مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَــهُ

مبارك العشوان
1436/08/17 - 2015/06/04 23:15PM
إن الحمد لله...أما بعد: فاتقوا الله...مسلمون.
عباد الله: روى ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ( لَا تَزُولُ قَـدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمـُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِـــهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَــهُ وَفِيمَ أَنْفـَقَهُ، وَمَـــاذَا عَمـِلَ فِيمَا عَلِمَ ) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني.
عباد الله: طلبُ الرزقِ أمرٌ محمودٌ طبعاً وشرعاً، مع مراعاة الضوابط الشرعية، فقد أمرَ الله تعالى بطلب الرزق، والمشي في الأرض، والابتغاء من فضله: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } الملك 15 وقال تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } الجمعة 10
فاطلبوا الرزق فيما أباح الله لكم، وابتعدوا كل البعد عما حرم عليكم، واعلموا أن في الحلال غنية عن الحرام؛ اتقوا الشبهات تسلموا على دينكم وأعراضكم ففي الحديث: ( إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ ... ) الحديث رواه مسلم.
عباد الله: فُتح في زمننا من الدنيا ما فتح، وتنوعت المكاسب وافتتن الكثير بها؛ حتى أصبح المال شغله الشاغل، ينام والمال همه، ويستيقظ والمال همه؛ يجمعه من حلال وحرام، يُقدم على كل معاملة دون معرفة لحكمها، وقد يعرف حرمتها ويعميه الطمع فيقدم عليها.
اتقوا الله وفقكم الله: وأسألوا عن المعاملات، في البيع والشراء والإجارة والقروض والمداينات والأسهم، اعرفوا ما يحل منها وما يحرم قبل الإقدام عليها، اسألوا من هو أهل للفتوى؛ من تثقون بعلمه وورعه وتقواه، فقد وجه الله تعالى لذلك فقـــــــال: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلـَمُونَ } الأنبياء 7
اطلبوا الرزق في البيع المبرور الذي لا ربا فيه ولا غش، اطلبوا الرزق بعمل أيديكم ففي الحديث: ( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ) رواه البخاري اتقوا الله واحرصوا على الحلال قبل أن يُسلط عليكم الذل ففي الحديث: ( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ) أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
احرصوا على الحلال واجتنبوا الحرام؛ قبل أن لا تُستجاب لكم دعوة، ولا تقبل منكم نفقه؛ ففي صحيح مسلم: ( إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ) الحديث وفيه: ( ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّـمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ... ).
لا يحملنكم أيها الناس حب المال والطمع أن تطلبوه بالتعامل المحرم، والطرق غير المشروعة، لا تكونن الدنيا أكبر همكم فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم وتهلككم كما أهلكتهم.
لا تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.
لا تتخوضوا في مال الله بغير حق، فقد جاء الوعيد لمن فعل ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه البخاري.
احذروا عباد الله أكل الحرام أياً كانت صورته، وأيا كان مقداره واعلموا وفقكم الله أن من أشد المحرمات وأكبر الكبائر وأعظم
الذنوب أكل الربا؛ تلك الموبقة التي قال عنها النبي: ( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ) وذكر منهن: ( أَكْلَ الرِّبَا، وَأَكْل مَالِ الْيَتِيمِ ). رواه البخاري ومسلم. والموبقات: المهلكات. وقال صلى الله عليه وسلم: ( الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ ) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
توعد الله تعالى أهل الربا بأنواع من الوعيد فقال سبحانه:{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } البقرة 275 قال ابن كثير رحمه الله: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياما منكرا، وقال ابن عباس رضي الله عنه: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق. وقال سبحانه:{ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصّـَدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } البقرة 276 قال ابن كثير رحمه الله: يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا، أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحب، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة. وفي مناسبة ختم الآية بقوله:{ والله لا يحب كل كفار أثيم } أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.
أكل الربا كبيرة لعن الله من فعلها، أو كان عونا لفاعلها، كما في صحيح مسلم:( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ ). آكل الربا موصوف بالظلم، متوعد بحرب من الله ورسوله إن لم يتب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } البقرة 278ـ 279 روي عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: فمن كان مقيما على الربا لا ينزع منه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الْمُرَابَاةُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وقال ابن حجر رحمه الله: عَدُّ الربا كبيرة؛ هو ما أطبقوا عليه، اتباعاً لما جاء في الأحاديث الصحيحة من تسميته كبيرة، بل هو من أكبر الكبائر وأعظمها.
وعن الحسن البصري وابن سيرين قالا: والله إن هؤلاء الصيارفة لآكلة الربا، وإنهم قد آذنوا بحرب من الله ورسوله ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح. وروى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ - حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ - أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ
حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا ) إلى آخر الحديث، وفيه أنهما قالا له: ( وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا ...) رواه البخاري
فاتق الله يا من تأكل الربا، واعلم أن هذا الوعيد لك فتصور نفسك أنك ذلك الرجل.
اللهم اكفنا بحلالك ... بارك الله ... أقول ما تسمعون...


الخطبة الثانية:
الحمد لله ...أما بعد: فمن الأموال المحرمة الرشوة وفي الحديث: ( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ الـرَّاشِيَ وَالمُرْتَشِيَِ ) رواه الترمذي وصححه الألباني. والرشوة هي ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل؛ فاحذروها وفقكم الله .
ومن الأموال المحرمة والسبع الموبقات أكل أموال اليتامى قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَــعِيرًا } 10 النساء
ومن الأموال المحرمة التحايل على الناس والخديعة والغش وفي الحديث: ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلـــَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّـــنَا فَلَيْسَ مِنَّا ) رواه مسلم.
ومن الأموال المحرمة أخذ أموال الناس بغصب أو سرقة؛ ظلمٌ طالما أخاف الآمنين، وجريمةٌ انتشرت في مجتمعنا في الآونة الأخيرة. فكم نسمع من قضايا السطو على الآمنين وقهرهم وأخذ أموالهم، ومن الاعتداءات على البيوت والمزارع والمحلات التجارية والسيارات والمواشي وغيرها، أفلا يخشى السارق أن تأتيه منيته وهو يسرق. فيختم له بهذه الخاتمة ـ عياذا بالله ـ .
جاء في الحديث: ( لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) رواه البخاري .
ومن الأموال المحرمة أن يأخذ الإنسان عملا بأجرة ثم يتهاون به ولا يؤديه كما طلب منه؛ ويأخذ أجرته كاملة على عمل ناقص والله تعالى يقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ }المائدة 1
ومنها مماطلة الناس حقوقهم والأُجَرَاءِ أجورهم وتأخير السداد مع استطاعته ففي البخاري ومسلم: ( مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ) .
فاتقوا الله عباد الله، ولا تستهينوا بحقوق عباده مهما صغرت في أعينكم، ومهما كانت طريقة أخذها، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ؛ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ ). نعوذ بك اللهم من النار ومما يقرب إليها من قول أو عمل.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.
ثم صلوا عباد الله وسلموا ...
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
المشاهدات 1281 | التعليقات 0