مقدمات في الدعاء - 3
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
فصل في بيان الأسباب الشرعية لإجابة الدعاء
أيها المؤمنون، ذكرنا في الخطبة الماضية أن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده أسبابًا لإجابة الدعاء، فمن تتبعها وتحراها فدعاؤه قريب للإجابة إن شاء الله تعالى، وفيما يلي سرد لتلك الأسباب وأفرادها، ليكون القارئ على بصيرة بالحق وضِدِّه، فإنا إذا علمنا الأسباب البدعية فاجتنبناها وعلمنا الأسباب الشرعية فعملنا بها- صِرنا على بصيرة من أمرنا، بإذن الله تعالى.
وأسباب إجابة الدُّعاء ستة أنواع:
الأول: سبب متعلق بذات الداعي.
الثاني: أسباب متعلقة بعبادة قام بها الداعي.
الثالث: أسباب متعلقة بحال الداعي.
الرابع: أسباب متعلقة بزمن الدعاء.
الخامس: أسباب زمانية مكانية.
السادس والأخير: أسباب متعلقة بآداب الدعاء.
النوع الأول: سبب متعلق بذات الداعي
عباد الله، أما السبب المتعلق بالداعي ليكون دعاؤه مجابا، فهو أن يكون الداعي قائمًا بما أمر الله به عباده من الأوامر، مُـنتهيًا عما نَهى الله عنه من النواهي، كما قال تعالى: ﴿ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله﴾، أي يستجيب لهم الدعاء، فعَلَّق الإجابة هنا بالإيمان والعمل الصالح.
وقال ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾، فوصَف الله مَن يستجيبُ لهم دعاءَهم بالعبودية، التي هي فعل الطاعات وترك السيئات.
وعن أبي هريرة )رضي الله عنه) قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «ثلاثةٌ لا يُرَدُّ دعاؤهم: الذَّاكر الله كثيرًا، ودعوة المظلوم، والإمام المُقسط»([1]).
فبيَّـن النبي )صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث أن الذاكر الله كثيرًا دعاؤه قريب للإجابة، لكونه قائمًا بأمر الله، وكذا الإمام الـمُقسِط لكونه قد أطاع الله في رعيته، وهذا عمل صالح ليس بالهَيِّن.
ولما كان دعاء الرجل الصالح قريبًا للاستجابة؛ كان الصحابة يأتون إلى النبـي )صلى الله عليه وسلم) ليدعو لهم إذا نـزلت بهم نازلة، ومن المعلوم أن النبي )صلى الله عليه وسلم) هو أصلح الصالحين، فعن خَــبَّاب بن الأرَت قال: «شَكونا إلى رسول الله )صلى الله عليه وسلم) وهو مُتوسِّدٌ بُردةً له في ظِلِّ الكعبة، قلنا له: أَلَا تَستـنصر لنا؟ أَلَا تدعو الله لنا؟»([2]).
فالحاصل أنه كلما كان الداعي أكثر صلاحًا وقُربًا إلى ربه كان دعاؤه قريب الإجابة.
***
النوع الثاني من أسباب إجابة الدعاء: أسباب تتعلق بعبادة قام بها الدَّاعي، وعددها تسعة
1. أيها المسلمون، ومن أسباب إجابة الدعاء فعل الدعاء في أحوال معينة، ومن ذلك الدعاء قبل التسليم من الصلاة، فعن أبي أُمامة الباهلي )رضي الله عنه) قال: قيل: يا رسـول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: «جَوف الليل الآخر، ودُبر الصَّلوات المكتوبات»([3])، أي آخر الصلاة قبل التسليم، لأنَّ دبر الشيء منه.
وعن ابن مسعود )رضي الله عنه) قال: كنت أُصَلِّي والنبـي )صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمـر معه، فلما جلستُ (أي للتشهد) بدأت بالثناء على الله، ثم الصلاة على النبي )صلى الله عليه وسلم)، ثم دعوتُ لنفسي، فقال النبي )صلى الله عليه وسلم): «سَلْ تُعْطَه، سَلْ تُعْطَه»([4]).
***
2. عباد الله، ومن أحوال الدعاء المجاب دعاء العبد وهو ساجد، والدليل على هذا قول النبي )صلى الله عليه وسلم): «وأمَّا السجود فاجــتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ (أي حَرِيٌّ) أن يُستجاب لكم»([5]).
وعن أبي هريرة )رضي الله عنه) أن رسول الله )صلى الله عليه وسلم) قال: «أقربُ ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد، فأَكثروا الدعاء»([6]).
***
3. أيها المسلمون، ومن أحوال الدعاء المجاب دعاء الصائم، والدليل على هذا قول النبي )صلى الله عليه وسلم): «ثلاثُ دَعَوات لا تُرَدُّ: دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر»([7]).
***
4. عباد الله، ومن أحوال الدعاء المجاب دعاء الحاجِّ والمُعتمر، لقول النبي )صلى الله عليه وسلم): «الغازي في سبيــل الله، والحاج والـمُعتمر وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم»([8]).
***
5. عباد الله، ومن أحوال الدعاء المجاب الدعاء عند المُلْتَزم، وهو الجزء من الكعبة الممتد بين الحجر الأسود وباب الكعبة، وسُمِّي مُلتزمًا لأن الناس يلتزمونه ويَدعُون عنده، والدليل على أفضلية الدعاء عنده أن النبي )صلى الله عليه وسلم) كان يضع صدره ووجهه وذِراعيه وكفَّيه بين الرُّكن والباب([9])، أي في الطواف، وورد عنه في فتح مكة أنه وأصحابه وَضعوا خُدودهم على البيت ورسول الله )صلى الله عليه وسلم) وسَطُهم([10]).
وقال مجاهد: «جئتُ ابنَ عباس وهو يتعوذ بين الركن والباب»([11]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية )رحمه الله): «وإن أحبَّ أن يأتي «الملتزم» -وهو ما بين الـحجر الأسود والباب- فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفَّيه، ويدعو ويسأل الله تعالى حاجته؛ فَعَلَ ذلك، وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع، فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة... ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسنًا...»([12])، انتهى.
***
6. أيها المؤمنون، ومن أحوال الدعاء المجاب الدعاء عند شُرب ماء زمزم، لحديث جابر )رضي الله عنه)، قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «ماءُ زَمزم لما شُرب له»([13]).
***
7. عباد الله، ومِن الأعمال الصالحة التي شرعها الله لإجابة الدعاء؛ التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُليا كما قال تعالى: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾، وهو كقول: يا رحمـٰن ارحمني، يا رزاق ارزقني، يا غفار اغفر لي، ونحو ذلك.
***
8. أيها المسلمون، ومن الأعمال الصالحة التي شرعها الله لإجابة الدعاء؛ التوسل بدعاء رجل صالح حيٍّ حاضر قادر على الدعاء، بأن يذهب المسلم إلى رجل من أهل الصلاح والاستقامة، ويطلب منه أن يدعو له الله )تبارك وتعالى) ما شاء أن يدعو له، كأن يُفَرِّج الله عنه ما هو فيه من كربة، أو يدعو له بالتوفيق والنجاح، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، ولهذا كان الصحابة )رضي الله عنهم) يأتون إلى النبـي )صلى الله عليه وسلم) ليدعو لـهم إذا نـزلت بهم نازلة، أو أصابهم قَحط، وقد ورد هذا عن بعض السلف أيضًا.
***
9. أيها المسلمون، ومن الأعمال الصالحة التي شرعـها الله سبحانه وتعالى لإجابة الدعاء تَوَسُّـل الدَّاعي بعمل صالح قام به، كأن يقول: اللهم بإيماني بك، واتِّباعي لرسولك، وبِرِّي بِوَالدَي؛ اغفر لي وارحمني، وفَرِّج عني ما أنا فيه، وارزقني الولد، ونحو ذلك.
والدليل على مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة ما ذكره الله في القرآن الكريم من توسل المؤمنين بإيمانهم لِيَقيهم عذاب النار كما في قوله تعالى: ﴿ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار﴾.
ومن الأدلة أيضًا توسُّل الثلاثة الذين انطبق عليهم فم الغار بأعمالهم الصالحة، فتوسل الأول ببره بوالديه، وتوسل الثاني بتعفُّفه عن الزِّنا، وتوسل الثالث بأمانته في المعاملات، فانكشفت عنهم الصخرة فخرجوا، والقصةُ مُخرجةٌ في «الصَّحيحين» عن ابن عمر )رضي الله عنه)([14]).
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (588، 7358)، وحسنه الألباني كما في «الصحيحة» (1211).
([2]) رواه البخاري (3612).
([3]) رواه الترمذي (3499)، والنسائي في «الكبرى» (9856)، وحسنه الألباني.
([4]) رواه الترمذي (593)، وقال الألباني: «حسن صحيح».
([5]) رواه مسلم (479) وغيره عن ابن عباس (رضي الله عنهما، ورواه عبد الله بن أحمد في «زوائده على مسند أبيه» (1/155) عن علي )رضي الله عنه)، وقال محققو «المسند»: «حسن لغيره».
([6]) رواه مسلم (482).
([7]) رواه البيهقي (3/345) عن أنس بن مالك، وخرجه الألباني في «الصحيحة» (1797).
([8]) رواه ابن ماجه (2893)، وحسنه الألباني كما في «الصحيحة» (1820).
([9]) رواه أبو داود (1899)، وابن ماجه (2962)، والبيهقي (5/93) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، زاد ابن ماجه: «وخَدَّيْه»، وحَسَّنه الألباني بالحديث والأثر المذكورَيْنِ بعده، كما في «الصحيحة» (2138).
([10]) رواه أبو داود (1898)، وأحمد (3/431)، والبيهقي (5/92).
([11]) رواه عبد الرزاق (9047)، وصححه الألباني في الإحالة المذكورة آنفًا.
([12]) «مجموع الفتاوى» (26/142).
([13]) رواه أحمد (3/357)، وابن ماجه (3062)، وصححه الألباني.
([14]) رواه البخاري (2215)، ومسلم (2743).
المرفقات
1733385443_مقدمات في الدعاء - 3.doc
1733385444_مقدمات في الدعاء - 3.pdf