من الهدي النبوي عند الخلاف الزوجي

الخطبة الأولى

أيها المؤمنون.. روى البخاري في صحيحه، أن رَسولُ اللَّهِ ﷺ جاءَ إلى بَيْتَ فاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا في البَيْتِ، فَقالَ: أيْنَ ابنُ عَمِّكِ؟ قالَتْ: كانَ بَيْنِي وبيْنَهُ شيءٌ، فَغاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِندِي – أي لم ينام في البيت وقت القيولة بسبب الخلاف-. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ لِإِنْسانٍ: انْظُرْ أيْنَ هُوَ؟ فَجاءَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، هو في المَسْجِدِ راقِدٌ، فَجاءَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ وهو مُضْطَجِعٌ، قدْ سَقَطَ رِداؤُهُ عن شِقِّهِ، وأَصابَهُ تُرابٌ، فَجَعَلَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُهُ عنْه، ويقولُ: قُمْ أبا تُرابٍ، قُمْ أبا تُرابٍ.

أيها الأحبة.. أين هو البيت الذي يخلو من الخلافات، وأين هي الحياة الزوجية التي تصفو من المغاضبة؛ إن كانت خير البيوت على عهد رسول الله ﷺ لا تكاد تخلو من مشاكل وخلافات. فكيف بالبيوت غيرِها.

فوجود بعض الخلافات في البيوت وخاصة الخلافات الزوجية أمر طبعي، فالعلاقات بين الأزواج مبنية على وصية الله تعالى ووصية رسول ﷺ بأمرهم بالتعامل بالمعروف والإحسان، كما قال تعالى (وعاشروهن بالمعروف) ويقول الله تعالى (فإمساك بمعروف) ويقول الله (وأتمروا بينكم بمعروف) ويقول ﷺ (فاسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا.) متفق عليه، وغيرها من النصوص التي تبين أن العلاقة الزوجية مطلوب فيها العشرة بالمعروف، والطيب والإحسان في المعاملة.

وعلى ذلك أيها الكرام فإن حدث خلاف زوجي أو شقاق فلنرجع إلى وصية الله تعالى ووصية رسول الله ﷺ، فإن فيه الهدى والرشاد. وما أحسن حال علي وفاطمة رضي الله عنهم حين حصل بينهم ما حصل، فخرج علي إلى المسجد ليبعد عن موطن الخلاف، وليهدأ روعُه ويسكن غضبُه وتعودَ نفسُه إلى طبيعتِها، وبيوت الله تعالى خير ملجأ، وهي أحب الأماكن إلى الله في الأرض.

وما أحسن حال رسول الله ﷺ وصحبه الكرام حين يلجؤون إلى بيوت الله حال الشدائد والكروب، فكان رسول الله ﷺ يلجأ إلى المسجد والصلاة، وكان يقول لبلال: "يا بلالُ، أقِمِ الصَّلاةَ، أرِحْنا بها" رواه أبو داود وصححه الألباني.

وحين أثقلت أبا أمامة رضي الله عنه الهمومُ والديون توجه إلى المسجد، فدخل حينها رسول اللهِ ﷺ المسجد فقال يا أبًا أمامة: ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة. قال هموم لزمتني وديون يا رسول اللهِ. رواه أبو داود

وإن من الحكمة والخير عدم البقاء في مكان الخلاف، واللجوء إلى مكان يصفو فيه الذهن، وترتاح في النفس ويذكر في الله تعالى، وبيوت الله خير مكان، فالغضب والخلاف من الشيطان، وذكر الله ومساجده تطفئ الغضب، وتسكن النفس، وتقرب من الله، وتبعد عن الشيطان.

وأما فاطمة بنت محمد ﷺ فحين حصل الخلاف، وكانت المغاضبة مع زوجها فلزمت بيتها، ولم تخرج إلى بيت أبيها رسولِ الله ﷺ، وأمسكت لسانها عن الحديث والاستشارات والبحث عن الحلول عند الآخرين، حتى رسول الله ﷺ لم تبادر في الذهاب إليه وإخباره والتشكي.

فساعات الغضب تزول، والخلاف يهدأ، والنفوس تصفو. خاصة إذا كان الخلاف عابر، والغضب على أمر يسير.

وكان من كمال أدب فاطمة رضي الله عنها وذوقها الرفيع أن عبرت بهذا الأدبِ العالي حين قالت في وصف ما جرى بينها وبين علي "كان بيني وبينَه شيءٌ"، فلم تُتْعِب قلب أبيها بكثرة التشكي، ولم تذكر تفاصيل الخلاف، ولم تحدد من المخطئ ومن البادئ، بل جعلت الخطأ مشتركا بينهما "كان بيني وبينَه شيئ".

أما ما يفعله أحد الزوجين حين أدنى خلاف، فيدخل القريب والبعيد في مشاكله وخلافاته، ويستشير العارف والجاهل، والحكيم والمخبب، ويجري الاتصالات، ويذهب هنا وهناك، فليس هذا التصرف من الهدي النبوي.

