من أحكام الصلاة

إبراهيم بن حمد العقيل
1440/06/23 - 2019/02/28 23:22PM
أَمَّا بَعْدُ: معاشِرَ المُؤمنينَ: الصَّلاةُ صِلَةٌ بينَ العبدِ وربِّهِ, يقِفُ المصلِّي بينَ يَدَيِ اللهِ تعالى يُناجيهِ, يقرَأُ كلامَهُ, ويذكُرُهُ, ويدعُوهُ, فيلزُمُ أنْ يكونَ في هَذا الموقِفِ العظيمِ على أحسَنِ هيئةٍ وأتمِّ حالٍ, فيلبَسُ أحسَنَ ثيابِهِ في الصَّلَواتِ كُلِّها, مِنْ غيرِ تفريقٍ بينَ صلاةِ اللَّيلِ وصلاةِ النَّهارِ, أوْ صلاةِ الفجرِ وغيرِهَا, إذْ ليسَ المقصودُ مِنَ اللِّباسِ هُوَ سَتْرَ العَوْرَةِ فقطْ! وإِنَّما يُرادُ مَعَ ذَلِكَ التجمُّلُ لِلوُقوفِ بينَ يَدَيْ ربِّ العالمينَ, قالَ تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
وعَلى قاصدِ المسجدِ للصَّلاةِ أنْ يجتنبَ الرَّوائحَ الكريهةَ في ملبسِهِ ومأكلِهِ وجِسْمِهِ، فلا يُؤذِي إخوانَهُ المصلِّينَ بنَتَنِ الرائِحَةِ، قالَ : «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ»؛ فإِذَا كانَ هَذا الحكمَ الشرعيَّ في أكلِ الثُّومِ والبَصَلِ والكُرَّاثِ, وهِيَ مِنَ المباحاتِ؛ فكيفَ يكونُ حكمُ شربِ الدُّخَانِ ونحوِهِ –وهُوَ محرَّمٌ شرعًا- إِذَا حضرَ شارِبُهُ مساجِدَ المسلمينَ وآذاهُمْ برائحتِهِ, وقبلَ ذلِكَ آذَى الملائكةَ المكرمينَ, وكيفَ يُناجِي ربَّهُ بتلاوةِ كلامِهِ وذكْرِهِ ودُعائِهِ بِهَذا الفَمِ ذِي الرَّائحةِ الكريهَةِ؟
عبادَ اللهِ: فإِذَا ارتَدَى المصلِّي ثيابَهُ النظيفَةَ واهتَمَّ برائحتِهِ وسِواكِهِ وخرَجَ مِنْ بيتِهِ إلى المسجِدِ، سُنَّ لهُ أنْ يدعُوَ بدعاءِ النبيِّ : «اللهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَعَظِّمْ لِي نُورًا». وأحسَبُ أنَّ هَذا الدُّعاءَ مِنَ السُّنَنِ المهجورةِ اليومَ، الِّتي قلَّما يفطِنُ لها كثيرٌ مِنَ الناسِ، فينبغِي حفظُهُ والاعتناءُ بهِ؛ فإنَّهُ دعاءٌ عظيمٌ؛ لأنَّهُ دعاءٌ بالعِلْمِ والهِدايةِ، والمسلمُ إِذَا اجتمعَ لهُ نورُ الفطرةِ ونورُ الإيمانِ ونورُ العلمِ حازَ الخيرَ كلَّهُ، وليسَ كلُّ أحدٍ يصلُحُ لذلِكَ. قالَ تعالَى: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ).
واعْلَمُوا أنَّهُ قدْ ورَدَ الأجرُ العظيمُ في المشْيِ إلى المسجِدِ، وأنَّ أعظمَ المصلِّينَ أَجْرًا أبعدُهُمْ مَنْزِلًا, قالَ رسولُ اللهِ : «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ إِلَيْهَا مَمْشًى، فَأَبْعَدُهُمْ». فهَذَا الحديثُ دليلٌ على فضلِ المنزلِ البعيدِ عنِ المسجدِ؛ لحُصولِ كثرةِ الخُطَا الَّذِي مِنْ ثمرتِهِ حصولُ الثَّوابِ، وكثرَتُها تكونُ ببُعْدِ الدارِ، كما تكونُ بكثرَةِ التردُّدِ إلى المسجدِ. وقالَ : «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مَنْ بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً». فهَذَا فيهِ حثٌّ للمسلِمِ على أنْ يجتهِدَ في إتيانِ المسجِدِ ماشيًا لا راكبًا ولَوْ كانَتْ دارُهُ بعيدةً، ما لمْ تكُنْ مشقةٌ أوْ عذرٌ ككِبَرٍ ونحوِهِ، وألَّا يُعَوِّدَ نفسَهُ ركوبَ السيارةِ، إذا كانَ المسجِدُ تصِلُهُ القَدَمُ بِلَا مشقةٍ.
