من تعلق بشيء وكِلَ إليهِ .. خطبة العيد ..

عبدالله محمد الطوالة
1438/09/18 - 2017/06/13 14:09PM

الحمد لله الذي جعل في اختلاف الليل والنهار آية وذكرا، وجعل هذه الدار زاداً ومجازاً إلى الدار الأخرى ، والحمد لله الذي يسَّر لمَن شاء من عباده الهدى واليسرى، وجزاهم بفضله على الحسنةٍ الواحدة عشرا {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} .. سبحانه وبحمده ، ذلَّت لعزته كُلُّ عزة ، وخضعت لقوته كل قوة ، وتلاشت أمام عظمته كل عظمة .. {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} ..

وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، كلُ شيءٍ قائمٌ به ، وكلُ شيءٍ خاضعٌ له ، وكلُ شيء راجعٌ إليه ، { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .. إلهاً واحداً أحداً فرداً وتراً .. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}..

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ؛ الناصح المبين ، والصادق الوعد الأمين ، الشفيق الذي ادخر دعوته شفاعةً لأمته ، وألحَّ على ربه سبحانه حتى نالت أمته من الخير على يديه ما لم تنله أمةً غيرها ، ووعد مَن صلَّى عليه مرة أن يصلي الله عليه بها عشرا .. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ؛ أعلام الدنيا وسادتها ، وفخرها وقدوتها ، وعلى التابعين لهم بإحسان، وسلم ...

الله أكبر الله أكبر؛ لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ..

أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون وأطيعوه ، وعظموه في هذا اليوم المبارك وكبروه، واحمدوه على ما هداكم له من الإيمان وسبحوه، واشكروه على ما أعانكم عليه من الصيام والقيام وقدسوه .. أصلِحوا يا عباد الله ماضَيكم بالنَّدم ، وأصلِحوا حاضرَكم بحُسن العمل ، وأصلِحوا مستقبلَكم بصادقِ النية وعظيم الأمل ..{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ..

الله أكبر الله أكبر؛ لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ..

أيها المسلمون: أدَّيتم فرضَكم، وأطعتُم ربَّكم ، وصمتم لله شهركم ، وصليتم ما شاء الله لكم أن تصلوا ، وقرأتُم ما فتح الله عليكم أن تقرؤوا ، وتصدَّقتُم بما يسر الله لكم أن تتصدقوا .. وربما قمتم بغيرها من أعمال البر والتقوى ..

وها أنتم اليوم تحضرون عيدكم بعد تمام شهركم ، واكتمال نعمة الله تعالى عليكم ؛ فأسعد الله أيامكم ، وبارك أعيادكم ، وأدام أفراحكم ، وتقبل الله منا ومنكم ، وبُشراكم بإذن الله الفوزَ بالأجر العظيم .. فربكم محسنٌ كريم ، لا يُضيعُ أجر من أحسن عملا .. كيف وقد علِمتم أن للصائم فرحتين: فرحة عند فِطره ، وفرحة بلقاء ربه .. فافرحوا الْفَرَحَ الْمَشْرُوعَ بِالْعِيدِ وابتهِجوا ، وانشروا الأنس والسعادةَ فيمن حولكم ، أَدْخِلُوا الْفَرَحَ عَلَى أقاربكم وأَرْحَامِكِمْ ، وَعَلَى جِيرَانِكُمْ ومعارفكم بصلتهم والتواصل معهم ، وَعَلَى أَهْلِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ بإكرامهم وِالتوسيع عليهم ، ولا حرج في شيء من اللَّهْوِ الْمُبَاحِ مَعَهُمْ ؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ فَرَحٍ وَحُبُورٍ .. ومن حقِّ أهل الإسلام في يوم فرحهم أن يسمعوا كلامًا جميلاً، وحديثًا مُبهِجًا ..

الله أكبر الله أكبر؛ لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ..

