من خطب أبي بكر الصديق رضي الله عنه
أ. د عبدالعزيز بن أحمد العليوي
الحمد لله القائل: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)) [التوبة: 100].
أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[1] والقائل: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»[2] صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بوصية الله للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131]
فاتقوا الله - رحمكم الله - فإن في تقواه السعادة والفلاح في الدارين.
أيها المسلمون: إن خير من يقتدى بهم صحابة رسول الله e، الذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مكانة عالية ومنزلة سامية؛ بسبب التربية الحقيقية التي رباهم عليها الرسول e، فقد كان لهم نعم القدوة، فكانوا من بعده نعم الأسوة.
عباد الله: لقد تحدثنا في الجمعة الماضية عن أول خطبة جمعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة، ونتحدث اليوم عن إحدى خطب خليفة رسول الله e، وصاحبه في الغار، أبي بكر الصديق t كما أوردها الإمام الطبري في تاريخه، والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية،
فمما قال t بعد حمد الله والثناء عليه ما نصه:
(أوصيكم بالله لفقركم وفاقتكم أن تتقوه، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تستغفروه؛ إنه كان غفاراً، واعلموا أنَّ اللَّهَ عز وجل لَا يَقْبَلُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهَهُ، فَأَرِيدُوا اللَّهَ بِأَعْمَالِكُمْ، واعلموا أن ما أَخْلَصْتُمْ لِلَّهِ مِنَ الْأَعْمَالِ فَطَاعَة أَتَيْتُمُوهَا، وَحَظّ ظَفِرْتُمْ بِهِ، وَضَرَائِب أَدَّيْتُمُوهَا، وَسَلَف قَدَّمْتُمُوهُ مِنْ أَيَّامٍ فَانِيَةٍ لِأُخْرَى بَاقِيَةٍ لِحِينِ فَقْرِكُمْ وَحَاجَتِكُمْ.
اعْتَبَرُوا - عِبَادَ اللَّهِ - بِمَنْ مَاتَ مِنْكُمْ، وَتَفَكَّرُوا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَيْنَ كَانُوا أَمْسِ، وَأَيْنَ هُمُ الْيَوْمَ! أَيْنَ الْجَبَّارُونَ! أَيْنَ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ ذِكْرُ الْقِتَالِ وَالْغَلَبَةِ فِي مَوَاطِنِ الْحُرُوبِ! قَدْ تَضَعْضَعَ بِهِمُ الدَّهْرُ وَصَارُوا رَمِيمًا، قَدْ تُرِكَتْ عَلَيْهِمُ الْقَالَاتُ، الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثَيْنِ، وَالْخِبِّيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ.
وَأَيْنَ الْمُلُوكُ الَّذِينَ أَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا! قَدْ بَعُدُوا وَنُسِيَ ذِكْرُهُمْ، وَصَارُوا كَلَا شَيْءٍ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَبْقَى عَلَيْهِمُ التَّبِعَاتِ، وَقَطَعَ عَنْهُمُ الشَّهَوَاتِ، وَمَضَوْا وَالْأَعْمَالُ أَعْمَالُهُمْ، وَالدُّنْيَا دُنْيَا غَيْرِهِمْ، وَبَقِينَا خَلَفًا بَعْدَهُمْ، فَإِنْ نَحْنُ اعْتَبَرْنَا بِهِمْ نَجَوْنَا، وَإِنِ اغْتَرَرْنَا بِهِمْ كُنَّا مَثَلَهُمْ.
أَيْنَ الْوُضَاءُ الْحَسَنَةُ وُجُوهُهُمْ الْمُعْجَبُونَ بِشَبَابِهِمْ! صَارُوا تُرَابًا، وَصَارَ مَا فَرَّطُوا فِيهِ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ.
أَيْنَ الَّذِينَ بَنَوُا الْمَدَائِنَ وَحَصَّنُوهَا بِالْحَوَائِطِ، وَجَعَلُوا فِيهَا الْأَعَاجِيبَ! قَدْ تَرَكُوهَا لِمَنْ خَلْفَهُمْ، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ خَاوِيَةً، وَهُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْقُبُورِ، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا!
