منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال العقلي د. أحمد اللهيب
احمد ابوبكر
1438/02/16 - 2016/11/16 17:06PM
[align=justify]لقد أدرك أهل السنة والجماعة أهمية العقل فكان منهجهم في الاستدلال بالعقل وسطاً بن طائفتين:
الأولى: غلت في جانب العقل فأنزلته فوق منزلته؛ حيث جعلته مقدماً على الوحي، وهم طوائف أهل الكلام على اختلافٍ فيما بينهم في درجة هذا الغلو.
والأخرى: أهملت العقل ولم تلتفت إليه؛ بحجة التفكر في الذات الإلهية، وهم غلاة الصوفية(1).
أما أهل السنة فكانوا وسطاً في هذا الباب فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا إجحاف؛ حيث كانوا يأخذون بالنظر العقلي ويأمرون به، وكلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، لكنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فشنع عليهم أهل الكلام؛ معتقدين أن هذا الإنكار مستلزمٌ لإنكار جنس النظر والاستدلال.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض ذبِّه عن أهل السنة، ودفع ما ينبزهم به أهل الكلام من الإعراض عن النظر العقلي بالكلية، يقول: (ومن العجب أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد ليسوا أهل نظر واستدلال، وأنهم ينكرون حجة العقل، وربما حكى إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم.
فيقال لهم: ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث لا ينركون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ النظر والاستدلال ولفظ الكلام، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال)(2).
ولأجل هذا نرى شيخ الإسلام ابن تيمية يحتفي كثيراً بما في كلام الإمام أحمد بن حنبل من ردود عقلية على الجهمية والزنادقة، في نفيهم لعلو الله تعالى، وقولهم بالحلول؛ لما في ذلك من دلالة على اهتمام أئمة السلف بدلائل العقول، ولما فيه من ردٍّ على من يتهم السلف بالنصية المطلقة، وضعف الحجة العقلية، والاقتصار على السمع.
يقول شيخ الإسلام: (... الإمام أحمد ونحوه من الأئمة هم في ذلك – يشير إلى القياس العقلي – جارون على المنهج الذي جاء به الكتاب والسنة، وهو المنهج العقلي المستقيم، فيستعملون في هذا الباب – أي الصفات الإلهية – قياس الأولى والأحرى، والتنبيه في باب النفي والإثبات... فمسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى)(3).
إذاً فأهل السنة والجماعة يأخذون بمبدأ الاستدلال العقلي الشرعي، لا الاستدلال الكلامي، يقول الإمام ابن الوزير اليمني: (... فهؤلاء – يقصد بهم أهل السنة – كتابهم القرآن، وتفسيرهم الأخبار والآثار، ولا يكاد يوجد لهم كتابٌ في العقيدة، فإن وجد فالذي فيه هو بمعنى الوصية المحضة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وهم لا يعنون بالرجوع إليهما نفي النظر، وترك العقل والاستدلال البتة... وإنما ينكرون من علم النظر أمرين:
أحدهما: القول بأن النظر فيما أمر الله – تعالى – بالنظر فيه وجرت به عادة السلف غير مفيد للعلم، إلا أن يُردَّ إلى ما ابتُدع من طريق المتكلمين، بل هو عندهم كافٍ شافٍ وإن خالف طرائق المتكلمين.
وثانيهما: أنهم ينكرون القول بتعين طرائق المنطقيين والمتكلمين للمعرفة، وتجهيل من لم يعرفها وتكفيره)(4).
وإذا كانت هذه هي حقيقة موقف السلف من العقل ودلالته، فلا يعني هذا أنه من الضرورة أن يكون لأكثر أئمة السلف كلام في أصول الدين بالأدلة العقلية، لكن يوجد في كلام بعضهم من ذلك بقدر ما دعت إليه الحاجة، من الرد على الملاحدة والزنادقة والمعطلة، كما في كلام الإمام أحمد في الرد على الزنادقة، وعثمان الدارمي على بشر المريسي وغيرهما من أئمة السلف.
ويرى أهل السنة والجماعة أن من صور تكريم الإسلام للعقل أن حدَّد له ميادين يمكنه أن يسير فيها بأمان، ويمكنه أن ينجح فيها إذا استخدم استخداماً صحيحاً، إذ عمله خارج مجاله هذا يعرضه للخطأ والتخبط؛ لأن هناك ميادين لا يدركها العقل، كعلم الغيب مثلاً، وهناك ميادين لا يدرك العقل حكمها وعللها على وجه الحقيقة كالتعبدات.
فإشغاله بها مضيعة للجهد، وإيغال في المتاهات، فكان من إكرام العقل أن يُدفع للعمل فيما يحسنه ويوافق وظائفه وخصائصه.
وإن كثيراً من أرباب المذاهب الفلسفية والكلامية الذين أرادوا تمجيد العقل والرفع من شأنه – حسب زعمهم – أساؤوا إلى العقل أيما إساءة، حيث أوغلوا به في مفاوز لا يهتدي فيها إلى سبيل، حتى صار أحدهم يأتي بالحكم ونقيضه، وإن أصاب مرة تعثر مرات(5).
_______
(1) يعد سبب هذا الإعراض فرعاً عن عقيدتهم في الفناء، يقول الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/393): (وإنما أراد قدماء الصوفية بالفناء نسيان المخلوقات وتركها وفناء النفس عن التشاغل بما سوى الله، ولا يسلم إليهم هذا أيضاً، بل أمرنا الله ورسوله بالتشاغل بالمخلوقات ورؤيتها والإقبال عليها وتعظيم خالقها).
(2) مجموع الفتاوى (4/55-56).
(3) بيان تلبيس الجهمية (2/535-537) بتصرف.
(4) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، لابن الوزير اليمني (3/332-334).
(5) انظر: مناهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، لعثمان علي حسن (1/168)، والتحسين والتقبيح العقليان، د. عايض الشهراني (1/129).
[/align]
المصدر : المسلم
الأولى: غلت في جانب العقل فأنزلته فوق منزلته؛ حيث جعلته مقدماً على الوحي، وهم طوائف أهل الكلام على اختلافٍ فيما بينهم في درجة هذا الغلو.
والأخرى: أهملت العقل ولم تلتفت إليه؛ بحجة التفكر في الذات الإلهية، وهم غلاة الصوفية(1).
أما أهل السنة فكانوا وسطاً في هذا الباب فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا إجحاف؛ حيث كانوا يأخذون بالنظر العقلي ويأمرون به، وكلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، لكنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فشنع عليهم أهل الكلام؛ معتقدين أن هذا الإنكار مستلزمٌ لإنكار جنس النظر والاستدلال.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض ذبِّه عن أهل السنة، ودفع ما ينبزهم به أهل الكلام من الإعراض عن النظر العقلي بالكلية، يقول: (ومن العجب أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد ليسوا أهل نظر واستدلال، وأنهم ينكرون حجة العقل، وربما حكى إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم.
فيقال لهم: ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث لا ينركون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ النظر والاستدلال ولفظ الكلام، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال)(2).
ولأجل هذا نرى شيخ الإسلام ابن تيمية يحتفي كثيراً بما في كلام الإمام أحمد بن حنبل من ردود عقلية على الجهمية والزنادقة، في نفيهم لعلو الله تعالى، وقولهم بالحلول؛ لما في ذلك من دلالة على اهتمام أئمة السلف بدلائل العقول، ولما فيه من ردٍّ على من يتهم السلف بالنصية المطلقة، وضعف الحجة العقلية، والاقتصار على السمع.
يقول شيخ الإسلام: (... الإمام أحمد ونحوه من الأئمة هم في ذلك – يشير إلى القياس العقلي – جارون على المنهج الذي جاء به الكتاب والسنة، وهو المنهج العقلي المستقيم، فيستعملون في هذا الباب – أي الصفات الإلهية – قياس الأولى والأحرى، والتنبيه في باب النفي والإثبات... فمسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى)(3).
إذاً فأهل السنة والجماعة يأخذون بمبدأ الاستدلال العقلي الشرعي، لا الاستدلال الكلامي، يقول الإمام ابن الوزير اليمني: (... فهؤلاء – يقصد بهم أهل السنة – كتابهم القرآن، وتفسيرهم الأخبار والآثار، ولا يكاد يوجد لهم كتابٌ في العقيدة، فإن وجد فالذي فيه هو بمعنى الوصية المحضة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وهم لا يعنون بالرجوع إليهما نفي النظر، وترك العقل والاستدلال البتة... وإنما ينكرون من علم النظر أمرين:
أحدهما: القول بأن النظر فيما أمر الله – تعالى – بالنظر فيه وجرت به عادة السلف غير مفيد للعلم، إلا أن يُردَّ إلى ما ابتُدع من طريق المتكلمين، بل هو عندهم كافٍ شافٍ وإن خالف طرائق المتكلمين.
وثانيهما: أنهم ينكرون القول بتعين طرائق المنطقيين والمتكلمين للمعرفة، وتجهيل من لم يعرفها وتكفيره)(4).
وإذا كانت هذه هي حقيقة موقف السلف من العقل ودلالته، فلا يعني هذا أنه من الضرورة أن يكون لأكثر أئمة السلف كلام في أصول الدين بالأدلة العقلية، لكن يوجد في كلام بعضهم من ذلك بقدر ما دعت إليه الحاجة، من الرد على الملاحدة والزنادقة والمعطلة، كما في كلام الإمام أحمد في الرد على الزنادقة، وعثمان الدارمي على بشر المريسي وغيرهما من أئمة السلف.
ويرى أهل السنة والجماعة أن من صور تكريم الإسلام للعقل أن حدَّد له ميادين يمكنه أن يسير فيها بأمان، ويمكنه أن ينجح فيها إذا استخدم استخداماً صحيحاً، إذ عمله خارج مجاله هذا يعرضه للخطأ والتخبط؛ لأن هناك ميادين لا يدركها العقل، كعلم الغيب مثلاً، وهناك ميادين لا يدرك العقل حكمها وعللها على وجه الحقيقة كالتعبدات.
فإشغاله بها مضيعة للجهد، وإيغال في المتاهات، فكان من إكرام العقل أن يُدفع للعمل فيما يحسنه ويوافق وظائفه وخصائصه.
وإن كثيراً من أرباب المذاهب الفلسفية والكلامية الذين أرادوا تمجيد العقل والرفع من شأنه – حسب زعمهم – أساؤوا إلى العقل أيما إساءة، حيث أوغلوا به في مفاوز لا يهتدي فيها إلى سبيل، حتى صار أحدهم يأتي بالحكم ونقيضه، وإن أصاب مرة تعثر مرات(5).
_______
(1) يعد سبب هذا الإعراض فرعاً عن عقيدتهم في الفناء، يقول الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/393): (وإنما أراد قدماء الصوفية بالفناء نسيان المخلوقات وتركها وفناء النفس عن التشاغل بما سوى الله، ولا يسلم إليهم هذا أيضاً، بل أمرنا الله ورسوله بالتشاغل بالمخلوقات ورؤيتها والإقبال عليها وتعظيم خالقها).
(2) مجموع الفتاوى (4/55-56).
(3) بيان تلبيس الجهمية (2/535-537) بتصرف.
(4) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، لابن الوزير اليمني (3/332-334).
(5) انظر: مناهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، لعثمان علي حسن (1/168)، والتحسين والتقبيح العقليان، د. عايض الشهراني (1/129).
[/align]
المصدر : المسلم