أيها المسلمون : مهما ازدانت الدنيا ، ومهما بُسط للإنسان منها ، ومهما تمكن العاقل منها، فإنه لا يخدع بها ، ولا يركن إليها، ولا يتعلق بسرابها .. لأنه يعلم أنها حلوة خضرةً ، لا تدومُ حبرَتها ، ولا تؤمَنُ فجيعتها ، غرّارة ضرّارة ، غدّارةٌ مكارة ، حائلةٌ زائلة ، نافذةً بائدة ، منوعٌ خدوع ، معطيةٌ نزوعٌ ، لا يدومُ رخاؤها، ولا ينقضي عناؤها ، إذا حلت أوحلت ، وإذا كست أوكست ، وإذا أينعت نعت .. فالمغرور حقاً من غرته فتعلق بها ، فأنسته مولاه وما أعده له في دار لقياه .. وأنه ولا مخرج للمؤمن منها إلا أن يعلق قلبه بالله تعالى ، ويملأه يقيناً وثقةً وحسن ظن بمولاه جل في علاه ..

الله أكبر الله أكبر؛ لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ..

لقد اجتمعت أمم الكفر من سالف التاريخ إلى حاضره على الرسل وأتباعهم ، وكادوهم أعظم الكيد وأشدهُ ، فكان تعلق الرسل وأتباعهم بالله تعالى ويقينهم به وتوكلهم عليه ، وثقتهم بمعيته وعونه ، وحسن ظنهم بربهم هو أمضى أسلحتهم لمجابهة أعداءهم والنصر عليهم في كل موطن ، رغم الفارق الهائل في العدد والعدة ..

تأملوا في سيرة نوح عليه السلام رغم طولها وتنوع أساليبها ، فما آمن معه إلا قليل ، وكيف وقف لوحده في وجه الملأ من قومه متحدياً ، ليس ذلك فحسب ، بل وأمرهم بالاجتماع عليه ، والانتقام قدر استطاعتهم منه ، في صورة من التحدي والإعجاز تدعو للإكبار والإعجاب: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} .. فيا ترى أيُّ سلاحٍ كان يملكه هذا النبي الكريم ، لكي يتحدى قومه كل هذا التحدي العجيب ؟! .. لقد كان سلاحه اليقين والثقة بالله وحسن التوكل عليه : ولذا حماه الله تعالى منهم ، فلم يقابلوا تحديه لا بفعل ولا بقول ، مع أنهم أكثرُ عدداً وأقوى عُدة ، وما كان هناك من يردعهم عن أن ينتقموا لأنفسهم ، ويثأروا لكرامتهم إلا أمرُ الله وحفظه لمن توكل عليه ووثق به .. ويؤمر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يتلوَ علينا خبر نوح ؛ لنتعلم من سيرته كيف نتعلق بالله تعالى وحده ، ونقطع العلائق بكل من سواه ..

وننتقل من نوح إلى هود عليهما السلام ، لنرى جبلاً شامخاً يقف أمام قومه ، يصدعُ بدعوته بكل ما أوتي من قوة ، يسفهُ آلهتهم ، ويحقرُ طريقتهم ، يتحداهم لوحده وهم جماعة ، وليسوا أيُّ جماعة ، إنهم قوم عاد ، وما أدراك ما قوم عاد ، أهل القوة والبطش والجبروت الشداد ، فاسمعوا وتعجبوا مما قال: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } ..

يا لله العجب ، وما أعظم يقين المؤمن وثقته بربه إذا حسُن توكله عليه ، إنه يستفزهم متحدياً ، ويطلب كيدهم ، ويدعوهم للاجتماع والتكالب عليه ، وما معه سلاحٌ إلا تعلقه بالله تعالى وثقته ويقينه به وتوكلهِ عليه .. ثم يقول لهم : {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ..

ولا يقتصر الأمر على نوح وهود فقط ، فهذا الخليل إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار ، لم يكن معه ما يمكن أن يخرجه من ذلك الموقف الرهيب العصيب ، إلا تعلقُ قلبه بالله تعالى وثقته ويقينه به جل وعلا ، وحسن توكله عليه ، ولذلك فما زاد على أن قال : "حسبي الله ونعم الوكيل" ..

تأملوا يا رعاكم الله ، فمن شدة يقينه وتعلق قلبه بالله تعالى شغله ذلك عن أن يرجوا قومه أو أن يستعطفهم أو أن يفاوضهم ! ولذا فقد روى أهل التفسير أن جبريل عليه السلام جاء لإبراهيم وهو يهوي في النار فقال: "يا إبراهيم: ألك حاجة ؟! قال: أما إليك فلا ، وأما إلى الله فنعم " .. أي توكل هذا يا عباد الله وأي ثقة ويقين بالله جل وعلا .. ألا ما أعجب شأن الإيمان إذا امتلأت به القلوب .. إنه يجعلها تثق وتوقن أنه ليس مثلُ الله يفرجٌ الكروب .. أمَا طورِدَ موسى عليه السلام ومن معه حتى حوصروا بين البحر وبين عدوهم اللعين .. وعظُم الكربُ حتى قال المطارَدون: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فيقول القلب المتعلق بربه الموقن الواثق بعونه ونصره: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ..

وتستمر سلسلة القلوب النورانية ، المتعلقة بربها ، الواثقة الموقنة بعونه ونصره ، لنصل إلى قمتها وتاجها ، إلى إمامهم وخيرتهم صلى الله عليه وسلم حين يطوق المشركون الغار وهو بداخله ، حتى يقول صديقُ الأمةِ وأقواها إيماناً بعد نبيها : يا رسول الله لو نَظَرَ أَحَدَهُمْ تَحْتَ قَدَمهِ لرآنا ، فيقول القلب المتعلق بربه الموقن الواثق بعونه ونصره : "يا أَبَا بَكْرٍ ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا .. لا تحزن إن الله معنا .. "

هذه هي مدرسة محمداً صلى الله عليه وسلم ، في التعلق بالله والتوكل عليه وحسن الظن به تبارك وتعالى ، وهكذا ربى المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ، فتعلقت قلوبهم بالله ، ووثقوا به جل في علاه ، وأحسنوا الظن به والتوكل عليه في أمورهم كلها .. ومن ثمّ أعانهم الله وأيدهم ، ففتحوا الدنيا في غمضة عين ، ودمدموا في وقت واحد بأعظم دولتين ..

ومما سجله التاريخ بمداد من ذهب أن أبا عبيدة كتب إلى عمر رضي الله عنهما يستنصره على الكفار يوم اليرموك ، ويخبره أنه قد نزل بهم جموع هائلة لا طاقة لهم بها ، فلما وصل كتابه إلى عمر وقرأه على الحاضرين بكى الناس ، وأشاروا عليه أن يخرج بهم لينصروهم ، لكن عمر رضي الله كتب إلى أبي عبيدة ما يلي: "أما بعد : فمهما ينزل بالمسلم من شدةٍ فينزلها بالله تعالى ، فإن الله جاعلٌ له منها فرجًا ومخرجًا ، فإذا جاءك كتابي هذا فاستعن بالله وقاتلهم بمن معك " ..

إنها مدرسة محمداً صلى الله عليه وسلم ، تعلَقْ بالله تعالى وحده ، ولا تتعلقْ بغيره ، لا بعمرٍ ولا بعددٍ ولا بعده ، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ..

الله أكبر الله أكبر؛ لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ..

أيها الصائمون القائمون: إنها قاعدة عقدية : (من تَعَلَّقَ بشَيْئٍ وُكِلَ إليه) ، وإنه لكلام من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم ، وقد رأيناه واقعًا مطبقاً ، فيما مر بنا من أحداث عظام ؛ فأمّة العرب ركنت في قضاياها المصيرية إلى المنظمات الدولية ، وركنت في حماية أمنها إلى الدول العظمى ، وتعلقت بها أكثر من تعلقها بالله تعالى ، فما زادهم ذلك إلا ذلاًّ وقهرًا ، وظلمًا ورهقًا ، فضاعت فلسطين في أروقة الظالمين ، وسُلِمت العراق للصفويين ، وهاهي سوريا واليمن وليبيا يذوقون الأمرين ، ولا يزال البوذيون يبيدون إخواننا البورماويين ، والأمة العربية ومِنْ ورائها الأمة الإسلامية لم يستطيعوا فعل شيء يذكر ؛ لأن تعلقهم بغير الله تعالى كان أكثر من تعلقهم به سبحانه وتعالى .. ضربت عليهم الذلة رغم كثرتهم ، وأهينوا بالفقر رغم ثرواتهم ، وأصيبوا بالتفرق والتشرذم رغم وحدة قرآنهم وعقيدتهم ولغتهم .. تعدَّدت الأسباب ، واختلفت الرؤى ؛ لكنَّ السببَ الجامعَ لكُلِّ أسبابِ مصائبِ الأمةِ ومذابحها وهوانها على أعدائها هو التعلقُ بغير الله تعالى، فوُكِلُوا إلى مَن تعلَّقوا به مِن البشر ، فخذلوهم ، وغدَروا بهم ، وتكالبوا عليهم كما تتكالب الأكلة على قصعتها، لا من قلة، ولكن من تعلق بالمخلوق دون الخالق جل وعلا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكُلُّ مَن علّق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه ، أو يرزقوه ، أو يهدوه ؛ خضع قلبُه لهم ، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك ، وإن كان في الظاهر أميرًا ، أو مُدَبِّرًا ، أو متصرفًا ، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر " ..

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " أعظم الناس خذلانًا مَن تعلّق بغير الله ، فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه ، أعظمَ مما حصلّه ممن تعلق بهم ، وهو مُعرَّضٌ للزوال والفوات " .. فلا على نصيبه من الله حصَل ، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل ..

فعلِّقوا قلوبكم بالله تعالى وحده ، علقوا به قلوبكم في رد أعدائكم عنكم ، وعلقوا به قلوبكم في حفظ أمنكم واستقراركم ، وعلقوا به قلوبكم في جلب أرزاقكم ، وعلقوا به قلوبكم في تحصيل كل ما تؤمِّلونه من خيرٍ في مستقبلكم ، وفي دفع كل ما تخشونه مما قد يضركم أو يسوئكم ... ولا تتعلقوا بمخلوق مهما علت منزلته ، ومهما بلغت قوته ، ومهما ظهرت عزته ، فإن القوة لله جميعًا ، وإن العزة لله جميعًا : {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} ، وقال تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} ..

بارك الله لي ولكم ...

الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظمياً لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وإخوانه ....

الله أكبر الله أكبر؛ لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ..

أما بعد: فيا أيتها الأخوات الفاضلات، يا أيتها الصائمات القائمات: اتقين الله تعالى في أنفسكن ، واتقينه في دينكن ، وعلقن به وحده سبحانه قلوبكن ؛ فإن المخلوق ضعيف .. وكلما اشتدَّ ضعفه كان أشدَّ حاجة إلى التعلق بمن يحميه وينصره ويدفع عنه ، والله تعالى هو القوي القهار، العزيز الجبار ؛ ولا والله لا يتعلق به امرؤٌ فيضيع .. {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} ..

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .. فاملأن قلوبكن بمحبة الله تعالى وتعظيمه ، وشدة التعلق والثقة به ، وحُسن التوكل عليه ، وقوة اليقين فيه .. فما تعلقَ قلبُ امرأةٍ بالله تعالى إلا وتمسكت بدينه ، وحافظت على أوامره ، واجتنبت نواهيه ، ودعت غيرها إليه بقولها وفعلها وسمتها، وصبرت على الأذى فيه .. وما تعلقَ قلبُ امرأةٍ بالله تعالى إلا وأشتدَّ حياءها، وصانت عفافها، وسترت جسمها، وتلفعت بجلبابها، وجانبت مخالطة الرجال الأجانب ، ولو أوذيت في ذلك وحوربت ، ومُنع عنها الرزق بسببه؛ وسُخِر منها لأجله، فإن تعلُّقها بالله تعالى يدفعها للتضحية في سبيله، والثبات على ما يرضيه ولو كان في ذلك سخط البشر أجمعين ..

فليتُكَ تحلو والحياةُ مريرةٌ .. وليتكَ ترضى والأنامُ غِضابُ

وليتَ الذي بيني وبينكَ عامرٌ .. وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ

إذا صحَّ منكَ الودُ فالكلُ هينٌ .. وكلَ الذي فوقَ التراب ترابُ

واعلمي أختي الكريمة أن المرأة المسلمة المستمسكة بدينها وحيائها وحجابها تُعَدُ مجاهدةً جهاداً حقيقياً .. تجاهدُ أعداء الإسلام وتقهرهم أعظم من جهاد أقوياء الرجال في ساحات النزال ، ووالله إنها لاتزال بحجابها وعفافها وحيائها تقهرهم قهراً يفوق قهر السلاح ونكايته ..

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد ..

