منزلة وفضيلةُ الصبر, وتعزية المسلمين بوفاة خادم الحرمين 2-4-1436

أحمد بن ناصر الطيار
1436/04/03 - 2015/01/23 04:22AM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً. أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الإنسان مُبتلى ما دام في هذه الحياةِ الدّنيا, تعتريه المصائبُ والأسقام, وتُكدّرُه المآسي والآلام, فمنهم من لا يحتمل ذلك فيجزع وينوح, وربّما قاده ذلك إلى الخلاص من الحياة فينتحر.
وأما المؤمن, فهو يعلم أنّ المصائبّ خيرٌ عظيمٌ له في الدنيا والآخرة, فإذا رأى يوم القيامة ثواب الصابرين, وجزاءَ الْمُبْتَلَيْن, تمنى أنْ يعود إلى الدّنيا فيُفرضَ بالمقاريض, وتمنى أنه لم تُستجبْ له دعوةٌ تتعلّق بدنياه, لما يرى من دعواتٍ لم تُستجب في الدّنيا, قد ادُّخرتْ لأصحابها أحوجَ ما يكونون إليها.
وَأَحْسَن مَا وُصِفَ بِهِ الصَّبْر: أَنَّهُ حَبْسُ النَّفْس عَنْ الْمَكْرُوه, وإمساكُ اللِّسَان عَنْ الشَّكْوَى, وَالْمُجاهدةُ فِي تَحَمُّله وَانْتِظَارِ الْفَرَج.
وهو واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر.
واعلموا - يا أمة الإسلام- أنَّ منزلة الصبر منزلةٌ عظيمةٌ شريفةٌ, لا يُوفَّق لها إلا مُوفق سعيد, ولِفَضْلِه وعُلُوِّ شَأْنِه: ذَكَرَه اللهُ في كتابه في نحوِ تسعين موضعًا, ورتَّب عليه الفضائل الكثيرة.
فقد أمر به أَمْرَ إيجابٍ فقال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ )(البقرة: 45)
ونَهَىَ عن ضده فقال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)(الأحقاف: 35).
وأثنى على أهله فقال (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)(آل عمران:17), وقال أيضا: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(البقرة: 177).
وأخبر سبحانه بأنه يُحب أهله فقال: ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)(آل عمران: 146) .
وأخبر سبحانه بأنه معهم فقال: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(لأنفال: 46).
وهي معيَّةٌ خاصةٌ تتضمَّن حِفْظَهُم ونَصْرَهُم وتَأْيِيدَهُم.
وأخبر بأن الصبر خيرٌ لأصحابه فقال: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(النحل:126).
وأوجب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم فقال: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النحل: 96).
بل وأوجب الجزاء لهم أيضاً بغير حساب فقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر: 10).
وأطلق البشرى لهم فقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155) وأخبر أنَّ الصبر ضمانُ النَّصْرِ فقال: (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ) (آل عمران:125)
ومنه قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر".
وأخبر تعالى بأنَّ أهلَ الصبرِ هم أهل العزم فقال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(الشورى:43). وأخبر أنه ما يُلقَّى الأعمالَ الصالحة, والحظوظَ العظيمة, إلا أهلُ الصبرِ فقال: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35). وأخبر بأنه إنَّمَا يَنْتَفِعُ بالآيات والْعِبَرِ أهلُ الصَّبْرِ فقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(إبراهيم: 5).
وأخبر بأنَّ الفوزَ بالمطلوب المحبوب، والنجاةَ من المكروه المرهوب، ودخولَ الجنة، إنما يُنال بالصبر، كقوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:24). وأخبر أنه يُورِث صاحبه درجة الإمامة فقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24). قال شيخ الإسلام: بالصبر واليقين, تُنال الإمامة في الدين، ثم تلا هذه الآية.
وهو ضِيَاءٌ ونورٌ للعبد في دُنياه وأخراه, قال صلى الله عليه وسلم: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ».
وَالضِّيَاءُ: هُوَ الضَّوءُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ نَوْعُ حَرَارَةٍ وَإِحْرَاقٍ, بخلاف النور: فإنه ضوءٌ لا حرارة ولا إحراق فيه.
وتأملوا كيف عبَّر عن الصَّلَاة بأنها نُورٌ, وعبَّر عن الصَّبْرِ بأنَّهُ ضِيَاءٌ، وذلك أنَّ الصلاة فيها السكينةُ والراحةُ والطُّمأنينة, بخلاف الصبر, فإنه شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ، يَحْتَاجُ إِلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ, وَحَبْسِهَا وَكَفِّهَا عَمَّا تَهْوَاهُ، وتحمُّلِها الأذى, وعدمِ الانتصارِ للنفس, وعدمِ العجلةِ.

وهو أحسن وأفضلُ ما تحلَّى بِهِ العبد, قال صلى الله عليه وسلم: "وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ". متفق عليه
فيا أيها الْمُبْتَلى, يهنيك والله هذا الفضلَ, ما أُعطي أحدٌ أعظمَ وأفضلَ ممّا أُعطيتَه أنت, فلا تُضيّع هذه الْمَكْرُمَةَ بِجَزَعِكَ وتَسَخُّطِك.