وعلى المصلِّي أنْ يخرُجَ إلى صلاتِهِ بسكينةٍ ووقارٍ، وأنْ يجتنَّبَ العبَثَ في طريقِهِ إلى المسجِدِ، فَلَا يتكلَّمُ بكلامٍ قبيحٍ, ولا ينظُرُ على ما لا يحِلُّ لهُ، ولا يَتعاطَى ما يَكْرَهُ، قالَ : "«إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَلاَ تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ، عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»", وقالَ : «إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَسْعَ إِلَيْهَا أَحَدُكُمْ، وَلَكِنْ لِيَمْشِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ».
عبادَ اللهِ: إنَّ أكثرَ الداخلينَ إلى المساجدِ يُخلُّونَ بهذا الأدبِ، فتراهُمْ إِذَا ركعَ الإِمامُ يُسرِعونَ فيُشَوِّشونَ على أنفُسِهِمْ، بالعجلةِ وعدمِ التأَنِّي، وعلى غيرِهِمْ مِنَ المصلِّينَ بأصواتِ أحذِيَتِهِمْ وحركاتِ أرجُلِهِمْ، وإعلامِهِمُ الإمامَ بدخولِهِمْ لينتظِرَهُمْ، وهَذا مخالِفٌ للهَدْيِ النبويِّ: "فمَا أدركتُمْ فصَلُّوا وما فاتَكُمْ فأَتِمُّوا"، ولا يُعَدُّ المشيُ بهدوءٍ استهانةً بالصلاةِ كما يفهَمُهُ بعضُ الناسِ، بلْ هذا عينُ الاهتمامِ بالصَّلاةِ، فإنَّ الإنسانَ في صلاةٍ منذُ خروجِهِ مِنْ منزِلِهِ للصلاةِ.
واعْلَمُوا أنَّ لدخولِ المسجدِ صفةً خاصَّةً، وهيَ تقديمُ الرِّجْلِ اليُمْنَى؛ لأنَّ اليمينَ أُعِدَّتْ لكلِّ ما هو منْ بابِ التكريمِ، واليسارَ لما هو بضدِّ ذلكَ، وهذهِ الصفةُ يُخِلُّ بها كثيرونَ جهلًا أوْ عجلةً، معَ أنَّهُ ثبتَ فيها نصوصٌ عامَّةٌ ونصوصٌ خاصَّةٌ. فعَنْ أنسٍ  أنَّهُ قالَ: «مِنَ السُّنَّةِ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُمْنَى، وَإِذَا خَرَجْتَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُسْرَى».
أيُّهَا المُسلمونَ: لما كانَتْ المساجِدُ أحبَّ البِقاعِ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّها بيوتُ الطَّاعةِ ومظنَّةٌ لنزولِ الرحمةِ، وأساسُها على التَّقْوَى، فيها يُعْبَدُ اللهُ ويوحَّدُ، أرشدَ النبيُّ  مَنْ دخلَ المسجدَ أن يقول: «اللهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ» وَإِذَا خَرَجَ أن يقول: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ».
ومِنْ آدابِ حضورِ المساجدِ: التقدُّمُ للصفِّ الأولِ، والقربُ مِنَ الإمامِ، فقد قالَ : «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا». فهذا الحديثُ وغيرُهُ يدلُّ على فضلِ الصفِّ الأولِ، وأنَّهُ ينبغِي الحرصُ عليهِ بالتبكيرِ إلى الصَّلاةِ، حتَّى أنَّهُ لوٍ أَدَّى الأمرُ إلى القرعةِ لكانَتْ مشروعةً فيهِ. ولمَّا رأَى  في أصحابِهِ تأخُّرًا، قالَ لهُمْ: «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ». ومِنَ النَّاسِ مَنْ لا يهتمُّ بالصفِّ الأولِ معَ إمكانِ الصَّلاةِ والجلوسِ فيهِ، فتراهُ يدخلُ المسجدَ مبكِّرًا ويقفُ متنفِّلًا وسطَ المسجدِ، أوْ في مؤخِّرِهِ، وهَذا رغبةٌ عنِ الخيرِ، وزهدٌ فيهِ، مبعثُهُ الجهلُ أوْ عدمُ المبالاةِ باكتسابِ الفضائلِ، فاللهُ المستعانُ.
ومِنْ آدابِ حضورِ المساجدِ -وهيَ بيوتُ اللهِ تعالى وأمكنةُ عبادتِهِ- أنْ يصلِّي الداخلُ ركعتينِ تعظيمًا للهِ تعالى، وإكرامًا لموضعِ العبادَةِ. وهذهِ الصَّلاةُ هيَ تحيَّةُ المسجِدِ؛ لأنَّ الداخلَ يبتدِئُ بهما كما يبتدِئُ الداخلُ على القومِ بالتحيَّةِ. وقدْ دلَّ على مشروعيةِ تحيةِ المسجدِ قولُهُ : «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ». وكذلِكَ إذا دخلَ المسجدَ يومَ الجمعةِ والمؤذن يؤذن أو الإمامُ يخطبُ فإنَّهُ يصلِّي تحيةَ المسجدِ ركعتينِ خفيفتينِ ولا يزيدُ عليهِمَا؛ ليفرُغَ لسماعِ الخطبةِ, لقولِهِ : «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا». فإِذَا أُقيمَتِ الصَّلاةُ وهوَ في تحيةِ المسجدِ، أوْ في راتبةٍ، فإنْ كانَ في الركعةِ الثانيةِ فلا يقطَعُها بلْ يتمُّها خفيفةً، لقولِهِ : «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ», وإنْ كانَ في الركعةِ الأُولَى فإنَّهُ يقطعُهَا, لقولِهِ : «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ». فإِذَا أرادَ أنْ يقطعَهَا فإنَّهُ لا يحتاجُ إلى تسليمٍ بلْ يخرُجُ منها ويلحَقُ بالفريضةِ التي أُقِيمَتْ.
وأما إِذَا دخلَ المصلِّي والإمامُ في الصلاةِ دخلَ معَهُ على أيِّ حالٍ كانَ؛ في القيامِ أوِ الرُّكوعِ أوِ السُّجودِ أوْ بينَ السَّجدتينِ؛ وذلك لقوله @: "إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا وَلا تَعُدُّوهَا شَيْئًا, وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ", وقالَ : "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الصَّلاةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإِمَامُ".
ومما ينبغي أنْ يحرِصَ عليهِ المصلِّي بعدَ دخولِ المسجدِ أنْ يصلِّيَ النافلةَ إلى سُتْرَةٍ، وأنْ يدنُوَ مِنْها، وهيَ مشروعيَّةٌ في حقِّ الإمامِ والمنفردِ، ولا فرقَ في مشروعيَّةِ اتخاذِ السترةِ بينَ الرجالِ والنساءِ، على أنَّ التساهلَ فيها موجودٌ، فمِنَ المتنفِّلينَ مَن لا يُصلِّي إلى سترةٍ، بلْ يُصلِّي وسطَ المسجدِ، أوْ في مؤخِّرِهِ بلا سُترةٍ، وهذا مِنَ الجهلِ وعدمِ الفِقْهِ في الدينِ.
وقدْ دلَّتْ السُّنَّةُ القوليَّةُ والفعليَّةُ على تأكيدِ اتخاذِ السترةِ، وقدْ واظبَ عليها النبيُّ  ولمْ يترُكْهَا حَضَرًا ولا سَفَرًا، وأمرَ بها في عدَّةِ أحاديثَ، مِنْها قولُهُ : «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ، وَلْيَدْنُ مِنْهَا، وَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يَمُرُّ فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ».
واعْلَمُوا أنَّ المرورَ بينَ يَدَيِ المصلِّي وسُترتِهِ حرامٌ؛ لأنَّهُ تشويشٌ عليهِ وإشغالٌ لبالِهِ وهوَ يُناجِي ربَّهُ، وقدْ ثبتَ فيهِ النَّهيُ الأكيدُ، والوعيدُ الشديدُ؛ فقالَ النبيُّ : «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ، خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنَّ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ»، قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ أَدْرِي، أَقَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
 
 
 
 
 
معاشِرَ المُؤمنينَ: إنَّ المساجدَ موضعُ العبادةِ وحضورُ الملائكةِ ونزولُ الرحمةِ. فما بُنِيَتْ إلا لذكرِ اللهِ تعالى والصلاةِ. فلها مِنَ الحرمةِ ما ليسَ لغيرِهَا. وقدِ اختصَّتِ المساجدُ بآدابٍ ينبغي للجالسِ فيها أنْ يتحلَّى بها، وتكونَ طبيعةً له وسجيَّةً بلا تكلُّفٍ ولا مشقَّةٍ. وقدْ نوَّهَ اللهُ تعالى بذكرِ المساجدِ، وأثْنَى على المتعبِّدينَ فيها؛ قالَ تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ). وقدْ وصفَ النبيُّ  المساجدَ بأنَّها أحبُّ البقاعِ إلى اللهِ تعالى، فقالَ : «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا».
عبادَ اللهِ: كلُّ كلامٍ لا فائدةَ فيهِ فإنَّ المسجِدَ يُنزَّهُ عنْهُ، فإنَّ المساجدَ لمْ تُبْنَ لذلِكَ. ومِنَ الناسِ لا يفتأُ يتحدَّثُ معَ جارِهِ في كلامٍ لا خيرَ فيهِ أوْ فيهِ مضرَّةٌ، وأكثرُ هؤلاءِ ممَّنْ يتقدَّمونَ إلى المسجدِ، ويحرمونَ أنفُسَهُمْ مِنْ فضائلِ الأعمالِ التي لا كُلفةَ فيها مِنَ الذِّكْرِ والتَّسبيحِ، فهِيَ حفظٌ للوقتِ، واحترامٌ للبقعةِ، وخيرٌ يدَّخِرُهُ أحوجُ ما يكونُ إليهِ.
والحذرَ مِنَ البيعِ والشِّراءِ أوْ إنشادِ الضالَّةِ في المسجدِ: فقدْ قالَ : «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً، فَقُولُوا: لاَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ». ويلحَقُ بالبيعِ ما في معناهُ مِنَ الإجارَةِ والرهنِ والقرضِ ونحوِها مِنَ العقودِ.
روى مالكُ: أنَّ عطاءَ بنَ يسارٍ كانَ إِذا مرَّ عليهِ بعضُ مَنْ يبيعُ في المساجِدِ دَعاهُ فسألَهُ: ما معَكَ، وماذا تريدُ؟ فإنْ أخبرَهُ أنَّهُ يريدُ أنْ يبيعَهُ قالَ: عليكَ بسوقِ الدنيا، وإنما هذِهِ أسواقُ الآخرَةِ.
أيُّها الإخوةُ: المساجدُ بيوتُ اللهِ تعالى، بُنِيَتْ لذكرِهِ ودعائِهِ وعبادتِهِ، لا للتكسبِ وجمعِ حُطامِ الدنيا، وبناءً على ذلكَ فالمساجدُ لا تصلُحُ مكانًا للسؤالِ، وجمعِ المالِ، معَ ما في ذلكَ مِنْ إيذاءِ المصلِّينَ والذاكرينَ والتشويشِ عليهِمْ. فقيامُ الفقيرِ في المسجدِ وسؤالُهُ الناسَ لا يجوزُ، وأقربُ شيءٍ تُقاسُ المسألةُ عليهِ قياسًا جليًّا نشدُ الضالَّةِ.
عبادَ اللهِ: إنَّ مِنَ التَّشويشِ على المصلَّينَ وأذيَّتِهِمْ قبلَ إقامةِ الصلاةِ: تخطِّي رقابِهِمْ ورَفْعِ الأرجُلِ فوقَ رؤوسِهِمْ، معَ استكمالِ الصفوفِ وخلُوِّهَا مِنَ الفُرَجِ، وقدْ نهى النبيُّ عنْ تخطِّي الرقابِ، فقالَ  للذي رآهُ يتخطَّى رقابَ الناسِ يومَ الجمعةِ: «اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ», وقدْ وقَعَ التصريحُ في حبوطِ ثوابِ الجمعةِ للمتخطِّي بقوله : "ومَن لَغا أو تَخَطَّى كانت له ظُهْرًا". قال ابنُ وهبٍ -أحدُ رواتِهِ-: معناهُ: أجزأَتْ عنهُ الصلاةُ، وحُرِمَ فضيلةَ الجمعةِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
 
المرفقات

أحكام-الصلاة

المشاهدات 884 | التعليقات 0