مما عُوِّض به القاعد عن الحج -مُضمَّنًا التعميم-

محمد بن عبدالله التميمي
1444/12/03 - 2023/06/21 19:35PM

 

الخطبة الأولى

الحمد لله ذي العزةِ والجلال، والرحمةِ والإفضال، أَجْزَلَ العطايا على يسير الأعمال، وفاضل بعضَ الأيام على بعضٍ والليال، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثال، وأشهد أن محمدًا المفضَّلُ بالنبوةِ والإرسال، هدًى للناس من الضلال، صلى الله عليه وسلم عليه وعلى الصَّحْبِ والآل، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عبادَ الله تقوًى تُقرِّب من الله، وتُبْعِدُ عما لا يرضاه، وتَرفع مقامَه ومستواه، ألا إنما التقوى هي العز والكرم، وحبُّك للدنيا هو الذُّلُّ والسَّقَم، وقد جعل اللهُ التقوى عوضًا من كلِّ فائت من الدُّنْيَا، ومَن أراد أنْ يَتولى اللهُ حفظَه ورعايتَه في أمورِه كلِّها فلْيُرَاعِ حقوقَ اللهِ عليه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.

عباد الله.. كم تاقت نفوسُ الصالحين للحج وهم قد بلغوا أيامه، ورأى الواحدُ منهم الحُجّاجَ عبرَ الشاشةِ كأنهم أَمَامَه، فيا لسَعْدِ حظِّهم، وشَرف مكانِهم، واصطفاءِ اللهِ لهم، ومَهْمَا يَقُمْ في قلب الـمُقيمِ بِبَلَدِه فلْيعلم أنْ ليس فضلُ اللهُ على الحُجّاج قُصِر، ولا هو إذْ لم يكن معهم قد حُرِم، فإنَّ المتخلِّفَ لعذرٍ شريكٌ للسَّائرِ، كما قالَ النَّبيُّ ﷺ لمَّا رَجَعَ مِن غزوةِ تَبُوكَ: «إنَّ بالمدينةِ أقوامًا ما سِرْتُم مسيرًا ولا قَطَعْتُمْ واديًا إلَّا كانوا معَكُم، مَنَعهم العذرُ».

وربَّما سَبَقَ بعضُ مَن سارَ بقلبِهِ وهِمَّتِهِ وعزمِهِ بعضَ السَّائرينَ ببدنِهِ.

فسبحانَ مَن فَضَّلَ هذهِ الأمَةَ وفَتَحَ لها على يَدَيْ نبيِّها نبيِّ الرَّحمةِ أبوابَ الفضائلِ الجمَّةِ، فما مِن عملٍ عظيمٍ يقومُ بهِ قومٌ ويَعْجِزُ عنهُ آخرونَ إلَّا وقد جَعَلَ اللهُ عملًا يُقاوِمُهُ أو يَفْضُل عليهِ، فتَتَساوى الأُمَّةُ كلها في القدرةِ عليهِ.

وإنه لمَّا كانَ الحجُّ مِن أفضلِ الأعمالِ، والنُّفوسُ تَتوقُ إليهِ لِما وَضَعَ اللهُ في القلوبِ مِن الحنينِ إلى ذلكَ البيتِ العظيمِ، وكانَ كثيرٌ مِن النَّاسِ يَعْجِزُ عنهُ، ولا سيما كلَّ عامٍ؛ شَرَعَ اللهُ لعبادِهِ أعمالًا يَبْلُغُ أجرُها أجرَ الحجِّ، فيَتَعَوَّضُ بذلكَ العاجزونَ عن التَّطوُّعِ بالحجِّ.

ففي التِّرْمِذِيِّ أن النَّبيِّ ﷺ قالَ: «مَنْ صَلَّى الفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ»، وصوم يوم عرفة يَحُطُّ ذُنُوبَ سنتين؛ فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وكما يُباهي بأهل الموقف بعرفة فإنه يُبَاهِي بأهلِ مجالسِ الذكر، كما في صحيح مسلم أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟» قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ: «آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟» قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي، أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ».

وذِكرُ اللهِ مِن أفضلِ الأعمال، قال ﷺ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، وَالذَّاكِرُونَ اللهَ كثيرًا هُمْ أَهْلُ السَّبْقِ، وهو لا يُكلِّف الإنسان شيئا، ولا يحتاج لفعله متَّكأً، بل في ذهابه وإيابه وقيامه وقعوده واضطجاعه، وفي الحديث: «اغْدُوَا وَرُوحُوا وَاذْكُرُوا، مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ عِنْدَهُ; فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ»، والذكرُ موجِبٌ لخشوعِ القلب وصلاحِه ورِقَّتِه وذهابِ الغفلةِ عنه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.

وأيامكم هذه العَشْر، أيامٌ زُهرٌ، فالعمل الصالح فيها أزكى وأعظم وأفضل، وهو فيها إلى الله أَحَب، وقد خص الله من العمل الصالح: الذِّكر، وحثَّ النبيُّ ﷺ على أنواع منه كما في حديث ابن عمر: «فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ»، وشعارُ هذا الأيام الذي يُجهَرُ فيه بين الأنام: تكبير الله، أَلَا وإنَّ التكبيرَ كلمةٌ عظيمٌ شأنها، رفيعٌ قدرها، فهي تعظيمُ الربِّ تبارك وتعالى وإجلالُه، واعتقادُ أنْ لا شيءَ أكبرُ ولا أعظمُ منه، فيَصغر دون جلاله كلُّ كبير، والمسلم إذا اعتقد وآمن بأنّ الله سبحانه وتعالى أكبرُ من كلِّ شيء، وأنّ كلَّ شيء مهما كَبُرَ يَصْغُرُ عند كبرياء الله وعظمته، علمَ أن كبرياءَ الربِّ وعظمتَه وجلالَه وجمالَه وسائرَ أوصافه ونعوته أمرٌ لا يمكن أن تحيط به العقول أو تتصوّره الأفهام أو تدركه الأبصار والأفكار، فالله أعظم وأعظم من ذلك، فكبِّروا اللهَ العظيم، ولْتَوْجَل القلوبُ، ولْتُعظِم إجلالَها لله ولْتَخضَع لكبريائه، ولْتَذِلَّ لجبروتِه.