وإنما كان الصبرُ أعظمَ العطايا؛ لأنه يتعلق بجميع أمور العبد وكمالاته ، وكلُّ حالة من أحواله تحتاج إلى صبر ، فإنه يحتاج إلى الصبر على طاعة الله ، حتى يقومَ بها ويؤديَها ، وإلى صبرٍ عن معصية الله حتى يتركَهَا لله ، وإلى صبرٍ على أقدار الله المؤلمةِ فلا يتسخطُها ، بل إلى صبرٍ على نعم الله ومحبوباتِ النفس ، فلا يَدَعُ النَّفْسَ تمرح وتفرح الفرح المذموم ، بل يشتغلُ بشكر الله ، فهو في كلِّ أحواله يحتاج إلى الصبر, وبالصبر يَنَالُ الدَّراجاتِ العُلا في الجنة ، ولهذا ذكر الله أهل الجنة فقال: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}. وكذلك قوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}.
فهم نالوا الجنة وأدركوا منازلها بالصبر.

ما أعظم الصبر وما أحوجنا إليه, فبه يثبتُ الْمُجاهدُ في ساحات الوغى, وبه يكفُّ العبدُ نفسه عن الشهوةِ والهوى, وبه تُنال الأخلاقُ الرفيعة, والخصالُ الحميدة, به يرضى بأقدار الله الْمُؤلمة, وبه يتعامل مع صنوف الناس بأفضل مُعاملة.
بل إنَّ جميع الأخلاق والخصال الحميدة, إنما منشؤها منه ومُعتمدُها عليه, وَتَخْتَلِف مَعَانِيه بِتَعَلُّقَاتِهِ : فَإِنْ كَانَ الصبرُ فِي لِقَاء العَدُوّ سُمِّيَ شَجَاعَة ، وَإِنْ كَانَ عَنْ كَلَامٍ سُمِّيَ كِتْمَانًا، وَإِنْ كَانَ عَنْ فعلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ سُمِّيَ عِفَّة, وإنْ كان في كتمِ الغضبِ سُمِّيَ حِلماً.
فبالصبرِ ينال العيدُ معاليَ الأمور, وينال محبة الله تعالى ومحبةَ خلقه, وبدونه يتعرَّى من القيَم والْمُروءة والدين, ويُصبح بذيئاً بغيضاً جباناً.

هذه - يا أمة الإسلامِ- فضائلُ الصبرِ في الدنيا والآخرة, ومنزلتُه الرفيعةُ العالية, ولذا قال ابن القيم رحمه الله: ولهذا كان الصبر من الإيمان, بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له. ا.ه

فالواجب علينا أنْ نتعلم الصبر, ولا مجال لتعلُّمه بالأقوال, بل لا بدّ من الْممُارسة والفعال, فالعلم بالتعلم, والحلم بالتحلم, وكذلك الصبر بالتَّصبُّر.
جاء في الصحيحين أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ».
فالصبر كسائرِ الأخلاق, يحتاج إلى مجاهدةِ النفس وَتْمرِيْنِها ، فلهذا قال : «ومن يتصبر» أي: يجاهدْ نَفْسَه على الصبر, ويتمرَّنْ ويتدرَّبْ عليه «يصبره الله» أي: يقوِّيه ويُعينُه عليه، ويمكنُه مِن نفسه حتى تنقادَ له، وتذعنَ لتحمّل الشدائد، وعند ذلك يكون اللهُ معه، فيسدّده ويُثبّته ويُعينُه.


اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين, واجعلنا من أوليائك الصابرين, إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب.


الحمد لله رب العالمين, أفاض على أوليائه الصبر واليقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: معاشر المسلمين: اعلموا أنَّ الشكوى نوعان:
شكوى إلى الله سبحانه, وذلك بأنْ تشكو إلى الله وحده ما أصابك, وتبثَّ له آلامَك وأمراضك.
وشكوى إلى الناس من الله, وصورتُها: أنْ تُكثر الشكوى إلى الناس, بما ألمّ بك من ألمٍ أو فقر.
فالشكوى إلى الله سبحانه لا تنافي الصبر، فإن أيوب عليه السلام: أخبر الله عنه أنه وجده صابراً, مع قوله: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(الأنبياء: 83).
وإنما ينافي الصبر: شكوى الله، كما رأى بعضهُم رجلاً يشكو إلى آخرَ فاقةً وحاجةً فقال: يا هذا, تشكو من يرحمك إلى مَن لا يرحمك؟ ثم أنشد:
وإذا عَرَتْك بلية فاصبر لـها ... صبـر الـكريم فإنـه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابنِ آدم إنَّما ... تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحم

أما إذا كان الإخبارُ بالوجع والفاقةِ من باب الإخبار فلا بأس بها؛ فقد ثبت في الصحيحين عن عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالَتْ: وَا رَأْسَاهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ.
قال الحافظ رحمه الله: "فِيهِ أَنَّ ذِكْر الْوَجَع لَيْسَ بِشِكَايَةٍ ، فَكَمْ مِنْ سَاكِت وَهُوَ سَاخِط ، وَكَمْ مِنْ شَاكٍ وَهُوَ رَاضٍ ، فَالْمُعَوَّل فِي ذَلِكَ عَلَى عَمَل الْقَلْب لَا عَلَى نُطْق اللِّسَان". ا.ه

هذا وإنّنا نعزّي أنفسنا والمسلمين, بوفاة خادمِ الحرمين الشريفين, الملكِ عبدِ الله بن عبد العزيز رحمه الله, وإنَّنَا لا نقول إلا ما يُرْضي ربَّنا, إنَّا لله وإنا إليه راجعون.
ونسأل الله تعالى أنْ يُبارك في خليفتِه الملكِ سلمانَ بنِ عبدِ العزيز حفظه الله, ونفعَ به الإسلام والمسلمين.
المشاهدات 1989 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا