من أحكام التعامل مع المعاهدين والمستأمنين في الإسلام
د صالح بن مقبل العصيمي
1444/01/21 - 2022/08/19 04:46AM
خُطْبَةُ مِنْ أَحْكَامِ التَّعَامُلِ مَعَ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ فِي الْإِسْلَامِ
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. أمَّا بَعْدُ ...
عِبَادَ الله! اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينٌ عَظِيمٌ، دِينٌ قَامَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا عَلَى الْأَهْوَاءِ وَالْأَمْزِجَةِ، وَإِنَّمَا عَلَى مُرَادِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ مَنْهَجِ الْإِسْلَامِ في التَّعَامُلِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِينَ، الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بعِهُوُدٍ، وَمَوَاثِيقَ، وَأَمَانٍ، فَلِهَؤُلَاءِ حُرْمَةٌ، وَلِدِمَائِهِمْ عِصْمَةٌ، وَلِعُهُودِهِمْ وَفَاءٌ، فَيُعَامَلُونَ بِالْحُسْنَى، قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:" وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا" ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُرَاعُوا حُقُوقَ غَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ أَهْلَ عَدْلٍ وَإِنْصَافٍ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وقال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"،فَمَنْ جَاءَ بِعَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، وَأَجَارَهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَالْأَمَانِ، قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟، فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أجَرْتُهُ؛ فُلَانُ ابْنُ هُبَيْرَةَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ، قالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: وذَاكَ ضُحًى))، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِعْطَاءُ الْمَرْأَةِ الْأَمَانَ وَالْجِوَارَ لِلْمُشْركِ، فَإِذَا قَبِلَ الْأَمَانَ مِنْ آحَادِ النَّاسِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْأَمَانُ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ؟ فَإِنَّهُمْ أَوْلَى بِحِفْظِ أَمَانِهِمْ، وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّحْذِيرُ الشَّدِيدُ مِنْ قَتْلِهِمْ وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَحَادِيِثِ التَّرْهِيبِ فِي الْقَتْلِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عامًا))، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، حَيْثُ أمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، فَقَالَ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، وَلِأجْلِ ذَلِكَ تَوَعَّدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا -وَهُوَ مَن يَدْخُلُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ- بِأنَّهُ لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، أَيْ: لَا يَشُمُّ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا يَكُونُ عَلَى بُعْدِ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَفِي الْحَدِيثِ: التَّحْذِيرُ مِنْ خِيانَةِ العُهُودِ مَعَ غَيرِ المُسْلِمِينَ، وَفِيهِ: أَنَّ الْجَنَّةَ تَكُونُ لِلْأَوْفِيَاءِ وَغَيْرِ الْغَادِرِينَ، فَهُوَ قَدْ دَخَلَ بِعَهْدٍ وَأَمَانٍ.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: (وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنِ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ، وَعَنِ الرَّحْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا، فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ)، انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاهُ-.
فَمِنْ حَقِّ مَن دَخَلُوا إِلَى بَلَادِنَا بِعَهْدٍ وَأَمَانٍ أَنْ تَتَوَفَّرَ لَهْمُ الْحِمَايَةُ، وَيَكُونُوا فِي مَأْمَنٍ مِنْ كُلِّ عُدْوَانٍ وَظُلْمٍ، حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْجَانِبِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَحِمَهُ- يُنَادِي: (أَلَاَ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَرْفَعْهَا، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ذِمِّيٌّ، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ كِتَابَ اللهِ، فَإِنَّ العْبَّاسَ بْنَ الْوَلِيدِ اغْتَصَبَنِي أَرْضِي، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ)، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَهَا هُوَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَضْرِبُ أَعْظَمَ الْأَمْثِلَةِ فِي حُسْنِ التَّعَامُلِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ حِينَمَا ذَهَبَ لِيُكَلِّمَ أَمِيرَ التَّتَارِ فِي إِطْلَاقِ الْأَسْرَى، فَقَبِلَ شَفَاعَةَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ بِإِطْلَاقِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: (لَا نَرْضَى إِلَّا بِافْتِكَاكِ جَمِيعِ الْأَسْرَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَهُمْ أَهْلُ ذِمَّتِنَا، وَلَا نَدَعُ أَسِيرًا لَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ، فَلَمَّا رَأَى إِصْرَارَهُ أَطْلَقَهُمْ لَهُ).
