مقتل الحسين -رضي الله عنه-
محمد بن إبراهيم النعيم
1438/01/03 - 2016/10/04 03:08AM
خطبة د. محمد بن إبراهيم النعيم - رحمه الله - 11/1/1435هـ
الحسين بن علي بن أبي طالب، ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت محمد، ولد في شعبان سنة أربع من الهجرة، وقتل يوم الجمعة يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين -رضي الله عنه وأرضاه.
أدرك الحسين من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- خمس سنين، وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض، ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان، وكان معظَّماً موقَّراً ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل، وبعد آلت الخلافة إلى أخيه الحسن، تنازل عنها لمعاوية -رضي الله عنه- حقناً لدماء المسلمين مصداقاً لما رواه البخاري.
وعن أبي بكرة قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". ولما أخذت البيعة ليزيد بن معاوية امتنع الحسين من البيعة؛ لأنه كان يرى أن يزيد غير مؤهل للولاية. فخرج من المدينة إلى مكة، ولم يكن على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساويه في الفضل والمنزلة.
ثم صارت ترد إليه الكتب والرسائل من بلاد العراق يدعونه إليهم ليبايعونه للخلافة، فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق ليكشف له حقيقة الأمر، فإن كان متحتماً، وأمراً حازماً محكماً بعث إليه الخبر ليركب في أهله، وذويه إلى العراق.
فلما دخل مسلم الكوفة تسامع أهلها بقدومه، فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفاً ثم تكاثروا فكتب مسلم إلى الحسين ليسرع في القدوم فقد تمت له البيعة، فتجهز الحسين رضي الله عنه خارجاً من مكة قاصداً الكوفة.
فانتشر الخبر فكتب يزيد بن معاوية لأميره على الكوفة ابن زياد بأن يطلب مسلم بن عقيل ويقتله أو ينفيه عن البلد. فسمع مسلم الخبر فركب فرسه، واجتمع معه أربعون ألفا من أهل الكوفة وتوجه إلى قصر ابن زياد وحاصروه، فدخل ابن زياد القصر وأغلق عليه الباب، فأقبل زعماء وأمراء القبائل بترتيب من ابن زياد الذين جمعهم عنده، وأمرهم بتخذيل الناس، فأشرفوا من القصر على عشائرهم، فجعلوا يكلمونهم فبدأ الناس ينصرفون عن ابن عقيل، حتى لم يبق مع ابن عقيل من تلك الآلاف إلا خمسمائة نفس ثم تناقصوا حتى بقي معه ثلاثمائة، ثم تناقصوا حتى بقي معه ثلاثون رجلاً، فصلى بهم المغرب، ثم انصرفوا عنه فلم يبق معه أحد، فذهب على وجهه واختلط عليه الظلام يتردد الطريق لا يدري أين يذهب فأتى بيتا! فخرجت إليه امرأة، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم فأدخلته، ولكنها الخيانة حيث قام ابن المرأة بإخبار ابن زياد عن مكان مسلم. فأرسل سبعين فارساً فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط به، فدخلوا عليه فقام إليهم بالسيف فأخرجهم ثلاث مرات فأعطوه الأمان فسلم نفسه، فالتفت إلى رجل يسمى محمد بن الأشعث، فقال له: إن الحسين خرج اليوم إليكم فابعث إليه على لساني تأمره بالرجوع، ففعل ذلك ابن الأشعت، لكن الحسين لم يصدق ذلك حينما وصله الخبر وهو في الطريق، فأتوا بمسلم بن عقيل فأُدخل على ابن زياد، فأمر بأن تضرب عنقه فأُصعد إلى أعلى القصر وهو يكبر ويهلل، فقام رجل فضرب عنقه وألقى برأسه إلى أسفل القصر وأتبع رأسه بجسده. وكان قتله ي -رضي الله عنه- وم التروية الثامن من ذي الحجة.
خرج الحسين من مكة قاصداً أرض العراق، ولم يكن قد علم بمقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وقبل خروجه استشار ابن عباس، فقال له: لولا أن يزرى بي وبك الناس لشبثت يدي في رأسك، فلم أتركك تذهب. فقال الحسين: لأن أُقتل في مكان كذا وكذا أحب إليَّ من أن أُقتل بمكة.
