من أولى الضروريات حفظ النفس. موافقة للتعميم
عبد الله بن علي الطريف
من أولى الضروريات حفظ النفس. 1444/2/20هـ
أيها الإخوة: من عظمة هذا الدين أنه جاء بحفظ الضرورات الخمس، وهي: الدين، والنفس والعقل، والنسل، والمال.
وكلُ ما يعينُ على حفظِ هذه الضرورات الخمس يُعدُ مصلحةٌ، وكل ما يُفوتُ حفظَها فهو مفسدة.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا [أي الضرورات الخمس] مُرَاعَاةٌ في كل ملة".
وإمعاناً بحفظها شرع اللهُ تعالى عدداً من الحدودِ، فحفظُ الدينِ بإيجابِ قتل من ارتد عنه، وحفظُ النفسِ بإيجاب القصاص، وحفظُ العقل بتحريم كل ما يضيعُ العقل وإيجاب الحد على شارب الخمر، وحفظُ العرض أو (النسل) بتحريم كل ما يخدش العرض، وإيجاب الحد على الزاني والقاذف، وحفظُ المال من الاعتداء عليه أو إضاعته، وذلك بإيجاب القطع في السرقة، وفي المحاربة القتل أو الصلب، فكل ما يعين على حفظ هذه الأمور فهو من الدين؛ لأن الإسلام جاء بذلك كله.
أيها الإخوة: إذا كان حفظ الحياة الإنسانية من الضروريات صوناً لحق الحياة من الضرر؛ فقد شرع الإسلام عدة وسائل للمحافظة على النفس، فأوجب على الإنسان أن يُمدَ نفسَه بوسائل الإبقاء على حياته من تناول الطعام والشراب، وتوفير اللباس والمسكن الواقي من الضرر، وحرَّم عليه الامتناع عن هذه الضروريات إلى الحد الذي يهدد بقاء حياته، ونهاهه عن كل ما يضره.
بل أوجب على الإنسان -إذا وجد نفسه مهددة- أن يدفع عن نفسه الهلاك بأكل مال غيره بقدر الضرورة، قال ﷺ: «مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ..» [الْخُبْنَة: مَا يَأخُذهُ الرَّجُل فِي ثَوْبه فَيَرْفَعهُ إِلَى فَوْقُ] رواه أبوداود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص وإسناده حسن، أو أكل المحرم كالميتة قال الله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:115].
وحرَّمَ الإسلامُ قتلَ الإنسانِ لنفسه وفي ذلك قال الله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29] قال الشيخ السعدي رحمه الله: أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل الإنسان نفسه. ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطارِ المفضية إلى التلف والهلاك.. وشَددَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في الوعيدِ فقَالَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أيها الإخوة: وحرم على غيره التسببَ بإهلاكِه أو التسببَ في ضرره، فحرم الله قتل النفس الإنسانية عموماً وعَدَّهُ من كبائر الذنوب، ورتب عليه الوعيدَ الشديد فقال عز من قائل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). [النساء:93] وشنع الإسلامُ على هذه الجريمة فاعتبر قتل نفسٍ واحدة: بمثابة قتل الناس جميعا، فقال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). [المائدة: 32].
وَسَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْكَبَائِرُ.؟ فَذَكَرَ مِنْهَا "قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ" رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ" رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه.. وَقَالَ ﷺ: "لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا" رواه البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. الْفُسْحَة فِي الدِّين: سَعَةُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، حَتَّى إِذَا جَاءَ الْقَتْلُ ضَاقَتْ..
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ" رواه أبو داود والنسائي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما وصححه الألباني.
أيها الإخوة: وذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك فنهى عن إِشْهَارِ الحديدةِ فِي وَجْهِ الْمُسْلِمِ وإن لم تكن سِّلَاحاً وَعَدَّهُ مِنَ الْكَبَائِر، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ" رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
وحفظ الإسلام كذلك حياة المعاهدين، فَقَالَ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وإذا وقع القتل مع كل هذه التحذيرات وغيرها كثير أوجب الله القصاص على الجاني حفظًا لدماء المسلمين، كما قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أولي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179]
أيها الإخوة: وأباح الإسلامُ للإنسانِ أن يدافع عن نفسه إذا هاجمه أحد وثبت أنه يريد الاعتداء عليه دون تحميل المعتدى عليه أية مسؤولية، بل جعله شهيداً، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رواه أبو داود عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ» رواه مسلم. حمانا الله وإياكم من كل سوء وصلى الله وسلم على نبينا محمد..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: دين الإسلام دين جلب المنافع ودفع المضار، فكل ما فيه جلبُ نفعٍ للمسلمين داخل في ديننا، وهذا يسمى ببابِ المصالح المرسلة، وهو مفتوح على مصراعيه، فكل مصلحة لم ينفها الإسلام، وإن لم يأمر بها وتحفظ الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بحفظها؛ فهو مطلوب ومأمور به، وأعظم الضرورات الخمس بعد حفظ الدين حفظ النفس، ومن عظمة هذا الدين أنه أوجب على المسلم إنقاذ من يتعرض للقتل ظلما أو يتعرض لخطر إن استطاع أن ينقذه، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة:32]. وقال ﷺ «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» رواه البخاري.
أيها الإخوة: ومن أهم ما ينبغي للمسلم تعلمه معرفة مهارات الإسعافات الأولية من مصادرها الموثوقة، والاستفادة من أهل الاختصاص في ذلك، فكم أنقذ العارفون بها من مصاب مشرف على الهلاك في أماكن عملهم أو في الشوارع أو غيرها، فقد يجدون إنساناً قد تعرض لجرح، أو كسر، أو نوبة قلبية، أو غصة، أو نحوها؛ فيسارعون لإنقاذهم.
أيها الإخوة: هل فكرنا ماذا سنفعل لو كنا في مثل هذه المواقف؟ كثير منا سيقف عاجزاً عن تقديم ما يفيد المصاب، وأفضلنا حالاً مَنْ يتصرفُ بطريقة ضارة..
نعم إن الاسعافات الأولية علاج مؤقت لأي أزمة أو حالة؛ فقد تنقذ حياة إنسان ربما كان في عِدادِ الهلكى.. حري بنا أن نتعرف على هذه المبادئ ووسائلها وكيفية التعامل مع المصابين.. ونتذكر قول الله تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة:32]. وقوله ﷺ «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» رواه البخاري. أسأل الله للجميع التوفيق والإعانة وصلوا وسلموا..