أيها الموفقون المباركون رجالاً ونساءاً : إذا عدتم بتوفيق الله لبيوتكم وأهليكم ، فعودوا بقلوب صافية نقية ، سليمة من الضغائن والشحناء ؛ صِلوا من قطعكم ، وأعطوا من حرمكم ، وأحسنوا إلى من أساء إليكم .. فالعيد مناسبة عظيمة تَعرضُ فيه الأمّة جمال نظامها الاجتماعي ، وروعة تشريعها التواصلي ..

العيد إشعار عالمي بأن هذه الأمة تملك قوة التغيير للأفضل ..

العيد أسعدكم الله : قطعة من الزمن خُصصت لنسيان الهموم الجاثمة واستجمام القوى المتهالكة ولملمت الطاقات المبعثرة ..

العيد إخلاء بين الصغار وبين فطرتهم البريئة ليلقوا دَرسهم الطبيعيَّ في حماسة الفرح وعنفوان البهجة ..

العيدُ درس من دروس الأمة العظام ، يوضح بجلاء كيف تتسع روح الإخاء والصفاء ، وكيف تتلاقى القلوب البيضاء ، وكيف يتناسى ذوو النفوس الكبيرة أضغانهم ، ويتخلص الجميع من الشحناء والبغضاء .. فيجتمعون بعد افتراق، ويتصافون بعد كدر، ويتصافحون بعد تدابر . ويعيش الجميع فرحة الجميع .. ألا ما أجمل هذا الجمع .. وما أبهى هذه المناسبة .. قلوب تتسامح ، وأيدي تتصافح ، ونفوس تتصالح ، ودٌ وإخاء .. نقاء وصفاء، وتعاونٌ على البر والتقوى .. 

وإني من على منبري هذا أناشد كلُّ من كان بينه وبين أحدٍ من أحبابه فجوةٌ أو جفوةٌ أن يستعين بالله في ردمها وإزالتها ، وحقٌ على الله أن يعينه إن كان صادقاً ، فهو سبحانه القائل : {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } ..

أيهجُرُ مسلمٌ فينا أخاهُ .. ويعرضُ لا يمدُ له يداهُ .. إذاً أين السماحة والتصافي .. وأين عُرى الإخُّوةِ في الإله ...  

من اليوم تصافينا .. ويكفَي ما جَرى مِنّا .. فلا كانَ وَلا صارَ .. وَلا  قُلتُم  وَلا  قُلنا .. فَقد قيلَ  لَنا  عَنكُم .. كَمَا  قيلَ  لَكُم عَنّا .. نسامحُكم من الأعماق .. وأنتم فاصفَحوا عنَّا .. وهيَّا اخوتي لنعود .. أحباباً كَما كُنّا ..

واعلموا أحبابي في الله .. أن تقوى الله تعالى ليست في رمضان فقط، بل هي في سائر الأيام والشهور؛ وطوبى لعبد لم تُفقده فرحةُ العيد شعوره ، ولم يُذهبْ بريقُ المعصية صوابه ؛ بل استمر على العهد والتوبة ، وشكر الله على الإحسان باستمراره في الإحسان ، وأتبعَ الحسنة حسنةً مثلها ، وأعقب الطاعة بأختها ، ذلك الذي فاز وَرَبِّيّ وهذه علامة القبول والتوفيق ، ألَا وإن الأعمال بالخواتيم ، فأحْسِنوا ختام شهركم باجتناب المعاصي في عيدكم ..

وإنكم وإن فقدتم شهر الصيام والقيام ؛ فإن الصيام والقيام سنة باقية في كل الشهور ، وقد ندبكم نبيكم صلى الله عليه وسلم إلى صيام الأيام البيض ويومي الاثنين والخميس ، وندبكم إلى المحافظة على صلاة الوتر وصلاة الضحى ..

ومما يناسب ذكرهُ والعمل به بعد رمضان صيامُ ستة أيام من شوال ، فمَن صامها مع رمضان كان كمن صام الدهر كله كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

وأكثروا يا رعاكم الله من الدعاء لإخوانكم المستضعفين في فلسطين والعراق وأفغانستان ، وسوريا وليبيا واليمن وأراكان ، وفي كل مكان ؛ لتثبتوا أنكم تشعرون بهم حتى في العيد ..

أعاده الله تعالى علينا وعليكم وعلى المسلمين باليمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ..

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * ... }..

المشاهدات 1404 | التعليقات 1

كل عام وأنتم يخير ..