فلما كان من العشي جاء ابن عباس إلى الحسين مرة أخرى، فقال له يا ابن عم! إني أتصبر ولا أصبر إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غَدْر فلا تغتر بهم، أقم في هذا البلد وإلا فسر إلى اليمن وكن عن الناس في معزل، فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونساءك، فو الله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.
وكان ابن عمر بمكة فبلغه أن الحسين قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليال فقال له: أين تريد؟ قال: العراق، وهذه كتبهم ورسائلهم وبيعتهم، فقال ابن عمر: لا تأتهم، فأبى، فقال له: وإنك بضعة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله ما يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل.
فخرج متوجهاً إليهم في أهل بيته وستون شخصاً من أهل الكوفة، وذلك يوم الاثنين العاشر من ذي الحجة. ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة ولا يعلم بشيء مما وقع من قتل ابن عمه مسلم بن عقيل وغيرها من الأخبار، وكان لا يمر بماء من مياه العرب إلا اتبعوه، فوصل كربلاء، فقال: ما اسم هذه الأرض؟ فقالوا له: كربلاء، فقال: كرب وبلاء، فأقبلت عليهم خيول ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد وكانوا ألف فارس، والحسين وأصحابه معتمون متقلدون سيوفهم، فأمر الحسين أصحابه أن يترووا من الماء ويسقوا خيولهم وأن يسقوا خيول أعدائهم أيضاً.
فلما دخل وقت الظهر أمر الحسين رجلاً فأذن ثم خرج، فخطب الناس من أصحابه وأعدائه واعتذر إليهم مجيئه هذا، ولكن قد كتب له أهل الكوفة أنهم ليس لهم إمام، فقال له الحر: إنا قد أُمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على ابن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى من ذلك، فقال له الحرّ: فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال الحسين: أفبالموت تخوفني؟!
عندها تزاحف الفريقان بعد صلاة العصر، فتقدم عشرون فارساً من جيش ابن زياد، فقالوا لهم: جاء أمر الأمير أن تأتوا على حكمه أو نقاتلكم. فقال أصحاب الحسين: بئس القوم أنتم تريدون قتل ذرية نبيكم وخيار الناس في زمانهم؟ فقال الحسين: ارجعوا لننظر أمرنا الليلة وأوصى أهله تلك الليلة، وخطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه وقال لأصحابه: من أحب أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له، فإن القوم إنما يريدونني، فاذهبوا حتى يفرج الله عز وجل فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا الله فيك ما نكره فقال الحسين: يا بني عقيل حسبكم بمسلم أخيكم، اذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: فما تقول الناس أنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا، لم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف رغبة في الحياة الدنيا , لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.
وهنا يظهر الفرق بين معادن الرجال بين أولئك الغثاء من أهل الكوفة الذين تجمعوا مع مسلم بن عقيل تحمساً وعاطفة فسرعان ما انصرفوا عنه في أول امتحان حقيقي وبين أصحاب الحسين وأقربائه الذين تربوا على المبادئ والقيم فلم يتزحزحوا وثبتوا.
وفي الصباح استقبل القوم رافعاً يديه يدعو ثم أناخ راحلته وأقبلوا يزحفون نحوه، فترامى الناس بالنبل، وكثرت المبارزة يومئذٍ بين الفريقين والنصر في ذلك لأصحاب الحسين لقوة بأسهم وأنهم مستميتون فأرسل أصحاب ابن زياد يطلبون المدد فبعث إليهم ابن زياد نحواً من خمسمائة. ثم اقتتلوا بعدها قتالاً شديداً، فتكاثر القوم حتى يصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحابه ذلك تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فقتل جماعة من أصحابه، حتى بقي الحسين لوحده ومكث نهاراً طويلاً وحده لا يأتي أحدٌ من العدو إليه إلا رجع عنه لا يحب أن يقتله هيبةً من مكانته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- , ثم أحاطوا به فجعل رجل يدعى شمّر يحرضهم على قتله، فرد آخر وما يمنعك أن تقتله أنت؟ فاستبا، فجاء شمّر مع جماعة من أصحابه وأحاطوا به فحرضهم على قتله: اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى، فجاء سنان بن أبي عمرو فطعنه بالرمح فوقع ثم نزل فذبحه وحز رأسه. فأتوا ابن زياد أمير الكوفة برأس الحسين وجعل في طست، فأمر ابن زياد فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر وذكر ما حصل من قتل الحسين.
