مقدمات في الدعاء - 7
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
عباد الله، تقدم في الخطب الماضية تقرير أن الدعاءُ عبادة جليلة، قد خصها الله بالذكر في كثير من الآيات، وبــيَّـن النبـي (صلى الله عليه وسلم) شرفها في كثير من الأحاديث الصحيحة، وقد تقدم الكلام على خمسة أسباب من الأسباب التي إذا بذلها الداعي كان دعاءه قريبا للإجابة، كما تكلمنا على أنواع تندرج تحت السبب السادس وهو التحلي بآداب الدعاء، واليوم نتكلم على بقية تلك الأنواع بإذن الله.
***
10. ومن آداب الدعاء؛ الدعاء بجوامع الدعاء وترك التفاصيل، فعن عائشة )رضي الله عنها) قالت: «كان رسول الله )صلى الله عليه وسلم) يَستحب الجوامع من الدعاء ويَدَعُ ما سوى ذلك»([1]).
ومن ذلك ما رواه مسلم عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: سأَلْتُ عائشة عمَّا كان رسول الله )صلى الله عليه وسلم) يدعو به الله، قالت: كان يقول: «اللهمَّ إني أعوذ بك من شرِّ ما عملتُ ومِن شرِّ ما لم أعمل»([2]).
وعن ابن أبي موسى عن أبيه عن النبي )صلى الله عليه وسلم) أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «ربِّ اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلمُ به مني، اللهم اغفر لي خطاياي وعَمدي، وجهلي وهَــزْلي، وكلُّ ذلك عـندي، اللهم اغفر لي ما قَدَّمت وما أَخَّرت، وما أسررت وما أعلنتُ، أنت المُقَدِّم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير»([3]).
وعن أنسٍ )رضي الله عنه) قال: كان أكثر دعاء النبي )صلى الله عليه وسلم): «رَبَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار»([4]).
قال عمادُ الدِّين ابن كثير )رحمه الله): «الحسنة في الدنيا تَشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حَسَنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالـح، ومركب هَنِيء، وثناء جـميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأما الحســنة في الآخرة فأعلى ذلك دخـول الجنة، وتوابعه مِن الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصات([5])، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة.
وأمَّا النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام». انتهى([6]).
أيها المسلمون، ولا شك أن الأدعية الواردة في الكتاب والسنة هي من جوامع الدعاء، ومعصومة من الخطأ، ومباركة، فالتزامها خير من التزام غيرها، من حَشْوِ الكلام الذي لا فائدة فيه، والسجع المتكلف والأوصاف التفصيلية، وطول الكلام والالتواء فيه.
ومما يشير إلى ذلك ما رواه أبو نَعامة أنَّ عبد الله بن مُغَفَّل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها.
فقال: أي بُــنَــي، سَــلْ اللهَ الجنة وتَعَوَّذ من النار، سمعت رسول الله )صلى الله عليه وسلم) يقول: «إنَّه سيكون في هذه الأُمَّة قوم يعتدون في الطهور والدعاء»([7]).
وروى أبو نَعامة أيضًا عن ابن سعد أنه قال: «سَمِعني أبي وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبَهجتها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسَلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، فقال: يا بُني، إني سمعت رسول الله )صلى الله عليه وسلم) يقول: «سـيكون قومٌ يَعتدون في الدعاء»، فإيَّاك أن تكون منهم، إن أُعطيت الجنة أُعطيتها وما فيها من الخير، وإن أُعِذْتَ من النار أُعِذْتَ منها وما فيها من الشَّرِّ»([8]).
وقال ابنُ عباس )رضي الله عنه): «وانظر السَّجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله )صلى الله عليه وسلم) وأصحابه لا يَفعلون إلا ذلك»([9])، يعني: لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية )رحمه الله): «لا ريب أن الأذكار والدَّعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع، فالأذكار والأدعية النبوية هي أفضل ما يتحرَّاه المتحري من الذِّكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة، والفوائد والنتائج التي تَـحصل لا يُعبر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان، وما سواها من الأذكار قد يكون مـحرمًا وقد يكون مكروها، وقد يكون فيه شركٌ مـما لا يهتدي إليه أكثر الناس، وهي جملة يطول تفصيلها.
وليس لأحد أن يَسُنَّ للناس نوعًا من الأذكار والأدعية غير المسنون، ويجعلها عبادة راتبة يُواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس، بل هذا ابتداع دين لـم يأذن الله به، بخلاف ما يدعو به المرء -أحيانًا- من غير أن يجعله للناس سنة، فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معنى محرمًا لم يَـجُز الجزم بتحريمه، لكن قد يكون فيه ذلك والإنسان لا يشعر به، وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت، فهذا وأمثاله قريب.
وأما اتِّخاذ وِرد غير شرعي واستنان ذكر غير شرعي، فهذا مما يُـنهى عنه، ومع هذا ففي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة، ونهاية المقاصد العَلِيَّة، ولا يَعْدِل عنها إلى غيرها من الأذكار المُحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مُفَرِّط أو مُـتعدٍّ»([10]).
***
11. ومن أسباب إجابة الدعاء العزم فيه وعدم التراخي، لحديث أنس )رضي الله عنه) قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «إذا دعا أحدُكم فَلْيَعْزِم المسألة ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني، فإنَّه لا مُستَكرِهَ له»([11]).
والتخيير يُشعر باستغناء العبد عن الإجابة، ولذا جاء النهي عنه، والواجب العزم وعدم التخيير.
***
12. ومن أسباب إجابة الدعاء الدعاءُ ثلاثًا، ودليله حديث ابن مسعود )رضي الله عنه): «كان إذا دَعَا دَعَا ثلاثًا، وإذا سَأَلَ سَأَلَ ثلاثًا»([12]).
قال النوويُّ في شرح الحديث: «فيه استحبابُ تكرير الدعاء ثلاثًا».
***
13. ومن أسباب إجابة الدعاء المواظبة على الدعاء في جميع الأحوال، في الرخاء، وفي الشدة، وعدم الغفلة، فإن هذا سبب في إجابة دعائه في حال الشدة، فعن أبي هريرة )رضي الله عنه) قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «مَن سَـرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرب؛ فلْيُكثر الدعاء في الرخاء»([13]).
***
14. ومن أسباب إجابة الدعاء طِيبُ المأكل، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «أيُّها الناس، إن الله طَيَّبٌ لا يَقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم﴾، وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾، ثم ذكر الرجل يُطيل السفر، أَشْعَث([14]) أَغْبَر([15])، يَـمُدُّ يديه إلى السماء؛ (يا رب، يا رب)، ومطعمه حرام، ومَشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك»([16]).
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) رواه أبو داود (1482)، وابن أبي شيبة (29156)، وصححه الألباني.
([2]) رواه مسلم (2716).
([3]) رواه البخاري (6398)، ومسلم (2719)، واللفظ للبخاري.
([4]) رواه البخاري (6389)، ومسلم (2690).
([5]) العَــــرَصات: جمع عَـــرْصة، وهي الموضع الواسع الذي لا بناء فيه. انظر «النهاية».
([6]) تفسير سورة البقرة، الآية رقم (201).
([7]) رواه أبو داود (96)، وابن ماجه (3864)، وابن حبان (15/166)، وصححه الألباني )رحمه الله).
([8]) رواه أبو داود (1480)، وقال الألباني: «حسن صحيح».
([9]) رواه البخاري (6337).
([10]) «مجموع الفتاوى» (22/510- 511).
([11]) رواه البخاري (6338) ومسلم (2678).
فائدة: قال النووي )رحمه الله) في شرح الحديث: «قال العلماء: سبب كراهته: أنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق مَن يتوجه عليه الإكراه، والله تعالى منزه عن ذلك، لا يُكْرِهُه أحدٌ».
([12]) رواه مسلم (1794).
([13]) رواه الترمذي (3382)، وصححه الألباني.
([14]) أشعث أي أن شعره مُنتشر متفرق.
([15]) أغبر أي: كدِر اللون.
([16]) رواه مسلم (1015).
المرفقات
1735803785_مقدمات في الدعاء - 7.doc
1735803785_مقدمات في الدعاء - 7.pdf