مقتطفات من سيرة خالد بن الوليد ج1

ياسر دحيم
1437/03/11 - 2015/12/22 20:52PM
الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي بعث نبيه محمداً في خير القرون، واختار له من الأصحاب أكمل الناس عقولاً, وأقومهم ديناً, وأغزرهم علماً, وأشجعهم قلوباً، قوماً جاهدوا في الله حق جهاده فأقام الله بهم الدين, وأظهرهم على المشركين, اللهم صلى على نبيك وآله وأصحابه, والتابعين.
عباد الله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} واعلموا أن الدنيا زائلة راحلة, فلا تركنوا إليها ولا إلى شهواتها, واتخذوها ممراً لكم إلى الآخرة.

لا تركننّ إلى القصور الفاخرة *** واذكر عظامك حين تمسي ناخِرة
وإذا رأيت زخارف الدنيا فقل *** يا رب إنّ العيشَ عيشُ الآخرة

أيها المؤمنون: حديثنا اليوم عن عظيم من عظماء الإسلام، وفارس من فرسان الميدان، وبطل من أبطال الصحب الكرام, إنه أحد رجالات التاريخ الذين ضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة والبطولة والإقدام, لم يشارك في معركة في جاهلية ولا في إسلام إلا انتصر فيها! فكان بحق أعجوبةً من أعاجيب الزمان, إنه أسد الإسلام ومهندس انتصارات المؤمنين, حديثنا عن أبي سليمان وما أدراك من أبوسليمان؟! إنه سيف الله خالدُ بن الوليد.

نشأ خالد في بيئة غنية مترَفة، فأبوه أغنى رجل في قريش، أبوه هو الوليد بن المغيرة, فياللعجب أن يُخرج الله سبحانه وتعالى هذا البطل المجاهد من صلب ذلك الرجل الكافر الفاجر فسبحان من (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ). وبالرغم من بيئة الترف الذي عاش فيها خالد إلا أنه تربى على الرجولة والفروسية والخشونة والبطولة، فكان يركب فرسه ليشق به الوديان ويصعد به الجبال حتى صار فارساً من فرسان قريش بل من فرسان العرب, وقد ورث الكرهَ الشديد للإسلام عن أبيه الوليد بن المغيرة, فكان خالد هو قائد الميمنة في غزوة أحد, وهو الذى باغت الرماة الذين خالفوا أمر رسول الله وتشتت الجمع وتحول نصر المسلمين إلى هزيمة.

لكن الله تعالى أراد له الخير, فأسلم رضي الله في السنة الثامنة للهجرة قبل فتح مكة بستة أشهر, وخرج مهاجراً إلى المدينة، فسُرَّ المسلمون وفرحوا به فرحاً شديداً، وفرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه حين رآه هشَّ في وجهه وقال: (الحمد لله الذي هداك؛ قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير). وتحول عَداءُ خالد للإسلام إلى شدة بأس على أعداء الله.
عباد الله: وبعد ثلاثة أشهر فقط من إسلامه يخرج أبوسليمان جندياً في كتائب التوحيد والإيمان إلى بلاد الشام في غزوة مؤتة, وأمر سيد البشرية الجيش أن يذهب إلى هناك ليؤدب الروم الذين يهددون دولة الإسلام، فأمِّر النبي على الجيش زيد بن حارثة. ثم قال: "إن قتل زيد فجعفر بن أبى طالب, فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة".

وحينما وصل الجيش الذى لا يزيد عددُه على ثلاثة آلاف مقاتل إلى أرض المعركة, وجد نفسه أمام جيش جرار كبير يزيد على مائة ألف مقاتل, فتردد الصحابة في القتال.
فقال عبد الله بن رواحة: يا قوم إن التي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون؛ إنها الشهادة, وما نقاتل عدونا بعتاد وعدد، وإنما نقاتل عدونا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنها إحدى الحسنيين إما نصر وإما شهادة.
فدارت معركة رهيبة وتتابع سقوط الشهداء، قتل القائد الأول زيد بن حارثة، ثم جعفر، ثم عبد الله بن رواحة وسقط اللواء فأسرع صحابي اسمه ثابت بن أقرم فالتقط اللواء, وظل ينادى: يا أبا سليمان يا أبا سليمان! خذ اللواء, فأجابه: لا. أنت أحق بها منى يا ثابت أنت أقدم إسلاماً، وقد شهدت بدراً مع رسول الله. لكن ثابتا رفض ثم نادى في الجيش الإسلامي: أتقبلون إمرةَ خالد بن الوليد، فهتف المسلمون جميعاً: نعم لقد رضينا، فالتقط اللواء خالد واستلم القيادة في ظرفٍ صعب وخطير.