قال عبد الملك بن عمير: دخلت على ابن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس، فو الله ما لبثت إلا قليلاً حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد وإذا برأس ابن زياد بين يدي المختار على ترس، ومعلوم من التاريخ أن كل من شارك في قتل الحسين سلط الله عليه من يقتله.
ثم أمر برأس الحسين وأرسل إلى يزيد بن معاوية بالشام فلما وضعت بين يديه بكى ودمعت عيناه وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو أني صاحبك ما قتلتك.
وكان مقتله رضي الله عنه يوم الجمعة يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق وله من العمر ثمان وخمسون سنة.
ولنا مع قصة مقتل الحسين -رضي الله عنه- عدة وقفات: أذكرها في الخطبة الثانية بإذن الله، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا بأن واجب على كل مسلم أن يحب الحسن والحسين سبطا رسول الله ومن فعل ذلك أحبه الله، حيث روى أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أن النبي قال: (هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِيَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا) رواه البخاري والترمذي، وأما عن قصة مقتل الحسين فلنا معها خمس وقفات:
أولاً: إن ما حصل بين المسلمين من المعارك والحروب ذلك الزمن إنما هي فتنة، وإن من منهج أهل السنة الإمساك عن الخوض في ذلك. قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فنمسك ألسنتنا عن الخوض في الفتن التي حصلت بين المسلمين، ونكل أمرهم إلى الله، لا سيما أن كتب التاريخ مملوءة بالأخبار المكذوبة وتمحيص الأخبار الصحيحة من الكاذبة فيما يتعلق بالأمور التاريخية أمر صعب وعسير.
ثانيا: إن كل مسلم ينبغي أن يحزنه مقتل أي مسلم فكيف إذا كان من أهل الفضل والمكانة كالحسين وكيف إذا كان من قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولكن لا يجوز إقامة المآتم في يوم قتله أو لطم الخدود أو شق الثياب، فالإسلام نهانا عن تجديد الأحزان وإنما علمنا إذا أصابتنا مصيبة أن نسترجع ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، العجيب من بعض الطوائف أن عليا كان أفضل من الحسين، وقتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر، لكنهم لا يتخذون مقتله مأتماً.
ثالثا: ومن الدروس المستفادة أيضاً ينبغي عدم الاغترار بكثرة المتحمسين الذين يجتمعون سريعاً وينفضون سريعاً الذين ليس لهم مبدأ وإنما تحركهم العاطفة والحماس، فإذا حان وقت الجد بانت حقيقتهم وانكشف معدنهم كما هو حال أهل الكوفة مع الحسين.
رابعاً: من منهج أهل السنة عدم الخروج على الولاة والحكام وإن ظلموا، وليس ذلك من باب الجبن والخوف، ولكن لما يترتب على ذلك من البلايا والمصائب والفوضى والتناحر وإراقة الدماء واختلال الحياة جميعا المعيشية والسياسية والوظيفية والصحية؛ لأنه باختلال الأمن وسقوط الدولة تحصل الفوضى العامة، وتتفتح أبواب الفتن التي تأتي على الأخضر واليابس كما هو مشاهد اليوم بعض الدول العربية، يقول ابن تيمية رحمه الله: "أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم ... لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة ... ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته".
خامسا: أهمية الأخذ برأي العلماء خاصة ممن كبر سنه، وعاصر الأحداث والتجارب وعرف المصالح والمفاسد ووازن بينها لا اتباع صغار السن من الشباب المتحمس الذي قد يجر على البلاد والعباد بأفعاله وتهوره المصائب والكوارث، فأن تكون جباناً سالماً في دينك خير لك من أن تكون شجاعاً تأتي يوم القيامة وعلى عنقك دماء الأبرياء، فلئن تكون ذيلاً في الحق خير من أن تكون رأسا في الباطل.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في أمر ديننا، ويبصرنا بعيوبنا، ويرينا الحق ويرزقنا اتباعه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا--اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت--اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، --اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا --اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا،
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت.