عباد الله.. وأما رسول الله ﷺ فما أعظم صنيعه، فهو النبي الذي لا ينطق عن الهوى، فلم يأخذه حبه لابنته وحنانه عليها وعطفه في أن يقسو على زوج ابنته، وأن يعاتبه ويظلمه، بل سأل ﷺ عنه، فجاءَه رَسولُ اللَّهِ ﷺ بنفسه لما علم أنه راقد بالمسجد، فأتاه وهو مُضْطَجِعٌ، قدْ سَقَطَ رِداؤُهُ عن شِقِّهِ، وأَصابَهُ تُرابٌ، فَجَعَلَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُهُ عنْه، ويقولُ: قُمْ أبا تُرابٍ، قُمْ أبا تُرابٍ. و"أبو تراب" كُنْيةٌ أطلَقها النبيُّ ﷺ على علِيٍّ رَضيَ اللهُ عنه؛ لأنَّه نامَ على التُّرابِ وتَعفَّرَ ثَوبُه وجسَدُه به، وفي هذه الكنية مِن التَّلطُّفِ به ومؤانَسَتِه في غضَبِه، وتَسليته دون عتاب، كما يستفاد من هذا الموقف النبوي ممازحة الغاضب وتكنيته بغير كنيته.

فما أعظم تلك اليد الحانية من رسول الله ﷺ لزوج ابنته وممن أغضبها، فكم أذهبت تلك المسحة من اليد الشريفة من الهموم، وكم أسكنت من غضب، وكم أزالت من خلاف وأنسته. فما أحوج الآباء والأمهات للطف مع أزواج بناتهم وزوجات أبنائهم، وما أعظم تناسي الخلاف وعدم الدخول في تفاصيله وحيثياته، كما فعلت فاطمة رضي الله عنها حين لم تذكر أي تفاصيل للخلاف، وكما فعل رسول الله ﷺ حين لم يذكر لعلي رضي الله عنه شيئا مما حصل مع ابنته.

وأما تدخّل بعض الآباء والأمهات غير الحكيم فإنه يزيد المشكلة، ويضخم الأخطاء، ويبطئ العلاج، بل إن من الإخوة والأخوات من يصعد الخلاف ويكبره ليصل للجهات الرسمية، وبعدها لا تسأل كيف يطفأ الخلاف، وكيف ستصفو النفوس.

فكثير من الخلافات هي نزغات شيطان، أو سوء أدب في الحوار، أو بسبب ظروف خارجة عن إرادة الزوجين وليس هناك أسباب حقيقية في الخلاف، فالتغافل والتناسي أحيانا وعدم البحث في الخلاف يطفئ نار الخلاف، والخروج من موقع الشجار، والهدوء والحكمة في التعامل تعيد الأمور كما كانت، ولو ترك الزوجان لينهوا خلافاتهم ومشاكلهم دون تدخل الآباء والأمهات أو الإخوة والأخوات بعد اللجوء إلى الله تعالى والهدوء مع آداب التفاهم والحوار لأغلقت كثير من الخلافات وتلاشت.

وإن كانت هناك خلافات متكررة أو صعبت الحلول أو نفذت المعالجات، أو أتى أحد الزوجين بما يحتم تدخل الآخرين فليُبحث عن أهل الفضل والإصلاح، ومن عرف بالحكمة والتأليف. فلا تبث الشكوى إلى إلا أهلها.

ومما بلينا به أيها الكرام هو كثرة تدخل أهلُ الزوجين في الشؤون الخاصة والتفاصيل الدقيقة، أو استشارة غير الحكماء، أو اللجوء إلى مكاتب استشارة غير موثوقة، أو البحث عن تجارب الأزواج وطريقة معالجاتهم للخلاف من خلال الانترنت وشبكات التواصل.

ولا يدخل في حل الخلاف الزوجي من الأهل إن دعت المصلحة دخولهما إلاّ أصحاب العدل منهم ومريدي الإصلاح والتوفيق، كما قال تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما).

 

الخطبة الثانية

أيها المؤمنون: يقول الله تعالى آمرا عباده حين ذكر الخلاف بين الزوجي (والصلح خير)، فأدب الخلاف الأعظم هو البحث عن الصلح وإنهاء الخلاف، وإغلاق أبواب الفتنة والشر، أما ما يفعله بعض الرجال أو النساء من تلك النصائح والأفكار والتوجيهات التي تهدف إلى فساد العلاقة الزوجية، أو الإرشاد إلى طلاق الزوجة، أو خلع الزوج أو أي وسيلة تسعى لفساد العلاقة، أو هدم بيت الزوجية؛ فإن هذا خلق غير المؤمنين، وهدي غير المسلمين، وقد سماهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بالتخبيبِ، والتخبيبُ: هو إفسادُ الزوجةِ على زوجِها، وإفسادُ الزوجِ على زوجتِهِ، أو السَعْيُ لإفْسادِ الـزوجةِ على زَوْجِها، وذلك بِأَنْ يُزَيِّنَ لها كَراهَةَ زَوْجِها، والخُروجَ عن طاعَتِهِ حتّى تُفارِقَهُ أو تبقى معه ناشزًا مترفعة عليه.

 قالَ ﷺ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا"(رواهُ أبو داودَ).

وقد ذكر أهل الاختصاص أن كشف أسرار الحياة الزوجية وعدم كتمان الأسرار والتخبيب الزوجي من أبرز أسباب الخلع والطلاق في المحاكم.

ويأخذ التخبيب صور عدة، فقد يكون من أهل الزوج أو من أهل الزوجة، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو ما يفعله مشاهيرِ التواصلِ الاجتماعِيِ عن طريق بث اليومياتِ، والزيارات والسفر والمطاعم. والأشد والأعظم هو تلك الفئة التي تدعو لتمرد الزوجة على زوجها، وإلقاء الشبهات عليها في عدم حقه في القوامة، أو أنها مظلومة وضحية، وغيرها مما ابتلينا به. والله المستعان.

المشاهدات 609 | التعليقات 0