مكافحةُ الشائعاتِ في التبيُّنِ والتّثبّتِ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1445/06/08 - 2023/12/21 23:09PM

الحمدُ للهِ أعطى الإنسانَ سمعاً ولسانا، وزوّدَه بفؤادٍ زادَه شرفاً ومكاناً، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له؛ ربُّنا و إلاهُنا ومولانا، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه هو قدوتُنا ومَثَلُنا الأعلى؛ صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آلِه وصحبِه الذينَ بِهمُ الحقُّ ظهرَ وبانَ، وعلى مَنِ اتَّبعهم بصدقٍ إلى يومٍ تقومُ فيه الأرواحُ إلى ربِّها ذُلّاً وإذْعاناً ..

أمّا بعدُ فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ في كلِّ حينٍ، وفي كلِّ حالٍ، وفي كلِّ ما نقولُ ونسمعُ، وفي كلِّ ما نأتي وما نَذَرُ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا"

معاشرَ المؤمنين: إنّ الإنسانَ يومَ أنْ حَمَلَ الأمانةَ؛ وصَفَهُ اللهُ بقولِه: "إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" إذْ أنَّ الأمانَةَ حِمْلٌ عظيمٌ، وثِقْلٌ كبيرٌ، ومسؤوليّةٌ عظمى.

وليستِ الأمانَةُ في جانبٍ أوْ جانبينِ أو ثلاثةٍ؛ لا؛ بلْ هي في كلِّ شيءٍ كُلِّفَ به الإنسانُ، وفي كُلِّ شيءٍ أُعْطيَه، وأُنْعِمَ عليه به، ومِنْ أعظمِ ما أُنعِمَ على الإنسانِ به، وكُلِّفَ بحفْظِه والمُحافظةِ عليه؛ السَّمعُ واللسانُ؛ فَمِنَ السّمعِ يأخذُ الإنسانُ كلَّ كلامٍ، ومِنَ اللسانِ يَصْدُرُ كلَّ كلامٍ، ولقد أوضحَ اللهُ لنا في كتابِه كيفيّةَ المُحافظةِ على ذلك كُلِّه فقالَ سبحانَه: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" قالَ قتادةُ: (لا تقلْ رأيتُ ولمْ ترَ، وسمعتُ ولمْ تسمعْ، وعلمتُ ولمْ تَعْلمْ؛ فإنَّ اللهَ سَائِلُكَ عنْ ذلك كلَّه) قالَ ابنُ كثيرٍ ــ رحمَهُ اللهُ ــ: (ومَضمونُ ما ذكروهُ: أنَّ اللهَ تعالى نَهى عنِ القولِ بلا عِلْمٍ بلْ بالظنِّ الذي هو التَّوهُّمُ والخَيَالُ؛ كما قالَ تَعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" انتهى كلامه.

إنَّ مُجرّدَ القولِ بالتّوهُّمِ والخيالِ، وبالظنِّ والشكِّ؛ إنّما هو قولٌ بلا علْمٍ، وافتراءٌ وكَذِبٌ.

لقد ابْتُلينا في هذه الأزمانِ بكثرةِ القولِ، وبِسُرْعَةِ نَقلِ الكلامِ والأقوالِ بلا علمٍ، ولا تثبُّتٍ، حتّى الْتَبَسَتْ على النّاسِ الحقائقُ، واشْتَبهتْ الأمورُ.

إنَّ التّثبتَ هوَ دعوةُ القرآنِ، ومَنْهَجُ الإسلامِ الدّقيقُ، ومتى استقامَ العقلُ والقلبُ على هذا المنهجِ؛ لمْ يبقَ مجالٌ للتّوهُّمِ، والوهْمِ والخُرافَةِ والشائعاتِ.

"وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" لا تَتْبَعْ ما لمْ تعْلَمْهُ علمَ يقينٍ، ومالمْ تَتَثَبّتْ مِنْ صِحَّتهِ مِنْ قولٍ يُقالُ، وروايةٍ تُرْوى، ومِنْ ظاهِرةٍ تُفسّرُ، أوْ وَاقعةٍ تُعلّلُ، ومِنْ حُكْمٍ شرعيٍّ أو قضيَّةٍ اعتقاديةٍ تُتَناقلُ.

إنَّ الأقوالَ والتّحليلاتِ التي مبناها الظنُّ؛ إنّما هي مَحَضُ الكذبِ؛ لا تَتجاوزُه قدْرَ أنْمُلةٍ؛ بلْ هي مِنْ أشدِّ الكذبِ؛ كما جاء في الحديثِ: " إيَّاكُمْ والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ.

أمّا الأقوالُ التي مَنْشؤها: قالوا وزعموا، فليستْ ببعيدةٍ مِنَ الظّنِّ، ويكفي توبيخاً وتَبْكِيْتاً لمِنْ أخذَ بقالوا وزعموا، وراحَ يَطِيرُ بذلك؛ قولُ المصطفى صلى اللهُ عليه وسلّمَ: " بئسَ مطيَّةُ الرَّجلِ زعموا" رواهُ أبو داودُ، وصححه الألبانيُّ.

نعم؛ لقد سدَّ الإسلامُ كلَّ بابٍ للأخبارِ والأقوالِ؛ ليسَ بابَ تثبُّتٍ ويَقينٍ.

إنَّ الزَّمانَ الذي نعيشُه، والواقعَ الذي نحنُ فيه؛ يُحتِّمُ علينا الجِديَّةَ في الأخذِ بهذا المنهجِ الرَّبانيِّ العظيمِ الذي أوصى اللهُ به عبادَه، وإنَّ التَّفريطَ في هذا المنهجِ سببٌ عظيمٌ مِنْ أسبابِ الفُرْقَةِ والعَدوانِ والبَغْضَاءِ؛ فكمْ مِنْ مظلومٍ في مالِه، أو بَدَنِه، أو عِرْضِه؛ كانَ سببَ ذلك التَّسرُّعُ في نَقلِ الأخبارِ، وإشاعتِها دونَ تمْحيصٍ وتثبّتٍ، وكمْ مِنْ أواصِرَ وصِلاتٍ قُطِعتْ بينَ الأرحامِ والإخوانِ كانَ سببُها عدمَ التّثبُّتِ، والقولَ بالظّنونِ، أو بلا علمٍ، بلْ كمْ قامتْ مِنْ حروبٍ وفتنٍ وأسَاسُها أخبارٌ كاذبةٌ، وشائعاتٌ نُشِرتْ، وظنونٌ وتُهمٌ باطلةٌ.

إنّ منهجَ التّثبّتِ في القولِ والنّقلِ والسّماعِ لا يستغني عنه مسلمٌ مهما كانَ مستواهُ مِنَ العِلْمِ والثّقافَةِ، ومِنْ أعظمِ النّاسِ مسؤوليةً في هذا؛ الإعلاميّونَ، والصّحفيونَ، والمراسلونَ، والكُتّابِ، ومَنْ يُسَمُّونَ بالمَشَاهِيرِ؛ الذين يَطّلِعُ أو يَسمَعُ لهم الملايينُ مِنَ البشرِ، وقِمّةُ المِهَنيّةِ الإعلاميةِ؛ التزامُهُم منهجَ القرآنِ والسنّةِ في التّثبّتِ.

إنَّ منهجَ التّثبُّتِ الذي رسمَه لنا القرآنُ والسّنةُ في القولِ والنّقلِ والسّمَاعِ؛ هو المضادُّ والمُكافِحُ للشائعاتِ التي أرْبَكَتِ المُجتمعاتِ، وأرّقتِ النّفسيّاتِ، وخلْخلَتِ المُحْكَمَ مِنَ البُيوتِاتِ.

وليسَ مُجَرَّدُ السّماعِ للشيءِ مُبرِّرَاً أومُسوِّغاً لِنَقْلِه والتّحدُّثِ به، فقد قالَ رسولُنا عليه الصّلاةُ والسّلامُ: "كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ" رواه مسلمٌ.

نعم إنَّ مَنْ تحدَّثَ وقالَ بكلِّ شيءٍ يسمعُه، وبكلِّ شيءٍ يَعلَمُه؛ فإنّه سينجَرُّ إلى الكذبِ؛ لأنّه قد يَنْقُلُ كَذِباً، أو يَنْشُرُ كَذِباً، أو يَرْوِي كَذِبَا

باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنّةِ، ونفعنا بما فيهما من العبرِ والحكمةِ.

أٌقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنّه كانَ غفاراً.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

 

الحمدُ للهِ على نعمِه التي تترا، والشكرُ له على آلائه التي لا تُحصى، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له الوليُّ المولى، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ سبحانَ مَنْ بهِ أَسْرَى، صلى اللهُ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه ومَنْ تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ القيامَةِ الكبرى ..

أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ: "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"

معاشرَ المؤمنينَ: إنْ كانَ الإنسانُ لابدَّ متكلّماً وقائلاً وناقلاً؛ فعليه الأخذُ بأصولِ التّثبّتِ الثّلاثَةِ التّاليةِ:ــ

أوّلاً: التّثبُّتُ مِنْ صِحَّةِ الكلامِ المسموعِ أو المقروء، والاطمئنانُ إلى صِدْقِ الخبرِ، وسلامَةِ الرِّوايةِ، فقد قالَ اللهُ تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"

ثانياً: التّثبّتُ مِنْ دِقَّةِ كلامِ المُتكلِّمِ، ووضوحِ عِبارَتِه.

ثالثاً: التّثبُتُ مِنْ دِقَةِ فهمِ السامعِ واستيعابِه، فإنْ كانَ السامِعُ بطيءَ الاستيعابِ، سيّءَ الفَهْمِ، فالواجبُ تجنُّبُ مخاطبتِه بالكلامِ الذي له شأنٌ وقيمةٌ.

عبادَ اللهِ: ليستْ عواقبُ نشرِ الشائعاتِ، وعدمِ التّثبّتِ وخيمةً على الفردِ، أو على جماعةٍ محدودةٍ؛ لا؛ بل ضررُها على أُممٍ، وشعوبٍ، وعلى أجيالٍ متعاقبةٍ، وعصورٍ متتابعةٍ.

وفي الآخرةِ الحسابُ دقيقٌ، والهولُ شديدٌ؛ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ لمعاذٍ: "ألا أخبرُكَ بِرَأسِ الأَمرِ كلِّهِ وعمودِهِ، وذِروةِ سَنامِهِ؟ قلتُ: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصَّلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ، ثمَّ قالَ: ألا أخبرُكَ بملاكِ ذلِكَ كلِّهِ؟ قُلتُ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ، قال: فأخذَ بلِسانِهِ قالَ: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ؟ فقالَ: ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم" رواه الترمذيُّ وصححه الألبانيُّ.

وفي حديثِ رؤيا النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ الطّويلِ قالَ: "وأَمَّا الرَّجُلُ الذي أتَيْتَ عليه، يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إلى قَفَاهُ، ومَنْخِرُهُ إلى قَفَاهُ، وعَيْنُهُ إلى قَفَاهُ، فإنَّه الرَّجُلُ يَغْدُو مِن بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ" رواه البخاريُّ

هذا وصلوا وسلموا على رسولِ اللهِ كما أمركم بذلك اللهُ إذ يقولُ:" إنّ الله وملائكته .....  

المشاهدات 708 | التعليقات 0