الحسين بن علي بن أبي طالب، ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت محمد، ولد في شعبان سنة أربع من الهجرة، وقتل يوم الجمعة يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين -رضي الله عنه وأرضاه.
أدرك الحسين من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- خمس سنين، وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض، ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان، وكان معظَّماً موقَّراً ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل، وبعد آلت الخلافة إلى أخيه الحسن، تنازل عنها لمعاوية -رضي الله عنه- حقناً لدماء المسلمين مصداقاً لما رواه البخاري.
وعن أبي بكرة قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". ولما أخذت البيعة ليزيد بن معاوية امتنع الحسين من البيعة؛ لأنه كان يرى أن يزيد غير مؤهل للولاية. فخرج من المدينة إلى مكة، ولم يكن على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساويه في الفضل والمنزلة.
ثم صارت ترد إليه الكتب والرسائل من بلاد العراق يدعونه إليهم ليبايعونه للخلافة، فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق ليكشف له حقيقة الأمر، فإن كان متحتماً، وأمراً حازماً محكماً بعث إليه الخبر ليركب في أهله، وذويه إلى العراق.
فلما دخل مسلم الكوفة تسامع أهلها بقدومه، فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفاً ثم تكاثروا فكتب مسلم إلى الحسين ليسرع في القدوم فقد تمت له البيعة، فتجهز الحسين رضي الله عنه خارجاً من مكة قاصداً الكوفة.
فانتشر الخبر فكتب يزيد بن معاوية لأميره على الكوفة ابن زياد بأن يطلب مسلم بن عقيل ويقتله أو ينفيه عن البلد. فسمع مسلم الخبر فركب فرسه، واجتمع معه أربعون ألفا من أهل الكوفة وتوجه إلى قصر ابن زياد وحاصروه، فدخل ابن زياد القصر وأغلق عليه الباب، فأقبل زعماء وأمراء القبائل بترتيب من ابن زياد الذين جمعهم عنده، وأمرهم بتخذيل الناس، فأشرفوا من القصر على عشائرهم، فجعلوا يكلمونهم فبدأ الناس ينصرفون عن ابن عقيل، حتى لم يبق مع ابن عقيل من تلك الآلاف إلا خمسمائة نفس ثم تناقصوا حتى بقي معه ثلاثمائة، ثم تناقصوا حتى بقي معه ثلاثون رجلاً، فصلى بهم المغرب، ثم انصرفوا عنه فلم يبق معه أحد، فذهب على وجهه واختلط عليه الظلام يتردد الطريق لا يدري أين يذهب فأتى بيتا! فخرجت إليه امرأة، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم فأدخلته، ولكنها الخيانة حيث قام ابن المرأة بإخبار ابن زياد عن مكان مسلم. فأرسل سبعين فارساً فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط به، فدخلوا عليه فقام إليهم بالسيف فأخرجهم ثلاث مرات فأعطوه الأمان فسلم نفسه، فالتفت إلى رجل يسمى محمد بن الأشعث، فقال له: إن الحسين خرج اليوم إليكم فابعث إليه على لساني تأمره بالرجوع، ففعل ذلك ابن الأشعت، لكن الحسين لم يصدق ذلك حينما وصله الخبر وهو في الطريق، فأتوا بمسلم بن عقيل فأُدخل على ابن زياد، فأمر بأن تضرب عنقه فأُصعد إلى أعلى القصر وهو يكبر ويهلل، فقام رجل فضرب عنقه وألقى برأسه إلى أسفل القصر وأتبع رأسه بجسده. وكان قتله ي -رضي الله عنه- وم التروية الثامن من ذي الحجة.
خرج الحسين من مكة قاصداً أرض العراق، ولم يكن قد علم بمقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وقبل خروجه استشار ابن عباس، فقال له: لولا أن يزرى بي وبك الناس لشبثت يدي في رأسك، فلم أتركك تذهب. فقال الحسين: لأن أُقتل في مكان كذا وكذا أحب إليَّ من أن أُقتل بمكة.