لقد تولى خالد إمرة الجيش بعدما تحدد مصير المعركة لقد قُتل القادةُ الثلاثة, وبدا جلياً أن المعركة قد حسمت, وما بقي إلا أن يباد جش المسلمين كله, والمؤمل الآن أن تتوقف خسائر المسلمين، وأن يؤمن انسحابٌ لأفراد الجيش للمحافظة على باقي الجند وهذا قمة النصر, لكن كيف يكون ذلك؟! والمعركة غير متكافئة!!.

نظر خالدٌ نظرةً فاحصة إلى أرض الميدان, وعاد ليغير الموقف بأكمله؛ فجعل ميمنة الجيش في الميسرة وجعل الميسرة في الميمنة, وجعل المقدمة في المؤخرة وقدم الساقة أي: المؤخرة إلى المقدمة، وغير الأعلام وأمر طائفةً أخرى من الجيش أن تتأخر, فإذا بزغ الصباح أمرها أن تثير غباراً وتراباً، ليتصاعد الغبار إلى عنان السماء وأمرهم أن يحدثوا صياحاً وضجيجاً, فلما بدأت المعركة في الصباح رأى الروم وجوهاً غير الوجوه, وأعلاماً غير الأعلام, ورأوا غباراً ملأ السماء فظنوا أن جيشاً ومدداً جديداً قد أتى من المدينة, فقذف الله الرعب في قلوبهم, فضعفت معنوياتهم, واستطاع خالدُ بن الوليد أن يفتح ثغرةً وسط هذه الكتلة الهائلة من جيش الروم. وقد تحطم في يده تسعةُ أسياف في هذه المعركة.
واستطاع هذا العملاق بعبقريته أن يفتح ثغرة في قلب جيش الروم، وأن يؤمن انسحاباً للمسلمين, بعد أن أوهم قادة الروم أنه قد أعدَّ لهم كميناً, وأن انسحابه من أرض المعركة خدعة, لذلك تراجعوا عن مطاردة جيش المسلمين؛ خوفاً من خدعةٍ أو كمين جُهز لهم أوهمهم به خالد, وبفضل الله تعالى نجا الجيش من هلاك محقق.

وفي مدينة رسول الله ينقل المصطفى لأصحابه تفاصيل ما يدور على أرض مؤتة, وعيناه تذرفان, قال: "أخذ الراية زيد فأصيب, وأخذها جعفر فأصيب, وأخذها عبد الله بن رواحة فأصيب, ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم" فيا لها من منقبةٍ عظيمة, ويا له من وسامٍ عسكريٍ رفيع؛ يعلقه المصطفي بيده الشريفة الطاهرة على كتف خالدِ بن الوليد, نعم؛ ثم أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله.

وعاد خالد من أرض الشام بهذا الشرف العظيم, وهذا اللقب الكريم, وبعد أشهر قليلة يخرج النبي قائداً للمسلمين لفتح مكة؛ ليجعل النبيُ خالدَ بن الوليد قائداً للميمنة في جيش التوحيد بقيادة أعظم رجلٍ عرفه التاريخ , وقد شرف الله خالداً بأن جعل نهاية صنمِ العُزى على يديه, مشى خالد إلى العزى، فكسر أنفها بالفأس، ثم أتى عليها بالفأس فقال:

يا عُزَّ كُفرانَكِ لا سُبْحَانَكِ ** إني رأيتُ الله قد أهانَكِ

وتوفى الحبيب ويتولى الخلافة أبو بكر, فيرتدُّ أقوامٌ من العرب, في أماكن متفرقة، ويرسل الصديق الجيوش لقتال المرتدين, وحينما أعطى اللواء لكل قائد أتجه نحو خالدٍ وقال له: يا خالد إني سمعت رسول الله يقول: "نِعَمَ عبدُ الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد, سيف من سيوف الله سله الله على المشركين المنافقين".

وبدأت معارك الردة وانطلق خالد من نصر إلى نصر, ومن عزة إلى عزة, حتى اشتعلت (معركة اليمامة), واستطاع مسيلمة الكذاب أن يهزم عكرمة بن أبى جهل وهو أحد قادة المسلمين, فأصدر خليفةُ المسلمين الأوامر لخالد بن الوليد أن يتجه مسرعاً لقتال مسيلمة، وهنالك جمع خالد بن الوليد الجيوش، وتولى القيادة العامة والتقى مع مسيلمة في معركة فاصلة حاسمة هي (معركة اليمامة)، ودار قتال شديد وتساقط كثير من حفظة القرآن شهداء, ففكر أبوسليمان ماذا يفعل؟! وهنا خطرت بباله فكرة, فقد أعاد ترتيب صفوف الجيش ونادى بأعلى صوته: "أَيُّهَا النَّاسُ امْتَازُوا لِنَعْلَمَ بَلاءَ كُلِّ حَيٍّ وَلِنَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ نُؤْتَى" فَامْتَازَ أَهْلُ الْقُرَى وَالْبَوَادِي، وَامْتَازَتِ الْقَبَائِلُ, فَوَقَفت ٍ كل قبيلة عَلَى رَايَتِهِا" عبقريةٌ وذكاءٌ نادرين, يريد أن يكشفهم أمام أنفسهم وأمام إخوانهم؛ ليظهر كلُ قائد وكلُ جندي أقصى ما يملكه لدين الله, وكلُ قبيلة لا تريد أن تُفضحَ بأنها ضعيفة, لذلك قاتلت تحت رايتها قتالاً شديداً, سرعان ما تساقط جندُ مسيلمةَ بالمئات, وحسمت المعركة وانهزم جند الباطل.
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }.

أقول ما تسمعون أستغفر الله

الخطبة الثانية:

الحمد لله

ولم يسترحْ أبوسليمان, وما كان لعشاق الجهاد أن يستريح, وهو القائل: "ما من ليلة يُهدى إلى فيها عروس أنا لها محِب, أو أُبشَّر بغلام هي أحب إليّ من ليلة شديدةِ البرد شديدةِ المطر, في صبيحةٍ أصبِّح فيها أعداء الله" .

أصدر الخليفة أبو بكر أوامره لقائده العسكري أن ينطلق بعد حروب الردة انطلاقة أخرى أكبر من سابقاتها, لكن إلى أين؟ إلى أعظم إمبراطورية في الشرق إنها إمبراطورية الفرس, بقيادة هرمز البطل المغوار, انطلق سيف الله إلى معاركه الجديدة, وبدأ أولاً بإرسال الرسائل لقادة الألوية الكسروية, فماذا قال خالد؟ اسمع وتدبر أيها المؤمن رسالةَ خالد بن الوليد لقادة كتائب الفرس: "بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مَرازِبة فارس, سلام على من اتبع الهدى وبعد, فالحمد لله الذى فض وسلب مُلْكَكم، ووهن كيدكم، من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا؛ فذلكم المسلم له ما لنا وعليه ما علينا، فإما أن تُسْلِموا وإما الجزية، وإما الحرب وإلا فوالله لقد جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون الحياة"

ودب الرعب في قلوب قادة الفرس وقد سمعوا باسم خالد بن الوليد وأنه قائد لا يهزم, استطاع أبوسليمان بفضل الله تعالى وفي عام واحد فقط أن ينجزَ ما عجزت جيوشُ الرومان أن ينجزوه مع الفرس في أجيال, نعم؛ في عام واحد استطاع أن ينجز ما عجز الرومان أن ينجزوه مع الفرس في أجيال, فلقد دخل خالد مع الفرس خمس عشرة معركة, لم يهزم في معركة واحدة, وكان من أخطر هذه المعارك معركة ذات السلاسل, وسميت بذلك لأن الفرس كانوا يقيدون أنفسهم بالسلاسل لئلا يفروا من الميدان تحت ضربات خالد الساحقة, فجعلوها معركة حياة أو موت!!.
وانتهت المعركة بنصر كبير للجيش الإسلامي وبهزيمة منكَرة لجيوش كسرى, وقُتل قائدُهم هرمز بعد مبارزة شديدة مع خالد الذي قضى عليه.

وياللعجب!! في هذا التوقيت الذى أُمر فيه خالد بن الوليد أن ينطلق إلى الإمبراطورية الفارسية كان الخليفة الراشد أبا بكر قد أعد جيوشاً أخرى تتجه إلى بلاد الشام لقتال الروم.

فانظروا إلى الرجال الذين ما عاشوا من أجل الكراسي الزائلة, والمناصب الفانية, بل عاشوا من أجل الله ودين الله. يرسل جيوشاً أخرى في الوقت ذاته لقتال الروم ولأن عدد الرومِ كان كبيراً جداً, استغاث المسلمون في الشام بالخليفة ليرسل لهم مدداً, خاصةً بعد أن توعد إمبراطور الروم المسلمين قائلاً: " لأُشغلنَّ أبا بكر عن أن يورد بعد ذلك خيلَه إلى أرضنا" وجهز جيشاً رومياً يزيد على مائتين وأربعين ألفاً, قرابة ربع مليون في مقابل جيش مسلم قليل العدد والعتاد. ولما بلغ أبا بكر ما قال زعيم الروم، رد بقوله: "والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد". فأصدر الخليفة أوامره إلى أبي سليمان بأن يترك العراق وينطلق مسرعاً إلى بلاد الشام، ليتولى قيادة الجيش مكان أبى عبيدة عامر بن الجراح.

هنا نتوقف لننطلق في الجمعة القادمة –إن شاء الله- مع سيف الله إلى بلاد الشام نقلب صفحات التاريخ عن عبقرية خالد وشدة بأسه وتواضعه وجهاده, اللهم ارض عن خالد، واجمعنا به في دار كرامتك وارض اللهم عن أصحاب رسول الله الذي أكرمتهم بصحبة نبيك وأكرمتنا بمحبتهم.

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
المشاهدات 1340 | التعليقات 0