أَيْنَ مَنْ تَعْرِفُونَ مِنْ آبَائِكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ! قَدِ انْتَهَتْ بِهِمْ آجَالُهُمْ، فَوَرَدُوا عَلَى مَا قَدَّمُوا فَحَلُّوا عَلَيْهِ، وَأَقَامُوا لِلشِّقْوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
أَلَا إِنَّ اللَّهَ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ سَبَبٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْرًا، وَلَا يَصْرِفُ بِهِ عَنْهُ سُوءًا إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَبِيدٌ مَدِينُونَ، وَأَنَّ مَا عِنْدَهُ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، أَمَا إِنَّهُ لَا خَيْرَ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَلَا شَرَّ بَشَرٍ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ)[3].
رزقنا الله وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأحسن لنا ولكم الختام، وأدخلنا الجنة، وأعاذنا من النار؛ إنه على كل شيء قدير
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) . [آل عمران: 185].
الخطبة الثانية:-
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
أيها المسلمون: ومما قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة له ما نصه:
(إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أمر وعلى كل حال، ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم؛ فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير، من يكذب يفجر، ومن يفجر يهلك، وإياكم والفخر! وما فخر من خُلِقَ من تراب، وإلى التراب يعود! هو اليوم حي، وغدًا ميت، فاعلموا وعدوا أنفسكم في الموتى، وما أشكل عليكم فردوا علمه إلى الله، وقدموا لأنفسكم خيرًا تجدوه محضرًا؛ فإنه قال عز وجل: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)) [آل عمران: 30].
فاتقوا الله - عباد الله - وراقبوه، واعتبروا بمن مضى قبلكم، واعلموا أنه لابد من لقاء ربكم، والجزاء بأعمالكم صغيرها وكبيرها، إلا ما غفر الله؛ إنه غفور رحيم، فأنفسكم أنفسكم، والمستعان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)) [الأحزاب: 56] اللهم صل على عبدك ورسولك نبينا محمد، أفضل ما صليت على أحد من خلقك، وزكّنا بالصلاة عليه، وألحقنا به، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، اللهم أعنا على طاعتك، وانصرنا على عدوك). انتهت خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم وعليك باليهود المعتدين، والنصارى المحاربين، والنصيريين الظالمين، والحوثيين المجرمين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم اكتب السلام والأمن للعالم الإسلامي في كل ربوعه، واجعل العزة والرفعة للإسلام وجموعه. اللهم أدم على بلاد الحرمين أمنها وإيمانها وعزها ورخاءها يا رب العالمين. اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء، اللهم فاشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا قوي يا عزيز.
اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، واحرسنا بعينك التي لا تنام، اللهم احفظ أبطال الصحة والأمن المرابطين في الداخل وعلى الحدود يا رب العالمين.
اللهم احفظ ووفق إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم ألبسه لباس الصحة والعافية، وأمد في عمره على طاعتك، واجزه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
اللهم أعن ولي عهده على أداء ما أسند إليه من مهام، اللهم وفقه وسدده، واكفه شر الحاقدين والحاسدين، واجعله عزًّا لديننا وبلادنا وذخرًا للإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم فرّج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وارحمهم كما ربونا صغارًا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
نستغفر الله ونتوب إليه، نستغفر الله ونتوب إليه.
اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن عبادك الفقراء، اللهم فأنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم غيثا مغيثًا هنيئًا مريئًا غدقًا مجللًا، نافعًا غير ضار، عاجلًا غير آجل، اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العبادن وتجعله بلاغًا للحاضر والباد، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)) [النحل: 90].
فذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على جزيل ووافر نعمه يزدكم (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
جمعها
أ . د عبدالعزيز بن أحمد العليوي
خطيب جامع الغنام بالزلفي
التلجرام https://t.me/aa_3zz
تويتر @aa_3zz
يوتيوب
https://www.youtube.com/channel/UCd4qD7_fhwfibF2O0aDPxAQ
***
[1] أخرجه البخاري (رقم 2652) ومسلم (رقم 2533).
[2] أخرجه الترمذي (رقم 3662) وقال: حديث حسن.
[3] تاريخ الطبري (3/422 - 423) البداية والنهاية (9/419 - 420).
المرفقات
1666211390_من خطب أبي بكر الصديق 19-10-2022.pdf