ملحمة الإسكندرية : تجدد الحملات الصليبية .. أ.شريف عبدالعزيز- عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1440/05/14 - 2019/01/20 15:42PM

تعتبر جزيرة قبرص من البقاع السحرية في العالم القديم والحديث؛ وذلك لموقعها الجغرافي الفريد الذي جعلها قنطرة بين الشرق والغرب، والإسلام والنصرانية، وقد لعبت الجزيرة وحاكمها أروع الأدوار في تاريخ الصراع الخالد بين العالم الإسلامي والعالم الصليبي.

 

تقع جزيرة قبرص وسط الركن الشمالي الشرقي من البحر المتوسط، بين خطي عرض 34°، 36° شمالاً، وخطي طول 32°، 35° شرقًا، وهي ثالث جزر البحر المتوسط بعد صقلية وسردانية ومساحتها 3584 ميلاً مربعًا، وتقع على مسافة متعادلة بين آسيا الصغرى وبلاد الشام، وهذا يعني وقوع قبرص بين قارات العالم القديم الثلاث، وغير الموقع الجغرافي الخطير، تتمتع قبرص أيضًا بثروات طبيعية ضخمة؛ خاصة معدن النحاس والغلات الزراعية المتنوعة؛ مثل القطن وقصب السكر والزيتون.

 

تلك المميزات جعلت قبرص هدفًا للغزو الخارجي بدءًا بالاحتلال الفينيقي ثم الإغريقي ثم الفرعوني أيام تحتمس الثالث سنة 1500 ق.م، ثم الأشوريون ثم الفرعوني مرة أخرى، ثم الفرس فالمقدونيين فالبطالمة فالرومان وأخيرًا البيزنطيين، وقد أدرك المسلمون أهمية قبرص مبكرًا؛ فغزاها معاوية -رضي الله عنه- سنة 28هـ وفتحها، ولكن لم يستقر بها للحوادث المتقلبة في الدولة الإسلامية؛ فنكث أهلها عهدهم، فغزاهم مرة أخرى سنة 34هـ، وأسكنها أهل بعلبك واثني عشر ألفًا من أجناد الشام؛ فبنوا مدينة كبيرة، غير أن يزيد بن معاوية أجلى المسلمين منها سنة 62هـ بعد أن خاف عليهم من هجوم بيزنطي كبير، واكتفى أن يدفع أهلها الجزيرة، غير أن التجاذب الإسلامي البيزنطي على مصائر الجزيرة ظل محتدمًا لفترات طويلة، وأغار عليها المسلمون عدة مرات أيام هشام بن عبد الملك سنة 107هـ، وأيام الوليد بن يزيد سنة 125هـ، وأيام هارون الرشيد سنة 190هـ، وأيام المقتدر بالله سنة 297هـ، غير أن غزوات المسلمين المتكررة على قبرص لم يغير من علاقتها المضطربة بالدولة الإسلامية، ومع تولي الأسرة المقدونية لعرش الدولة البيزنطية حدث تطور سريع على ساحة الأحداث، ونجح الإمبراطور نقفور الثاني في السيطرة على الجزيرة واتبع سياسة محو أي أثر للوجود الإسلامي فيها وذلك سنة 352هـ.

 

فائدة الخطيب: "كل عداوة منشأها الدين والعقيدة عداوة أزلية أبدية، لا تعرف أنصاف الحلول ولا المداهنات الزائفة؛ فما استقر في القلوب لا يغادرها إلا بالموت، أو تغيير العقيدة والثوابت الإيمانية؛ فالقبارصة الصليبيون رغم التواجد الإسلامي بأراضيهم والاحتكاك مع المسلمين إلا إنهم ظلوا على عداوتهم وكراهيتهم للمسلمين وتربصهم المستمر بهم".

 

توقف المسلمون عن غزو قبرص، بل توقفوا عن غزو سواحل الدولة البيزنطية بوجه عام؛ ذلك أن الدولة الإسلامية لم تعد قادرة على القيام بمجهودات حربية كبرى بعد ظهور الدولة الفاطمية الخبيثة في المغرب ومصر، وسيطرة الدولة البويهية الخبيثة على مقاليد الخلافة في بغداد، وانتشار الصراع المذهبي بين السنة والرافضة، أما السلاجقة فرغم قوتهم وسلامة عقيدتهم إلا أنهم كانوا قوة برية محضة لم يعرفوا ركوب البحر والمغامرة فيه، ورغم نجاح السلاجقة في إنزال الهزائم المدوية بالدولة البيزنطية، واقتطاعهم للعديد من أطرافها وأجزائها إلا إن قبرص ظلت في مأمن من فتوحاتهم الهائلة.

 

فائدة الخطيب: "الرافضة من أقوى معاول الهدم داخل الأمة الإسلامية، وما توقفت حركة الجهاد ولا تعطلت الفتوحات إلا بعد تسلط على الفاطميين العبيديين الزنادقة على مصر والشمال الأفريقي، وتسلط البويهيين الرافضة على العراق وفارس، فصاروا مثل فكي الكماشة على الأمة مما سمح للصليبيين بمعاودة الكرة وإطلاق شرارة الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، ولم يفد وجود السلاجقة السنيين كثيراً في الصراع لطبيعتهم الحربية البرية، فكانت الثلمة التي أحدثها الرافضة في جدار الأمة كبيرة، واتسع الخرق على الراقع ".

 

قبرص والحروب الصليبية:

 

ظلت قبرص تابعة للدولة البيزنطية حتى قدوم الحملات الصليبية المعروفة على بلاد الشام، ومنذ البداية وقف البيزنطيون موقفًا يغلب عليه الشك والعداء للصليبيين لأسباب تتعلق بالخلاف المذهبي بين البيزنطيين الأرثوذكس والصليبيين الكاثوليك، وقد تأجج الصراع في أشد صوره بين الإمبراطور البيزنطي «مانويل كومنتين» والأمير الصليبي المشاغب «رينالد دي شاتيون» المشهور بأرناط؛ فقد أغار أرناط على قبرص ليظهر بذلك قدرته على محاربة الإمبراطور، وارتكب مجازر فظيعة بحق القبارصة، وبالغ في التنكيل بهم حتى أنه كان يقطع أنوف القساوسة الأرثوذكس؛ إمعانًا في التشفي والانتقام.

 

فائدة الخطيب: "سنن الله القرآنية ماضية لا تتبدل ولا تتخلف ولا تعرف إطاراً زمنياً تتحرك فيه، ومن سننه في الخلق؛بث العداوة والشحناء بين النصارى مصداقاً لقوله تعالى (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[المائدة:14] وهي السنة التي ستظهر بقوة في الحملة الصليبية الرابعة".

 

وفي سنة 580هـ عين إمبراطور بيزنطة حاكمًا على قبرص من أبناء عمومته اسم «إسحاق كومنتين» غير أن إسحاق لم يكد يصل إلى الجزيرة حتى استبد بالأمر وقطع صلته بالقسطنطينية، وتلقب بإمبراطور قبرص، في لطمة شديدة لهيبة الدولة الشرقية الكبرى، وكان إسحاق هذا شديد الكراهية للصليبيين ومن أجل ذلك عمل على مد أواصر الصداقة مع صلاح الدين، بل خطا خطوات فعلية في عرقلة الحملة الصليبية الثالثة على عكا وقطع عنها المؤن بصورة نهائية، ومنع نزول أي صليبي على أرض قبرص، وكان إسحاق يرمي من ذلك تكوين أسرة وراثية تحكم قبرص ويكون لها هيبتها ومكانتها بين الدول الكبرى، ولكن أحلام إسحاق تبخرت وذهبت أدراج الرياح عندما احتل ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد جزيرة قبرص سنة 586هـ في خلال حملته الصليبية على عكا، وقد اشترك في احتلال قبرص صاحب مملكة بيت المقدس الصليبية، وهي مملكة وهمية، صارت لا وجود لها بعد تحرير صلاح الدين لبيت المقدس سنة 583هـ، واسم هذا الأمير «جاي لوزجيان» أو لوزينان.

 

وتقديرًا لمجهوداته في خدمة الحملة الصليبية الثالثة قرر ريتشارد قلب الأسد منح حكم قبرص للأمير جاي لوزنيان، ويعتبر كثير من المؤرخين أن دخول قبرص دائرة الحروب الصليبية بعد استيلاء الصليبيين عليها هو أهم حدث وإنجاز حققته الحملة الثالثة، وبدأ تاريخ جديد للحركة الصليبية بعد أن كاد أن يطمسه بالكلية صلاح الدين، وذلك أن قبرص أصبحت فيما بعد أهم وأخطر بؤرة صليبية في البحر المتوسط، وستكون بمثابة الرافد الذي يرفد بقايا الوجود الصليبي بالشرق.

 

ملوك قبرص والعالم الإسلامي

 

قامت دولة آل لونيان بجزيرة قبرص، وهي الدولة التي استمرت ما يقرب من قرنين ونصف [1192م – 1429م] – [588هـ - 829هـ]، وأثرت في اتجاهات الحملات الصليبية تأثيرًا قويًا، حيث قامت قبرص بالمساعدات الكبيرة في الحملات الصليبية الخامسة والسادسة والسابعة، حتى أن ملك قبرص هنري الأول قد اشترك بنفسه في الحملة السابعة.

 

حدث تغير دولي كبير على ساحة الأحداث عقب الحملة الصليبية السابعة، تمثل في سقوط الدولة الأيوبية، وقيام الدولة المملوكية في مصر والشام كزعيمة للعالم الإسلامي المناضل ضد الحركة الصليبية، وتمثل أيضًا في انصراف ملوك أوروبا عن فكرة الحروب الصليبية، وتخلى أغلب الدول والكيانات القديمة عن دعمها للحركة الصليبية، في حين بقيت قبرص وحدها تتزعم قوات الصليبيين وتدعم مشروعاتهم وخططهم؛ لذلك فإن معظم الحملات الصليبية في العصور الوسطى المتأخرة لم تأت من أوروبا، بل قام بها ملوك قبرص من آل لوزنيان.

 

وعندما فتح الأشرف خليل عكا سنة 691ه، وقضى على آخر وجود للصليبيين في الشام حاول القبارصة الدفاع عن بقية الكيان الصليبي ولكنهم فشلوا في إيقاف السقوط النهائي، غير أن سقوط عكا قد جعل من قبرص قلعة البقايا الصليبية ومحطة التجارة للذين لا يريدون التجارة مع العالم الإسلامي مباشرة، وقد تولى ملوك قبرص ابتداءً من عهد هنري الثاني قيادة الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، وقد وضع خطة باركها البابا «كليمنت الخامس» تقوم على فكرة إضعاف اقتصاديات دولة المماليك بحصارها تجاريًا وبحريًا تمهيدًا لغزوها واحتلالها، وبالتالي يسهل احتلال الشام والأماكن المقدسة.

 

غير أن أشهر ملوك قبرص وأشدهم صليبية وعداءً للعالم الإسلامي كان "بطرس الأول" حفيد هنري الثاني، وكان صاحب شخصية موغلة في العداء والكراهية للإسلام والمسلمين، مؤمنًا لحد النخاع بفكرة الحروب الصليبية، صمم منذ أوائل عهده أن يجعل من نفسه حامي المسيحية ضد الإسلام، وكان يخطط منذ أمد بعيد لمشروع صليبي ضخم، لذلك قام برحلة استغرقت نحوًا من ثلاث سنوات طاف خلالها على ملوك أوربا لإقناعهم بأهمية مشروعه وضرورة الاشتراك فيها، وقد بارك الباب إربان الخامس هذه الجهود. لكن لم يجد بطرس الأول استجابة من ملوك أوروبا الغارقين في المشكلات والحروب الداخلية، ووافق على مساعدته فرسان المعبد الاسبتارية في جزيرة رودس.

 

كانت خطة الصليبيين تعتمد على فكرة فرض حصار اقتصادي على مصر بغرض إضعافها عسكريا، وكانت موارد مصر تعتمد في ذلك الوقت على الضرائب التي تجبى على التجارة بين الشرق والغرب. والبداية كانت من الكنيسة كما هو معتاد دائماً في الحملات الصليبية؛ فقد سن بابا الكاثوليك قوانين تمنع سفن الأوروبيين من دخول الموانئ المصرية، لكن التجار الإيطاليين رفضوا الانصياع لأوامر البابا، فقام البابا بتشكيل قوة مهمتها اختطاف التجار الأوروبيين الخارجين عن القانون، وتحولت قبرص لمكان لمراقبة سواحل مصر والسفن التي تدخل موانيها.

 

جمع بطرس السفن الحربية والمحاربين في جزيرة رودس، وأرسل للأوروبيين في الشام يطالبهم بوقف تجارتهم في الشام والرحيل عنها؛ لخداع المصريين أنه سوف يشن هجومه على الشام، ليصرف انتباههم على الهدف الحقيقي؛ الإسكندرية.

 

الأوضاع السياسية وأثرها على ملحمة الإسكندرية

الأوضاع السياسية في مصر عامة والإسكندرية خاصة كانت نذير وقوع كارثة وشيكة؛ فمصر هذا البلد الكبير وصاحب الموقع الجغرافي الخطير في قبالة أعداء الأمة تحت حكم السلطان الملك الأشرف زين الدين أبو المعالى شعبان ابن الأمجد حسين بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون، والذي تولى أمور السلطنة سنة 764 ه 1362م، ولم يتعد عمره عشر سنوات بعد أن اتفق الأمراء وعلى رأسهم الأتابكى يلبغا العمرى على خلع ابن عمه السلطان الملك المنصور محمد للمماجنة والفسق والإخلال بالصلوات، كما ذكر ابن تغري بردى في «النجوم الزاهرة»، ولم يكن للأشرف شعبان من أمور السلطنة والملك إلا الاسم فقط، فقد كان يلبغا العمرى هو المدبر والمتحكم في الأمور العامة للدولة، وهو غارق في صراع سياسي مرير مع قائد عسكري آخر هو طيبغا الطويل بسبب المنافسة على السلطة.

 

وأثر هذه الفوضى والصراع ظهر جلياً عند قدوم الحملة الصليبية القبرصية على الإسكندرية، فساعة الهجوم كان السلطان الملك الأشرف شعبان في نزهة خلوية بإحدى المناطق الريفية في شرق الدلتا، والأتابكى يلبغا العمرى في رحلة صيد بصحراء العباسية، وحاكم الإسكندرية ابن عرام مسافراً على الحج، وقد ترك نائباً عنه أميراً صغيراً عديم الخبرة والكفاءة، فكانت ظلمات بعضها فوق بعض.

 

والأنكى من ذلك أن أنباءً قد وصلت إلى أهل الإسكندرية عن احتمال غزو صليبي وذلك قبل الغزو بعدة أشهر؛ فكتب بذلك الأمير صلاح الدين خليل بن عرام متولي الثغر إلى السلطان والأمير يلبغا فلم يكن منهما اهتمام بأمر الغزو كما ذكر المقريزي في كتابه الشهير «السلوك».

 

فائدة الخطيب : "الاستقرار السياسي هو أهم دعائم قوة البلاد، والافتراق والتصارع على المناصب والسلطات هي أسرع وسيلة للخراب وتسلط الأعداء، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يعطينا درساً بليغاً برفضه إعطاء المنصب والولاية لأبي ذر الغفاري؛ بسبب ضعفه وعدم قدرته على القيام بأعباء هذه الوظيفة الخطيرة، لذلك أجمعت الأمة على تنصيب إمام يجمع الناس ويقيم الدين ويحارب العدو ويعدل بين الناس ويحمي مصالح البلاد، وجعلوا هذا الأمر من أوجب واجبات الأمة ".

 

ملحمة الإسكندرية ووحشية الصليبيين المروعة

 

جاءت الحملة الصليبية القبرصية يقودها بطرس الأول في ثمانين سفينة حربية، وهو العدد الأكبر لأسطول صليبي منذ الحملة الصليبية الثالثة قبل قرنين من الزمان تقريباً، في الوقت الذي كان فيه والي الإسكندرية ابن عرام مسافرا للحج ونائبه شاب صغير قليل الحيلة والخبرة، فظن الجميع بادئ الأمر أن السفن هي سفن البنادقة الذين يأتون للتجارة في ذلك الحين، ولم يمض وقت طويل حتى اكتشف الجميع أن هناك غزوا للمدينة، فتأهب الناس لقتالهم، وكان الثغر قد خلا من المجاهدين وأفقر من الحرس وحماة الدين، فأغلقت الأبواب ووقفت الحراسة على الأسوار، فاقترح البعض على الأمير جنغرا أن يخرج خارج الأسوار لملاقاة الصليبيين، ومنعهم من النزول إلى شواطئ المدينة، وكان هذا رأياً غير صائب ويفتقر إلى الخبرة الحربية؛ لأن أسوار المدينة حصينة، وستصمد أمام الصليبيين حتى قدوم النجدات من العاصمة، ولكن قدوم عرب البحيرة قوى من عزم الأمير الصغير وانضم إليه بعض المتطوعين، فخرج ومن معه لملاقاة الجيش الصليبي صبيحة يوم الخميس 21 من المحرم سنة 767 هـ / 9 أكتوبر 1365 م.

 

سرعان ما أيقن بطرس الأول ضعف المدافعين عن المدينة وقلة خبرتهم؛ بسبب طريقة تمركزهم أمام سفنه، فأمر بالهجوم الشامل على المدينة يوم الجمعة، ونزل بقواته الكثيفة، وحمل عليهم حملة منكرة، وركب الفرنج المدافعين بالسيف، ونزل بقيتهم إلى البر فملكوه بغير مانع وقدموا مراكبهم إلى الأسوار، فاستشهد خلق من المسلمين -كما ذكر المقريزي-، ويعتصر قلب المؤرخ محمد بن القاسم النويري ألما وحزنا على الإسكندرية حيث شاهد بنفسه ما وقع بها من قتل وتدمير وتشريد وأورد ذلك في كتابه «الإلمام» بقوله: "فما أسرع ما أخذ الثغر، وما أعجل ما انكوى قلوب أهله بالجمر، ظفرت به الفرنج في اليوم الذى نزلوا فيه من مراكبهم إلى البر، ولا أمسك بالحصار يومين بل أخذ من المسلمين في ساعتين ".

 

دخل بطرس الأول المدينة يوم الجمعة، وشقها راكباً فرسه، ثم أباحها لفرسانه الصليبيين، فهجموا على المتاجر والمحال والبيوت والقصور والأسواق والمساجد والكنائس، فنهبوا الجميع ثم أضرموا النيران فيها، وقتلوا كل من قدروا عليه من الرجال والنساء والأطفال مسلمين وغير مسلمين في وحشية دموية ليس لها نظير في الحملات الصليبية السابقة إلا يوم مجزرة احتلال بيت المقدس سنة 492 هـ كما شهد بذلك مؤرخ الحملات الصليبية الشهير "ستيف رونسيمان".

 

ظل الصليبيون في سلب ونهب وقتل متواصل لمدة ثلاثة أيام حتى جاءت الأخبار لبطرس الأول بقدوم النجدات المصرية على وجه العجل، فشعر بطرس بالخطر والخوف من انتقام المسلمين مما فعله وجنوده بأهل الإسكندرية، فأمر جنوده بحمل كل ما يقدرون على حمله إلى السفن، ففعلوا ذلك واصطحبوا معهم خمسة آلاف أسير سكندري من رجال ونساء وأطفال معهم؛ ليبيعوهم في أسواق العبيد بأوروبا، وتحركوا بالسفن في يوم الاثنين مسرعين قبل وصول جيوش المسلمين، فباء بطرس الأول بالعار والفضيحة فلم يعدو قدره قدر اللصوص كما وصفوه المعاصرون، فقد دخل الدينة لصاً وخرج منها لصاً.

 

عندما وصلت أخبار الغارة الصليبية القبرصية على الإسكندرية إلى أوروبا عمّ الفرح والسرور في أرجائها، وكان بابا روما الأكثر فرحاً، وقرر انتداب بطرس الأول في حملة صليبية جديدة على مصر، ووعد ملك فرنسا البابا بالاشتراك في هذه الحملة، غير أنه مع مرور الوقت اتضح أن الحملة فاشلة مائة في المائة، فقد تضررت تجارة الإيطاليين بسببها وارتفعت أسعار التوابل والسلع بسبب وقف حركة التجارة.

 

وفي المقابل قبض "الأتابكي يلبغا" على جميع من في مصر والشام من الفرنج والبطاركة، وألزمهم بدفع نصف أموالهم إلى السلطان لتخليص الأسرى من يد الفرنج، وقرر السلطان في شهر ربيع الأول سفر بطرك النصارى إلى قبرص للنظر في تخليص أسرى الإسكندرية كما ذكر ابن إياس، ولم تمض شهور قليلة حتى قدمت بعض السفن الأوروبية المحملة بالبضائع للتجارة إلى جانب الرسل الذين جاءوا مع السفن لتجديد الصلح، والعمل مع السلطان لتخليص الأسرى من ملك قبرص بعدما شعرت تلك الدول أن ملك قبرص سيورطها في حروبه مع الدولة المملوكية مما سيؤثر على حركة التجارة بينهم وبين المماليك، وقد ذكر ابن إياس في حوادث شهر ذي الحجة سنة 767 ه وصول رسل ملك جنوة برسالة تعلن تبرؤه مما فعله ملك قبرص، وبصحبتهم ستين أسيرا كان ملك قبرص قد أهداهم لملك جنوة.

 

ومن أهم آثار هذه الغارة الفاشلة فقد تمثل في مقتل " بطرس الأول " نفسه على يد ثلاثة من فرسانه بعدما شعروا بالضجر من سياساته وطموحاته التي استنزفت أموال الجزيرة وانهكتها اقتصادياً وعسكرياً فقتلوه؛ ليهلك بطرس ضحية أحقاده وتهوره وتعصبه الأعمى ضد المسلمين وأحلامه بعودة مملكة بيت المقدس الصليبية بالشام.

 

وكان لذلك الهجوم الذى تعرضت له الإسكندرية تذكرة للسلطان وأمرائه للاهتمام بتجهيز القوات المملوكية، فأمر "الأتابكي يلبغا" بصنع السفن البحرية اللازمة لغزو الفرنج حتى أن بعث إلى بلاد الشام كما ذكر ابن تغري بردي، بإخراج النجارين وكل من يمسك منشارا بيده ولا يترك واحدا منهم إلى جبل شغلان بالقرب من أنطاكية ويقطعون الأخشاب ويحملونها إلى مصر، واكتملت عمارة السفن البحرية في شهر ربيع الأول سنة 768 ه كما ذكر المقريزي، وعدتها مائة قطعة وجهزت بالرجال والأسلحة استعدادا للغزو، واستمرت المحاولات المملوكية للانتقام من الغزو القبرصي للإسكندرية، وتعاقب على حكم مصر أكثر من عشرة سلاطين حتى تولى السلطان الملك الأشرف برسباي أمور السلطنة سنة 825 ه، وبعد أربع سنوات من حكمه وتحديدا في يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة 829 ه ورد الخبر على السلطان الأشرف برسباي بأخذ قبرص وأسر ملكها جينوس بن جاك، فكاد يطير فرحا ورآه المؤرخ ابن تغري بردي وهو يبكي من شدة الفرح حتى بكى الناس لبكائه.

 

المشاهدات 472 | التعليقات 0