فلما كان من العشي جاء ابن عباس إلى الحسين مرة أخرى، فقال له يا ابن عم! إني أتصبر ولا أصبر إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غَدْر فلا تغتر بهم، أقم في هذا البلد وإلا فسر إلى اليمن وكن عن الناس في معزل، فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونساءك، فو الله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.
وكان ابن عمر بمكة فبلغه أن الحسين قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليال فقال له: أين تريد؟ قال: العراق، وهذه كتبهم ورسائلهم وبيعتهم، فقال ابن عمر: لا تأتهم، فأبى، فقال له: وإنك بضعة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله ما يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل.
فخرج متوجهاً إليهم في أهل بيته وستون شخصاً من أهل الكوفة، وذلك يوم الاثنين العاشر من ذي الحجة. ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة ولا يعلم بشيء مما وقع من قتل ابن عمه مسلم بن عقيل وغيرها من الأخبار، وكان لا يمر بماء من مياه العرب إلا اتبعوه، فوصل كربلاء، فقال: ما اسم هذه الأرض؟ فقالوا له: كربلاء، فقال: كرب وبلاء، فأقبلت عليهم خيول ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد وكانوا ألف فارس، والحسين وأصحابه معتمون متقلدون سيوفهم، فأمر الحسين أصحابه أن يترووا من الماء ويسقوا خيولهم وأن يسقوا خيول أعدائهم أيضاً.
فلما دخل وقت الظهر أمر الحسين رجلاً فأذن ثم خرج، فخطب الناس من أصحابه وأعدائه واعتذر إليهم مجيئه هذا، ولكن قد كتب له أهل الكوفة أنهم ليس لهم إمام، فقال له الحر: إنا قد أُمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على ابن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى من ذلك، فقال له الحرّ: فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال الحسين: أفبالموت تخوفني؟!
عندها تزاحف الفريقان بعد صلاة العصر، فتقدم عشرون فارساً من جيش ابن زياد، فقالوا لهم: جاء أمر الأمير أن تأتوا على حكمه أو نقاتلكم. فقال أصحاب الحسين: بئس القوم أنتم تريدون قتل ذرية نبيكم وخيار الناس في زمانهم؟ فقال الحسين: ارجعوا لننظر أمرنا الليلة وأوصى أهله تلك الليلة، وخطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه وقال لأصحابه: من أحب أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له، فإن القوم إنما يريدونني، فاذهبوا حتى يفرج الله عز وجل فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا الله فيك ما نكره فقال الحسين: يا بني عقيل حسبكم بمسلم أخيكم، اذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: فما تقول الناس أنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا، لم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف رغبة في الحياة الدنيا , لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.
وهنا يظهر الفرق بين معادن الرجال بين أولئك الغثاء من أهل الكوفة الذين تجمعوا مع مسلم بن عقيل تحمساً وعاطفة فسرعان ما انصرفوا عنه في أول امتحان حقيقي وبين أصحاب الحسين وأقربائه الذين تربوا على المبادئ والقيم فلم يتزحزحوا وثبتوا.
وفي الصباح استقبل القوم رافعاً يديه يدعو ثم أناخ راحلته وأقبلوا يزحفون نحوه، فترامى الناس بالنبل، وكثرت المبارزة يومئذٍ بين الفريقين والنصر في ذلك لأصحاب الحسين لقوة بأسهم وأنهم مستميتون فأرسل أصحاب ابن زياد يطلبون المدد فبعث إليهم ابن زياد نحواً من خمسمائة. ثم اقتتلوا بعدها قتالاً شديداً، فتكاثر القوم حتى يصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحابه ذلك تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فقتل جماعة من أصحابه، حتى بقي الحسين لوحده ومكث نهاراً طويلاً وحده لا يأتي أحدٌ من العدو إليه إلا رجع عنه لا يحب أن يقتله هيبةً من مكانته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- , ثم أحاطوا به فجعل رجل يدعى شمّر يحرضهم على قتله، فرد آخر وما يمنعك أن تقتله أنت؟ فاستبا، فجاء شمّر مع جماعة من أصحابه وأحاطوا به فحرضهم على قتله: اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى، فجاء سنان بن أبي عمرو فطعنه بالرمح فوقع ثم نزل فذبحه وحز رأسه. فأتوا ابن زياد أمير الكوفة برأس الحسين وجعل في طست، فأمر ابن زياد فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر وذكر ما حصل من قتل الحسين.
