مكة: أحب البلاد إلى الله تعالى
د. محمود بن أحمد الدوسري
مكة: أحب البلاد إلى الله تعالى
د. محمود بن أحمد الدوسري
12/11/1438هـ
الحمد لله ...
في دنيا الناس, جرت عادة البشر أنهم إذا كان لديهم شيء ثمين ونفيس, فأرادوا حفظه, فإنهم يختارون له أولاً أفضلَ الأوعية وأحسَنَها لاحتوائه, ثم يختارون له أفضل الأماكن وآمنَها لحفظه وصيانته, ويحتاطون له ما لا يحتاطون لغيره, فما الظن ببيت نَسَبَه الله تعالى إلى نفسه الشريفة, وجَعَلَه مباركاً وهدى للعالمين, وخصَّه دون غيره بأن ضمَّنه من أحجار الجنة حجرين؛ الحجر الأسود ومقام إبراهيم, وجَعَلَه قِبلةً لعباده المؤمنين في صلاتهم, وجَعَلَه مقصداً لشعيرة من أعظم الشعائر, وهي شعيرة الحج.
فلا بد إذن - وحتى يكتمل مشهد التكريم والتعظيم - أن يختار له أفضلَ بقاع الأرض, فكانت البقعة التي بُنِيَ عليها البيت, وأن يختار له أشرفَ البلدان, فكانت مكة المكرمة؛ لذا هي أشرف البلدان وأكرمها؛ لاحتوائها على بيت الله الحرام, ومما ورد في فضائل مكة:
1- قوله صلى الله عليه وسلم - مخاطباً مكة حين وداعها, في يوم فتح مكة: (مَا أَطْيَبَكِ من بَلَدٍ, وَأَحَبَّكِ إليَّ! وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ؛ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ) (1).
2- ولَمَّا خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكَّةَ إلى الغَارِ - الْتَفَتَ إلى مَكَّةَ - فقال: (أَنْتِ أَحَبُّ بِلاَدِ اللهِ إلى اللهِ, وأَنْتِ أَحَبُّ بِلاَدِ اللهِ إليَّ, فَلَوْ أَنَّ المُشْرِكينَ لَمْ يُخْرِجُوني لَمْ أَخْرُجْ مِنْكِ) (2).
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم - ذات يوم مخاطباً مكة: (واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ, وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ, وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ؛ ما خَرَجْتُ) (3).
قال المباركفوري – رحمه الله: (فيه دلالة على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يخرج من مكة إلاَّ أن يُخْرَج منها حقيقةً أو حُكماً, وهو الضرورة الدينية أو الدنيوية) (4).
4- وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَحَبَّ البِلاَدِ إلى اللهِ البَلَدُ الحَرَامُ) (5).
5- وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ (6), فَاشْتَكَى أبو بَكْرٍ, وَاشْتَكَى بِلاَلٌ, فَلَمَّا رَأَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَكْوَى أَصْحَابِهِ قال: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ, كما حَبَّبْتَ مَكَّةَ أو أَشَدَّ, وَصَحِّحْهَا, وَبَارِكْ لَنَا في صَاعِهَا وَمُدِّهَا) (7).
عباد الله .. ضَمَّ البلد الحرام مناسكَ مُعظَّمة, وأماكن مُقدَّسة, وشعائرَ مباركة, ارتبط بها أداء ركنٍ من أركان الإسلام, وهو الحج, والله تعالى رفع من شأن هذه الأماكن وجَعَلها من شعائره وآياته الدالة على توحيده وعظمته جلَّ في علاه, وذلك في آيات الله المقروءة, حيث خلَّد ذِكرها وجعلها قرآناً يُتلى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة, وكذلك جعلها في آيات الله المنظورة, في هذا الكون, بأنْ جعلها آثاراً باقية, فلم يفنيها الزمان, ولم يُغيِّرها تعاقب الأيام والدهور, وهذا دليل على عظمة البلد الذي ضمَّ هذه المناسك والشعائر, ومن ذلك:
أ- مقام إبراهيم: وهو الحَجَر الذي قام عليه إبراهيم - عليه السلام - حين ارتفع بناؤه للبيت, وشق عليه تناول الحجارة, فكان يقوم عليه يبني, وإسماعيل - عليه السلام - يناوله الحجارة.
ومن فضائله: أن الله تعالى خَلَّد ذِكره, وجعله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة, وأمَرَ باتخاذه مُصلَّى, وجعله من الآيات الدالة على توحيده وعظمته, قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]. وقال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:96]. وقال عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (الْرُّكْنُ [أي: الحَجَر الأسود] وَالمَقَامُ [أي: مقام إبراهيم] يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ) (8).
ب- عين زمزم: وهي العين المباركة التي فجَّرها جبريل - عليه السلام - لإسماعيل وأمه - عليهما السلام.
ومن فضائلها: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنها خيرُ ماءٍ على وجه الأرض, وهي طعامُ طُعْم, وشفاءُ سُقْم, وهي لما شًُرِب له, وقد غسلت الملائكةُ قلبَ النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم قبل المعراج, ومن الأحاديث الواردة في فضائلها: قوله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ, فيه طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ, وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ) (9).
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته الاستشفاء بماء زمزم,
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسولُ صلى الله عليه وسلم: (يَحْمِلُ مَاَء زَمْزَمَ فِي الأَدَاوَى وَالقِرَبِ, وَكَانَ يَصُبُّ عَلَى المَرْضَى وَيَسْقِيهِم) (10).
الخطبة الثانية
الحمد لله ...
ومن الشعائر المعظمة في مكة المكرمة:
ج- الصفا والمروة (المسعى):
الصَّفا: جبل صغير في الجهة الجنوبية الشرقية من الكعبة, ويبعد عنها: (130م), وهو الذي يُبدأ منه السعي.
والمروة: جبل صغير من الحَجَر الأبيض, يقع في الجهة الشمالية الشرقية من الكعبة, ويبعد عنها: (300م).
والمَسْعَى: هي المسافة المُمْتدَّة ما بين جَبَلي الصفا والمروة, وطولُه: (395م), وعرضُه: (40م), والسَّعي بينهما من مناسك الحج والعمرة (11).
وأوَّل مَنْ سَعَى بين الصفا والمروة هاجر أمُّ إسماعيل - عليهما السلام, لمَّا نفد الماء منها, وبدأ ولِيدُها إسماعيلُ بالبكاء من العطش, راحت تبحث عن الماء, فوجدت أقرب ما يكون منها هو الصفا والمروة, فأخذت تصعد عليهما, وتجري بينهما بحثاً عن الماء, لتضرب بنظرها إلى ما يُمكن أن تلتقطه عيناها, وإذا مرَّت ببطن الوادي بينهما أسرعت, ولمَّا قطعت الشوط السابع سمعت هَمْساً من جهة وَلِيدِها, فذهبت لتطمئنَّ عليه, فوجدت الماءَ يتفجَّر من تحت قدميه.
فالصفا والمروة من شعائر الله المعظمة التي عظمها الله تعالى وأمر بتعظيمها؛ كما قال سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158], والشعائر: أعلام الدِّين الظاهرة, وهي معالم للطاعات والقُرَب, وقد أمر الله تعالى عباده بتعظيم شعائر دينه, فقال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [ الحج:٣٢]. فيجب على المسلمين أن يُعظِّموا هذه الشعائر المباركة, ومنها: الصفا والمروة, بالسَّعي بينهما في نُسُكِ الحج والعمرة؛ لأنَّ ذلك مِمَّا أوجبه الله تعالى على المسلمين؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (سَنَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا, [أي: بين الصفا والمروة] فَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا) (12).
ومن فضائلهما: ما جاء عن ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ فَكَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً) (13).
والعِتقُ فيه إحياءٌ للإنسان, فليس شيء يعدل الحياة في الدنيا كلِّها غير العتق, والدليل على ذلك: ما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ) (14). فقد جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عِتْقَ الرجلِ أباه مكافِئًا له على أنْ وهَبَهُ الحياةَ.
الدعاء ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) رواه الترمذي, (5/723), (ح3926). وصححه الألباني في (صحيح سنن
الترمذي), (3/590), (ح3926).
(2) رواه الطبري في (تفسيره), (26/48)؛ وابن كثير في (تفسيره), (4/176).
وصححه القرطبي في (تفسيره), (16/235).
(3) رواه الترمذي, (5/722), (ح3925) وقال :(حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ). وصححه
ابن حجر في (فتح الباري), (3/67). والألباني في (صحيح سنن الترمذي),
(3/590), (ح3925).
(4) تحفة الأحوذي, (10/294).
(5) رواه ابن أبي خيثمة في (التاريخ الكبير), (ص125), (رقم28). وإسناده
صحيح, رجاله كلهم ثقات. انظر: فضائل مكة الواردة في السنة, (1/236),
(رقم95).
(6) (وَبِيئَةٌ): أي: ذات وباءٍ, وهو الموت الذَّريع, هذا أصله, ويُطلق أيضاً على
الأرض الوخمة التي تكثر بها الأمراض, ولا سيما للغرباء الذين ليسوا
مُستوطنيها. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي, (9/150).
(7) رواه مسلم, (2/1003), (ح1376).
(8) رواه ابن حبان, في (صحيحه), (9/24), (ح3710). وصححه الألباني في
(صحيح الجامع), (1/665), (ح3559).
(9) رواه الطبراني في (الأوسط), (4/179)؛ و(الكبير), (11/98), (ح11167).
وحسنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب), (2/40), (ح1161).
(10) رواه البخاري في (التاريخ الكبير), (3/189), (ح639).
وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة), (2/543), (ح883).
(11) انظر: مكة المكرمة تاريخ ومعالم, محمود محمد حمو (ص111).
(12) رواه البخاري, (2/592), (ح1561)؛ ومسلم, (2/929), (ح1277).
(13) رواه البزار في (مسنده), (12/317), (ح6177)؛ والطبراني في (الأحاديث
الطوال), (1/320), (ح61)؛ وابن حجر في (المطالب العالية بزوائد
المسانيد الثمانية), (6/263), (ح1131). وقال الألباني في (صحيح
الترغيب والترهيب), (2/9), (ح1112): (حسن لغيره).
(14) رواه مسلم, (2/1148), (ح1510).
المرفقات
أحب-البلاد-إلى-الله-تعالى
أحب-البلاد-إلى-الله-تعالى