجُوَ وإمّا أَنْ يَجِدهُ جُنْدُ فِرْعَوْن إذَا أحْكُمُوا الْبَحْثَ وَالتَّفْتِيشَ ، وإمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُ قوياً فيحرّكَ التَّابُوتَ فَيَسِيرَ بِهِ فِي الْبَحْرِ وَلَا تَسْتَطِيعُ اللِّحَاَقَ بِهِ ، وَلَكِنْ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ عَدَا أَنْ يَجِدهُ الْجُنْدُ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنَّ يَمُوتَ أَوْ يُقتل ، وَلَكِن يتبيّن لَنَا مِنْ التَّدْبِيرِ الذَّكِيّ أَنَّهَا وَبِالرُّغْم مِنْ أَنَّ التَّابُوت كَان مربوطاً بِجَانِب اليمِّ ، فَإِنَّهَا كَانَتْ عازمةً عَلَى أَنَّ تَفُكَّ رِبَاطَه بَعْدَ أَنْ تَضَعَ مُوسَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ وُصُولِ الْجُنُودِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِدَاخِل التَّابُوت وَكَان قريباً فَإِنَّهُ إنْ صَرَخ أَوْ بَكَى فسيسمعُه الْجُنْدُ فَيَعْلَمُوا مَكَانَه ويقتلوه ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي توقعاتِها أَنْ لَا يَذْهَبَ بعيداً فَرُبَّمَا لَمْ تَطُلْ فَتْرَة التَّفْتِيش ، ودائماً يَجِبُ عَلَى مَنْ يَعْزِم الْقَرَارَ وَيُتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ واثقاً فِي اللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَخَاصَّةً النِّسَاءُ اللَّوَاتِي يُغلب عَلَى أَمْرَهِنّ كثيراً وَاَللَّوَاتِي يَكنَّ فِي حَالَةِ ضَعْفٍ وَخَوْفٍ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَهْر ، فَإِنَّهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الظُّرُوف عَلَيْهَا إنْ تلجأ إلَى حِصْنٍ مَنِيعٍ وَهُوَ اللَّهُ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ الْقَادِرُ عَلَى كلّ شَيْءٌ والحفيظُ عَلَى كلّ شَيْءٍ ، وَلِهَذَا أرشدها الْمَوْلَى جلّ فِي عُلَاهُ بِقَوْلِه : (ولا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إنّا رادّوه إلَيْك وجاعلوه مِن المرسلين) ، وَهَذَا تَعْلِيمٌ للمتوكلين عَلَى اللَّهِ الَّذِينَ جَعَلُوا اللَّهَ حسيبَهم وكافيهم أَن يُبشروا بِالْفَرْج وَأَنْ لَا يَخَافُوا ويَحزنوا وَهَذِه كَرَامَةٌ يُكْرِمُهَا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ لِأَوْلِيَائِه الَّذِي عَرفُوهُ سُبْحَانَه وَوَثِقُوا فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِه وَأَمِنُوا أَنْ قَضَاءَهُ كلّه خَيْرٌ لَهُمْ فَقَدْ قَالَ عَنْهُم : (ألا إنّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يحزنون) فَلا خَوْفٌ مِنْ الْعَوَاقِب المستقبليةِ وَلَا حُزنٌ نَتِيجَةَ النَّدَمِ عَلَى مَا اتَّخَذُوه مِنْ قَرَارِ ، وَقَدْ حَصَلَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَتْ أُمُّ مُوسَى تخشاهما ، فَقَدْ طَالَ التَّفْتِيشُ فِي الْمَنْزِلِ حَيْثُ إِنَّهُمْ تفاجئوا أَن طِفْلَهَا غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ حاملاً ، وَقَد أَخْبَرَتْهُم أَنَّ ابْنَهَا مَاتَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ ، وَلَكِنَّهُم لَم يصدقوها فَفَتَّشُوا الْمَنْزِلَ كثيراً ، ولمّا تفاجأت بِأَن التَّابُوتَ قَدْ سَارَ فِي الْبَحْرِ مَسافاتٍ بَعِيدَةً حَتَّى كَادَ أَنْ لَا يُرى ، فَهُنَا كَان اخْتِبَارُ الْإِيمَانِ وَالتَّوَكُّل ، فَإِنَّهَا نَتِيجَةَ لثباتها فِي مَوَاطِنِ الْبَلَاء وَرُسُوُخُ إيمَانِهَا بِأَنَّ اللَّهَ خَيْرٌ الْحَافِظِين ، أَخْبَرَت أُخْتَه أَن تقصَّ أَثَرَه ، فلمّا أَرْجَعَه الْحَقُّ لِأُمِّه بِأَنْ حرّمَ عَلَيْهِ لبنَ المرضعات سِوَى أُمِّه ، فَعَاد إلَيْهَا كَمَا أَخْبَرَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ : (كي تقرّ عَيْنِهَا وَلَا تحزن) أَي تقرّ عَيْنُهَا بِرُؤْيَتِهِ وَلَا تَحْزَنْ أن نجّاه اللَّهُ مِنْ الْمَوْتِ وَالْقَتْل ، وَمَعَ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ وَصَفَ حَالَ أمّ مُوسَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ : (وأصبح فُؤَادٌ أمّ مُوسَى فارغاً أَن كَادَت لتبدي به) أيْ عِنْدَمَا لَمْ تَجِدْهُ وَعَرَفْت أَنّهُ قَدْ سَارَ فِي الْمَاءِ أَصْبَح فؤادُها والهاً مِن الْحُرَقَة ِعَلَى مُوسَى - وَالْفُؤَادُ هُو صَمِيمُ الْقَلْبِ - لِدَرَجَةِ أَنَّهَا كَانَتْ ستفضحُ أَمَرَه ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : (لولا أَن ربطنا عَلَى قلبها) أَي ثبتناها بِالْإِيمَان وَالْحِكْمَة ، فَإِن آيَّةَ إشَاعَةٍ لِأَمْرِ وَلِيدِهَا كَانَت سَتَكُون سبباً فِي قَتْلِهِ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَجِدُوهُ .

 

الخطبة الثانية



أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْفَوَائِدِ الشَّيْءُ الكَثِيرُ ، وَأَذْكُرُ مَنْ ذَلِكَ أَنَّ تُرَبِّيَةَ الأمِّ لابْنِها تَبْدَأُ قَبْلَ وِلَادَتِهِ ، فإنّ حَالَ أَمِّ مُوسَى كَانَ الْخَوْفَ قَبْلَ وِلَادَةِ ابْنِهَا ، وَلِهَذَا فَقَدْ أَرْضَعَتُه الْخَوْفَ مِنْ لَبَنِهَا ، فَإِنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْأُمُّ قَبْلَ الْوِلَادَةِ يَتَأَثَّرُ بِهَا حليبُها ، وَلِهَذَا فَقَدْ اخْتَلَطَ الخوفُ فِي تَرْكِيبِةِ مُوسَى ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ خَوْفٍ مُوسَى فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ، لِهَذَا فَإِن الْأُمَّ يَجِبُ أَنْ تُرَاعِيَ حَالَتَهَا النَّفْسِيَّةَ كثيراً أَثْنَاء الْحَمْل وَخَاصَّةً فِي الْأَشْهَرِ الْأَخِيرَة ، وَتُرَاعِي كَذَلِك نَفْسَهَا أَثْنَاءَ الرَّضَاعَة ، وَإِن يُرَاعِيهَا مِنْ حَوْلَهَا فَإِنَّ التقلباتِ النَّفْسِيَّةَ والهرمونيةَ فِي تِلْكَ المراحل تُؤَثِّرُ عَلَى الطِّفْلِ ، وَإِنَّ الربَّ قَدْ اعْتَنَى بِهَا وَرَاعَى نفسيتَها وَعَاطِفَتَهَا وواساها وطمأنَها ، لِذَا فإنّ مِنْ حَوْلَهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أُسْوَةٌ بِاَللَّه الْقَدِير ، فَإِنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعْطُوهَا الْحَنَّانَ لِتُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى وَلِيدِهَا .

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَمَن الْإِشَارَاتِ الْهَامَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهَمِّيَّةُ الرَّضَاعَةِ ، فَقَد بَدَأ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ خِطَابَه لِأُمّ مُوسَى بِالْأَمْر بِقَوْلِه : (أن أرضعيه) ، فَقَد أوصاها بالرضاعةِ بِالرَّغْمِ مِنْ الْمَخَاوِفِ والظُّروفِ وَهَذَا لأهميةِ الرَّضَاعَةِ الطَّبِيعِيَّةِ لِلْمَوْلُودِ ، فإنّ اللَّهَ قَدْ اسْتَوْدَعَ فِي لَبَنِ الأمِّ كلَّ مَا يَلْزَمُ لِلْمَوْلُود مِنْ مَوَادٍّ وعناصرَ تَتَغَيَّرُ فِي نِسْبَتِهَا وَتَكْوينِها بِحَسَب عُمَر الرَّضِيع واحتياجاتِه ، بَلْ إنَّ فِيهِ مسكناتِ الْأَلَم ومضاداتِ الْإِمْسَاكِ وَالْإِسْهَالِ ومهدئات نَفْسِيَّةٍ وأجسامَ مُضَادَّة والعديدَ مِنْ الْمُرَكَّبَاتِ الدوائيةِ الَّتِي تُفْرَز فِي لَبَنِ الْأُمّ بِحَسَب احْتِيَاجَات الرَّضِيع وَمَا يَشْتَكِيَ مِنْهُ ، وَتَخَطِّي الْكَثِيرُ مِنْ الْأُمَّهَاتِ اللَّوَاتِي لَا يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهَنَّ الرَّضَاعَةَ الطَّبِيعِيَّةَ دُونَ أَنْ يَعلمن أَنَّ هَذَا مُضَرٌ بالرَّضيع ، وَخَاصَّةً فِي الْفَتَرَات الْأُولَى مِنْ الرَّضَاعَةِ .