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاهُ-: (إِنْ مَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَجَاءَ أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَى بِلَادِنَا يَقْصِدُونَهُ، وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ لِقِتَالِهِمْ، وَنَمُوتَ دُونَ ذَلِكَ، صَوْنًا لِمَنْ هُمْ فِي ذِمَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَذِمَّةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ دُونَ ذَلِكَ إِهْمَالٌ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ)، بَلْ وَحَكَى فِي ذَلِكَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ.
اَفَالْإِسْلَامُ يَحْمِي دَمَ وَعِرْضَ وَكَرَامَةَ اَلذِّمِّيِّ كَمَا يَحْمِي عِرْضَ وَكَرَامَةَ اَلْمُسْلِمِ ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسُبَّهُ أَوْ يَتَّهِمُهُ بِالْبَاطِلِ ، أَوْ يَذْكُرُهُ بِمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ نسَبِهِ أَوْ خَلْقهِ أَوْ خُلُقهِ ، فَمَنْ اِعْتَدَى عَلَيْهِ وَلَوْ بِكَلِمَةِ سُوءِ، أَوْ أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ اَلْأَذِيَّةِ ، أَوْ أَعَانَ عَلَى ظُلْمِهِ ، فَقَدْ ضَيَّعَ ذِمَّةَ اَللَّهِ تَعَالَى ، وَذِمَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذِمَّةَ دِينِ اَلْإِسْلَامِ ) أَوْرَدَ ذَلِكَ اَلْإِمَامُ اَلْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ اَلْفُرُوق ، بَلْ قَرَّرَ اَلْفُقَهَاءُ أَنَّ أَهْلَ اَلذِّمَّةِ فِي اَلْبُيُوعِ وَالتِّجَارَاتِ ، وَسَائِرِ اَلْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ اَلْمَالِيَّةِ يُعَامَلُونَ كَمُعَامَلَةِ اَلْمُسْلِمِينَ ، قَالَ شَيْخُنَا اِبْنْ بَازْ رَحِمَنَا اَللَّهُ وَإِيَّاهُ حِينَمَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِ اَلتَّبَرُّعِ بِالدَّمِ لَهُمْ ، قَالَ : ( لَا أَعْلَمُ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ ) رَحِمَنَا اَللَّهُ وَإِيَّاهُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَقُومَ بِإِسْعَافِهِ إِذَا تَعَرَّضَ لِحَادِثٍ ، وَعَلَى اَلطَّبِيبِ اَلْمُسْلِمِ أَنْ يَقُومَ عَلَى عِلَاجِهِ إِذَا اِحْتَاجَ لِذَلِكَ ؛ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ أَحَدَ اَلصَّحَابَةِ رَضْوَانَ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ رَقَى مُشْرِكًا ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ اَلْبُخَارِي فِي صَحِيحِهِ ، وَفِي هَذَا اَلْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مُعَالَجَتِهِمْ ، وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالشِّفَاءِ مِنَ اَلْمَرَضِ ؛ لِأَنَّ اَلرُّقْيَةَ هِيَ دُعَاءٌ ، وَأَقَرَّهُ اَلرَّسُولُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ .
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَاخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ آجَالَنَا.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
**********
———— الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:—————
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أمَّا بَعْدُ...
عِبَادَ اَللَّهِ ، كَذَلِكَ رَخَّصَ اَلْإِسْلَامُ عَلَى دَعْوَةِ أَوْ قَبُول دَعْوَةِ اَلْكَافِرِ إِذَا اِقْتَضَتِ اَلْمَصْلَحَةُ ذَلِكَ ، ( فاَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ مَرَّةً مِن يَهوديٍّ -كما في رِوايةِ أحمَدَ في المُسنَدِ- على خُبزٍ مِن شَعيرٍ، فأجابَ الدَّعوةَ، وأكَلَ مِن ذلِك الطَّعام(،وقد اشْتَرى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مرَّة مِن يَهوديًّ شَعيرًا بثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، ورَهَن عِندَه دِرعَه التي يَحْتمي بها في الحرْبِ مُقابِلَ ذلِك، والرَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ضَافَهُ ضَيْفٌ وَهو كَافِرٌ، فأمَرَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بشَاةٍ فَحُلِبَتْ، فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ، حتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إنَّه أَصْبَحَ فأسْلَمَ، فأمَرَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بشَاةٍ، فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بأُخْرَى، فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا)، وَالْحَدِيثُ بِطُولِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ ، كَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْدَؤُهُمْ بِالْتَحَايَا ، دُونَ اَلسَّلَامِ ؛ كَقَوْلِهِ لَهُمْ : كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ ؟ كَيْفَ أَمْسَيْتُمْ ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ ؟ أَوْ تَحِيَّته بِلُغَتِهِ مُبْتَدِئاً بِذَلِكَ ، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهَذِهِ اَللَّجْنَةِ اَلدَّائِمَةِ ، وَذَكَرَ ذَلِكَ شَيْخُ اَلْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّة ، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ عِيَادَةَ اَلْمَرْضَى مِنْهُمْ ، فَقَدْ عَادَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ اَلْغُلَام اَلْيَهُودِيِّ كَمَا فِي اَلْبُخَارِي ، وَكَانَ يَعُودُ عَمّهُ كَمَا فِي اَلصَّحِيحَيْنِ ، سَوَاءً كَانَتْ هَذِهِ مِنْ أَجْلِ دَعْوَتِهِمْ ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ لِبَيَانِ عِظَمِ أَخْلَاقِ اَلْإِسْلَامِ ، بَلْ وَرَخَّصَ اَلْإِسْلَامُ لِلْمُسْلِمِ اَلْمُشَارَكَةُ بِدَفْنِ قَرِيبِهِ اَلْكَافِرِ ؛ فَعِنْدَ أَصْحَابِ اَلسُّنَنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : عَنْ عَلِي رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ عِنْدَمَا مَاتَ وَالِدُهُ أَبُو طَالِبْ ، قَالَ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، قَالَ: «اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ، ثُمَّ لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا، حَتَّى تَأْتِيَنِي» فَذَهَبْتُ فَوَارَيْتُهُ وَجِئْتُهُ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِي)) حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
عِبَادَ اَللَّهِ ! إِنَّ هَذَا اَلدِّينَ عَظِيمٌ ، فَعَلَيْنَا اَلتَّمَسُّكِ بِهِ ، وَالْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ ، فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اِتِّبَاعِ اَلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي مُخَالَفَتِهِمَا ، اَللَّهُمَّ رُدّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلاً .
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِحِفْظِكَ، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى؛ وَاحْفَظْ لِبِلَادِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالسَّلَامَةَ وَالْإِسْلَامَ، وَانْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا؛ وَانْشُرِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِنَا؛ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ؛ وَنَسْأَلُهُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَـمـْكُمُ اللهُ.
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. أمَّا بَعْدُ ...
عِبَادَ الله! اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينٌ عَظِيمٌ، دِينٌ قَامَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا عَلَى الْأَهْوَاءِ وَالْأَمْزِجَةِ، وَإِنَّمَا عَلَى مُرَادِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ مَنْهَجِ الْإِسْلَامِ في التَّعَامُلِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِينَ، الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بعِهُوُدٍ، وَمَوَاثِيقَ، وَأَمَانٍ، فَلِهَؤُلَاءِ حُرْمَةٌ، وَلِدِمَائِهِمْ عِصْمَةٌ، وَلِعُهُودِهِمْ وَفَاءٌ، فَيُعَامَلُونَ بِالْحُسْنَى، قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:" وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا" ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُرَاعُوا حُقُوقَ غَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ أَهْلَ عَدْلٍ وَإِنْصَافٍ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وقال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"،فَمَنْ جَاءَ بِعَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، وَأَجَارَهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَالْأَمَانِ، قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟، فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أجَرْتُهُ؛ فُلَانُ ابْنُ هُبَيْرَةَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ، قالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: وذَاكَ ضُحًى))، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِعْطَاءُ الْمَرْأَةِ الْأَمَانَ وَالْجِوَارَ لِلْمُشْركِ، فَإِذَا قَبِلَ الْأَمَانَ مِنْ آحَادِ النَّاسِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْأَمَانُ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ؟ فَإِنَّهُمْ أَوْلَى بِحِفْظِ أَمَانِهِمْ، وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّحْذِيرُ الشَّدِيدُ مِنْ قَتْلِهِمْ وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَحَادِيِثِ التَّرْهِيبِ فِي الْقَتْلِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عامًا))، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، حَيْثُ أمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، فَقَالَ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، وَلِأجْلِ ذَلِكَ تَوَعَّدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا -وَهُوَ مَن يَدْخُلُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ- بِأنَّهُ لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، أَيْ: لَا يَشُمُّ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا يَكُونُ عَلَى بُعْدِ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَفِي الْحَدِيثِ: التَّحْذِيرُ مِنْ خِيانَةِ العُهُودِ مَعَ غَيرِ المُسْلِمِينَ، وَفِيهِ: أَنَّ الْجَنَّةَ تَكُونُ لِلْأَوْفِيَاءِ وَغَيْرِ الْغَادِرِينَ، فَهُوَ قَدْ دَخَلَ بِعَهْدٍ وَأَمَانٍ.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: (وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنِ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ، وَعَنِ الرَّحْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا، فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ)، انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاهُ-.
فَمِنْ حَقِّ مَن دَخَلُوا إِلَى بَلَادِنَا بِعَهْدٍ وَأَمَانٍ أَنْ تَتَوَفَّرَ لَهْمُ الْحِمَايَةُ، وَيَكُونُوا فِي مَأْمَنٍ مِنْ كُلِّ عُدْوَانٍ وَظُلْمٍ، حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْجَانِبِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَحِمَهُ- يُنَادِي: (أَلَاَ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَرْفَعْهَا، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ذِمِّيٌّ، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ كِتَابَ اللهِ، فَإِنَّ العْبَّاسَ بْنَ الْوَلِيدِ اغْتَصَبَنِي أَرْضِي، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ)، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَهَا هُوَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَضْرِبُ أَعْظَمَ الْأَمْثِلَةِ فِي حُسْنِ التَّعَامُلِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ حِينَمَا ذَهَبَ لِيُكَلِّمَ أَمِيرَ التَّتَارِ فِي إِطْلَاقِ الْأَسْرَى، فَقَبِلَ شَفَاعَةَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ بِإِطْلَاقِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: (لَا نَرْضَى إِلَّا بِافْتِكَاكِ جَمِيعِ الْأَسْرَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَهُمْ أَهْلُ ذِمَّتِنَا، وَلَا نَدَعُ أَسِيرًا لَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ، فَلَمَّا رَأَى إِصْرَارَهُ أَطْلَقَهُمْ لَهُ).
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاهُ-: (إِنْ مَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَجَاءَ أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَى بِلَادِنَا يَقْصِدُونَهُ، وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ لِقِتَالِهِمْ، وَنَمُوتَ دُونَ ذَلِكَ، صَوْنًا لِمَنْ هُمْ فِي ذِمَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَذِمَّةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ دُونَ ذَلِكَ إِهْمَالٌ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ)، بَلْ وَحَكَى فِي ذَلِكَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ.
اَفَالْإِسْلَامُ يَحْمِي دَمَ وَعِرْضَ وَكَرَامَةَ اَلذِّمِّيِّ كَمَا يَحْمِي عِرْضَ وَكَرَامَةَ اَلْمُسْلِمِ ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسُبَّهُ أَوْ يَتَّهِمُهُ بِالْبَاطِلِ ، أَوْ يَذْكُرُهُ بِمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ نسَبِهِ أَوْ خَلْقهِ أَوْ خُلُقهِ ، فَمَنْ اِعْتَدَى عَلَيْهِ وَلَوْ بِكَلِمَةِ سُوءِ، أَوْ أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ اَلْأَذِيَّةِ ، أَوْ أَعَانَ عَلَى ظُلْمِهِ ، فَقَدْ ضَيَّعَ ذِمَّةَ اَللَّهِ تَعَالَى ، وَذِمَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذِمَّةَ دِينِ اَلْإِسْلَامِ ) أَوْرَدَ ذَلِكَ اَلْإِمَامُ اَلْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ اَلْفُرُوق ، بَلْ قَرَّرَ اَلْفُقَهَاءُ أَنَّ أَهْلَ اَلذِّمَّةِ فِي اَلْبُيُوعِ وَالتِّجَارَاتِ ، وَسَائِرِ اَلْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ اَلْمَالِيَّةِ يُعَامَلُونَ كَمُعَامَلَةِ اَلْمُسْلِمِينَ ، قَالَ شَيْخُنَا اِبْنْ بَازْ رَحِمَنَا اَللَّهُ وَإِيَّاهُ حِينَمَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِ اَلتَّبَرُّعِ بِالدَّمِ لَهُمْ ، قَالَ : ( لَا أَعْلَمُ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ ) رَحِمَنَا اَللَّهُ وَإِيَّاهُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَقُومَ بِإِسْعَافِهِ إِذَا تَعَرَّضَ لِحَادِثٍ ، وَعَلَى اَلطَّبِيبِ اَلْمُسْلِمِ أَنْ يَقُومَ عَلَى عِلَاجِهِ إِذَا اِحْتَاجَ لِذَلِكَ ؛ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ أَحَدَ اَلصَّحَابَةِ رَضْوَانَ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ رَقَى مُشْرِكًا ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ اَلْبُخَارِي فِي صَحِيحِهِ ، وَفِي هَذَا اَلْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مُعَالَجَتِهِمْ ، وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالشِّفَاءِ مِنَ اَلْمَرَضِ ؛ لِأَنَّ اَلرُّقْيَةَ هِيَ دُعَاءٌ ، وَأَقَرَّهُ اَلرَّسُولُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ .
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَاخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ آجَالَنَا.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
**********
———— الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:—————
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أمَّا بَعْدُ...
عِبَادَ اَللَّهِ ، كَذَلِكَ رَخَّصَ اَلْإِسْلَامُ عَلَى دَعْوَةِ أَوْ قَبُول دَعْوَةِ اَلْكَافِرِ إِذَا اِقْتَضَتِ اَلْمَصْلَحَةُ ذَلِكَ ، ( فاَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ مَرَّةً مِن يَهوديٍّ -كما في رِوايةِ أحمَدَ في المُسنَدِ- على خُبزٍ مِن شَعيرٍ، فأجابَ الدَّعوةَ، وأكَلَ مِن ذلِك الطَّعام(،وقد اشْتَرى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مرَّة مِن يَهوديًّ شَعيرًا بثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، ورَهَن عِندَه دِرعَه التي يَحْتمي بها في الحرْبِ مُقابِلَ ذلِك، والرَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ضَافَهُ ضَيْفٌ وَهو كَافِرٌ، فأمَرَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بشَاةٍ فَحُلِبَتْ، فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ، حتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إنَّه أَصْبَحَ فأسْلَمَ، فأمَرَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بشَاةٍ، فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بأُخْرَى، فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا)، وَالْحَدِيثُ بِطُولِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ ، كَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْدَؤُهُمْ بِالْتَحَايَا ، دُونَ اَلسَّلَامِ ؛ كَقَوْلِهِ لَهُمْ : كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ ؟ كَيْفَ أَمْسَيْتُمْ ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ ؟ أَوْ تَحِيَّته بِلُغَتِهِ مُبْتَدِئاً بِذَلِكَ ، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهَذِهِ اَللَّجْنَةِ اَلدَّائِمَةِ ، وَذَكَرَ ذَلِكَ شَيْخُ اَلْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّة ، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ عِيَادَةَ اَلْمَرْضَى مِنْهُمْ ، فَقَدْ عَادَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ اَلْغُلَام اَلْيَهُودِيِّ كَمَا فِي اَلْبُخَارِي ، وَكَانَ يَعُودُ عَمّهُ كَمَا فِي اَلصَّحِيحَيْنِ ، سَوَاءً كَانَتْ هَذِهِ مِنْ أَجْلِ دَعْوَتِهِمْ ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ لِبَيَانِ عِظَمِ أَخْلَاقِ اَلْإِسْلَامِ ، بَلْ وَرَخَّصَ اَلْإِسْلَامُ لِلْمُسْلِمِ اَلْمُشَارَكَةُ بِدَفْنِ قَرِيبِهِ اَلْكَافِرِ ؛ فَعِنْدَ أَصْحَابِ اَلسُّنَنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : عَنْ عَلِي رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ عِنْدَمَا مَاتَ وَالِدُهُ أَبُو طَالِبْ ، قَالَ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، قَالَ: «اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ، ثُمَّ لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا، حَتَّى تَأْتِيَنِي» فَذَهَبْتُ فَوَارَيْتُهُ وَجِئْتُهُ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِي)) حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
عِبَادَ اَللَّهِ ! إِنَّ هَذَا اَلدِّينَ عَظِيمٌ ، فَعَلَيْنَا اَلتَّمَسُّكِ بِهِ ، وَالْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ ، فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اِتِّبَاعِ اَلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي مُخَالَفَتِهِمَا ، اَللَّهُمَّ رُدّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلاً .
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِحِفْظِكَ، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى؛ وَاحْفَظْ لِبِلَادِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالسَّلَامَةَ وَالْإِسْلَامَ، وَانْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا؛ وَانْشُرِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِنَا؛ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ؛ وَنَسْأَلُهُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَـمـْكُمُ اللهُ.
المرفقات
1660873611_خطبة الجمعة بعنوان من أحكام التعامل مع المعاهدين والمستأمنين.docx
1660873616_خطبة الجمعة بعنوان من أحكام التعامل مع المعاهدين والمستأمنين.pdf
المشاهدات 745 | التعليقات 2
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله خيرا
د. ماجد بلال
جزاك الله خيرا
تعديل التعليق