عباد الله.. والمالُ لمَنِ اسْتَعانَ بهِ على طاعةِ اللهِ وأنْفَقَهُ في سبلِ الخيراتِ المقرِّبةِ إلى اللهِ سببٌ موصلٌ لهُ إلى مرضاةِ اللهِ، والصدقةُ برهانُ الإيمان، قال الله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، وقال النبيُّ ﷺ: «والصَّدقةُ بُرهان»، كما أنَّ الصَّدقةَ مِن أسبابِ النَّجاةِ مِن حرِّ يومِ القيامة، فمن السبعةِ الذين يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّه «رجُلٌ تصَدَّقَ بصَدَقةٍ فأَخفاها؛ حتى لا تعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يَمينُه»، متفقٌ عليه، و«كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَوْمَ القِيامَةِ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنَ النّاسِ».

فما يَمضي مِنْ عُمُرِ المؤمنِ سَاعةٌ من السَّاعاتِ إلا وللهِ فيها عليه وظيفةٌ من وظائفِ الطاعات، فالمؤمنُ يتقلَّب بين هذه الوظائف ويتقرب بها إلى مولاه، وهو مُحِبٌّ راجٍ خائفٌ، لا يمل من التقرب بالنوافل إلى مولاه، ولا يأمل إلا قربه ورضاه، فكلُّ وقتٍ يُخْيِلْهِ العبدُ من طاعةِ مولاه فقد خَسِرَه، وكلُّ ساعةٍ يَغفلُ فيها عن ذكرِ الله تكون عليه يوم القيامة حسرة، فاغتنموا ما تبقى من هذه الأيام الفاصلات، واستكثِروا من الأعمال الصالحات، وتطهَّروا من دَنَس المعاصي والسيئات {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، إقبالا عليه تلاوة وتدبرا وعلما وعملا، وبارك لنا في سنة نبيِّنا ﷺ اهتداءً، وفي العمل الصالح رجاءً وأملا، ٌقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين أجمعين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وليِّ من والاه، ورجا فضله وسعى في رضاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأصلي وأسلم على رسول الله وعبدِه، وعلى آله وصحبِه، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ أداءَ الواجباتِ كلِّها أفضلُ مِن التَّطوُّعِ بالحجِّ والعمرةِ وغيرِهِما؛ فإنَّهُ ما تَقَرَّبَ العبادُ إلى اللهِ بأحبَّ إليهِ مِن أداءِ ما افْتَرَضَ عليهِم، وكثيرٌ مِن النَّاسِ يَهونُ عليهِ التَّنفُّلُ بالحجِّ والصَّدقةِ ولا يَهونُ عليهِ أداءُ الواجباتِ مِن الدُّيونِ ورَدِّ المظالمِ، وكذلكَ يَثْقُلُ على كثيرٍ مِن النُّفوسِ التَّنرُّهُ عن كسبِ الحرامِ والشُّبهاتِ ويَسْهُلُ عليها إنفاقُ ذلكَ في الحجِّ والصَّدقةِ، فكفُّ الجوارحِ عن المحرَّماتِ أفضلُ مِن التَّطوُّعِ بالحجِّ وغيرِهِ، وهوَ أشقُّ على النُّفوسِ، وليسَ الاعتبارُ بأعمالِ البرِّ بالجوارحِ، إنَّما الاعتبارُ ببرِّ القلوبِ وتقواها وتطهيرِها عن الآثامِ.

سفرُ الدُّنيا يُقْطَعُ بسيرِ الأبدانِ، وسفرُ الآخرةِ يُقْطَعُ بسيرِ القلوبِ.

مَن حُبِسَ العامَ عن الحج فلْيَرجع إلى جهاد النفس، فهو الجهاد الأكبر، ولا تحلقوا رؤوس أديانكم بالذنوب فإن الذنوبَ حالقةُ الدين، وقوموا لله باستشعار الرجاء والخوف مقام القيام بأرجاء الخيف والمشعر، ومن كان قد بَعُدَ عن حَرَمِ الله، فلا يُبْعِدْ نَفسَه بالذنوبِ عن رحمةِ الله؛ فإنَّ رحمةَ اللهِ قريبٌ ممن تاب إليه واستغفر، ومن عَجَزَ عن حَجِّ البيتِ أو البيتُ منه بَعُدْ، فَلْيَقْصِد ربَّ البيتِ فإنَّهُ مِمَّنْ دعاه ورجاه أقربُ من حبل الوريد.

حجاجَ بيتِ الله الحرام.. إن الوصيةَ لكم بإخلاص النية لله، والبعد عن قوادح الإخلاص والرياء والسمعة، وأن يكون حجًّا على ما جاءت به سنة نبيكم ﷺ لا تَتَبُّعًا للرُّخَص، فإنما هي أربعة أيام فلْتَطلُبُوا التمام، وإني أُذَكِّرُ بالتوقي من ضربات الشمس حفظًا للنفس، فذلك من الضروريات الخمس، التي أمر الإسلام بحفظها.

المرفقات

1687365344_مما عُوِّض به القاعد عن الحج.docx

1687467241_مما عُوِّض به القاعد عن الحج.docx

1687467242_مما عُوِّض به القاعد عن الحج.pdf

المشاهدات 934 | التعليقات 0