وَمِنْ الْأُمُورِ كَذَلِك الَّتِي أَشَارَت إلَيْهَا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ، هِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِعْدَادِ النَّفْسِيّ ، فَهُنَاك ضَرُورَةٌ لتهيئةِ النَّفْسِ عَلَى مُوَاجَهَةِ الصَّدَمَات وَالْمَخَاطِر ، وتأهيلِ النَّفْس لِمُوَاجَهَةِ جَمِيع دَرَجَاتِ الْخَطَر ، وشحنِها بِالْإِيمَان وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمُصِيبَة وَأَنَّهُ لَا يَحْدُثُ شَيْءٌ إلاّ تباعاً لِحُكْمِةِ الْحَقّ فَإِنَّه الْآخْذُ بِالنَّوَاصِي وَأَنَّهُ لَا يُصِيبُ الْمَرْءَ إلَّا مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ .

وَمِنْ الْأُمُورِ كَذَلِك الْهَامَةِ هِي مُوَاجهَةُ الْخَوْفِ وَعَدَمُ الاِسْتِسْلاَم لَه ، وَقَدْ اتَّضَحَ هَذَا جليّاً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (فإذا خَفَّت عَلَيْه فألقيه) . وَهُنَا نتعلّم فَنّ تحدّي النَّفْس وَالْمُوَاجَهَة وَتحمَلَ التَّبَعَاتِ لِيَزُول مَا نَخَاف مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَقَدْ اتَّبَعَ سُبْحَانَه قَوْلُه : (فإذا خفت) بِقَوْلِه : (لا تَخَافِي وَلَا تحزني) فمواجهةُ الْخَوْفِ تُؤَدِّي إلَى قَتْلِ الْخَوْف ، وَكَذَلِك فإنّ الْآيَة أَشَارَتْ إلَى أنّ الأمّ تَرْجُو لِابْنِهَا أَعْلَى الرُّتَبِ ، وَهِيَ تُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ابْنُهَا دائماً هُوَ الْأَفْضَلُ ، لِذَا فَقَد أَخْبَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِه : (وجاعلوه مِن المرسلين) ، فَهَذَا كَانَ مِنْ بَوَاعِثِ الطُّمَأْنِينَةِ لِقَلْبِهَا ، كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ تَحْرِصَ الْأُمُّ مِنْ بِدَايَةِ وِلَادَةِ ابْنِهَا أن تنشئه عَلَى مَعَالِي الْأُمُورِ وتؤهله مُنْذ الصِّغَرِ عَلَى صِفَاتِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُدَبَاء والمفكرين وَالْحُكَمَاء ، فَهَذَا بِإِذْنِ اللَّهِ سَيَكُون ذَا أَثَرٍ عَظِيمٍ فِي نَشْأَةِ الطِّفْلِ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي ربته أُمُّهُ عَلَيْهَا . 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَمِنْ الْأُمُورِ الْهَامَة كَذَلِكَ أنَّ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ مُتَلَازِمَان ، وَلِهَذَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَرَنَهُمَا فِي عَدَدٍ مِنْ الْآيَاتِ ، وَلَكِنَّه سُبْحَانَهُ لَا ينْهَى عنْ أَمْرٍ إلاّ وَهُوَ يَعْلَمُ أنّه يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ ، فَإِذَا مَا نَهَى عَنْ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ ، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَدَيْه الْقُدْرَةُ عَلَى التحكّم بمشاعره وعواطفه ، ويتمّ ذَلِكَ كَمَا بيّنه الْحَقُّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِه : (لا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إنّا رادّوه إلَيْك وجاعلوه مِن المرسلين) ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يبيّن أَن التحكّمَ فِي الْعَوَاطِفِ السَّلْبِيَّةِ يَكُون بِالتَّفَاؤُل وَالتَّحَقُّقِ بِالنَّظْرَةِ الْإِيجَابِيَّةِ لِلْأُمُور ، وانَّ الْمَرْءَ إذَا مَا وَضعَ الْفَرَجَ وَالنَّجَاحَ نَصْبَ عَيْنَيْهِ فستهون عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي خِطَاب الْحَقِّ سُبْحَانَهُ لِأُمِّ مُوسَى نَجُِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ علّمَها كَيْف تَنْظُرُ لِلْأُمُور بِنَظَرِةٍ إيجَابِيَّةٍ ؛ فَقَد عَوَضَهَا اللَّهُ بِأَن رَدَّ ابْنَهَا لَهَا بِدُونِ أَذًىً بَل وتقاضت أجراً عَلَى رِعَايَتِه وَلَيْسَ هَذَا فَحَسْبُ بَلْ إنَّهُ قَدْ تَرَعْرَع فِي بَيْتِ مِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْأَرْضَ وَقْتَهَا ، وَالْكَرَامَة الْحَقِيقِيَّةُ أنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ ، فالتفاؤلُ بِاَللَّه حلٌّ عَظِيمٌ لِجَمِيع الْمَشَاكِلِ النَّفْسِيَّةِ بِإِذْنِه سُبْحَانَه ، وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ .


المشاهدات 1835 | التعليقات 2

مستفادة


جزاك الله خيرا