قال عبد الملك بن عمير: دخلت على ابن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس، فو الله ما لبثت إلا قليلاً حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد وإذا برأس ابن زياد بين يدي المختار على ترس، ومعلوم من التاريخ أن كل من شارك في قتل الحسين سلط الله عليه من يقتله.
ثم أمر برأس الحسين وأرسل إلى يزيد بن معاوية بالشام فلما وضعت بين يديه بكى ودمعت عيناه وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو أني صاحبك ما قتلتك.
وكان مقتله رضي الله عنه يوم الجمعة يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق وله من العمر ثمان وخمسون سنة.
ولنا مع قصة مقتل الحسين -رضي الله عنه- عدة وقفات: أذكرها في الخطبة الثانية بإذن الله، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا بأن واجب على كل مسلم أن يحب الحسن والحسين سبطا رسول الله ومن فعل ذلك أحبه الله، حيث روى أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أن النبي قال: (هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِيَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا) رواه البخاري والترمذي، وأما عن قصة مقتل الحسين فلنا معها خمس وقفات:
أولاً: إن ما حصل بين المسلمين من المعارك والحروب ذلك الزمن إنما هي فتنة، وإن من منهج أهل السنة الإمساك عن الخوض في ذلك. قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فنمسك ألسنتنا عن الخوض في الفتن التي حصلت بين المسلمين، ونكل أمرهم إلى الله، لا سيما أن كتب التاريخ مملوءة بالأخبار المكذوبة وتمحيص الأخبار الصحيحة من الكاذبة فيما يتعلق بالأمور التاريخية أمر صعب وعسير.
ثانيا: إن كل مسلم ينبغي أن يحزنه مقتل أي مسلم فكيف إذا كان من أهل الفضل والمكانة كالحسين وكيف إذا كان من قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولكن لا يجوز إقامة المآتم في يوم قتله أو لطم الخدود أو شق الثياب، فالإسلام نهانا عن تجديد الأحزان وإنما علمنا إذا أصابتنا مصيبة أن نسترجع ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، العجيب من بعض الطوائف أن عليا كان أفضل من الحسين، وقتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر، لكنهم لا يتخذون مقتله مأتماً.
ثالثا: ومن الدروس المستفادة أيضاً ينبغي عدم الاغترار بكثرة المتحمسين الذين يجتمعون سريعاً وينفضون سريعاً الذين ليس لهم مبدأ وإنما تحركهم العاطفة والحماس، فإذا حان وقت الجد بانت حقيقتهم وانكشف معدنهم كما هو حال أهل الكوفة مع الحسين.
رابعاً: من منهج أهل السنة عدم الخروج على الولاة والحكام وإن ظلموا، وليس ذلك من باب الجبن والخوف، ولكن لما يترتب على ذلك من البلايا والمصائب والفوضى والتناحر وإراقة الدماء واختلال الحياة جميعا المعيشية والسياسية والوظيفية والصحية؛ لأنه باختلال الأمن وسقوط الدولة تحصل الفوضى العامة، وتتفتح أبواب الفتن التي تأتي على الأخضر واليابس كما هو مشاهد اليوم بعض الدول العربية، يقول ابن تيمية رحمه الله: "أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم ... لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة ... ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته".
خامسا: أهمية الأخذ برأي العلماء خاصة ممن كبر سنه، وعاصر الأحداث والتجارب وعرف المصالح والمفاسد ووازن بينها لا اتباع صغار السن من الشباب المتحمس الذي قد يجر على البلاد والعباد بأفعاله وتهوره المصائب والكوارث، فأن تكون جباناً سالماً في دينك خير لك من أن تكون شجاعاً تأتي يوم القيامة وعلى عنقك دماء الأبرياء، فلئن تكون ذيلاً في الحق خير من أن تكون رأسا في الباطل.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في أمر ديننا، ويبصرنا بعيوبنا، ويرينا الحق ويرزقنا اتباعه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا--اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت--اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، --اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا --اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا،
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت.