مفتاح دار السلام

الخطبة الأولى:(8/4/1438هـ)كلمة التوحيد
أيها المسلمون:حديثنا اليوم عن كلمة الإسلام،ومفتاح دار السلام، كلمة التقوى والإخلاص،والعهد والأساس،والمفتاح الذي يُدخَل به في الدين، وبها تكون النجاة من الكفر والنار،من قالها عُصِم دمه وماله،وحسابه على الله تعالى،كلمة التوحيد الجليلة.
على هذه الكلمة بنى الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته وربَّى أمته ،وأنشأ جيلاً موحِّداً يعبد الله تعالى حقَّ العبادة،ويتبرَّأ من كلِّ شريكٍ مزعوم ووثنٍ معبود.ولقد كان الجاهليون قبل البَعثة في ضلال وجهل عميق،يتخبَّطون في فوضى التديُّن،وأوحال الخرافة، اتخذوا لأنفسهم معبودات مزيفة،وأصناماً هامدةً من حجر وطين، وتمر وعجين، يقصدونها في الرخاء،وينبذونها في الشدَّة،يتوجَّه إليها عابدها،حتى إذا جاع أكلها!وإذا ادلهمَّ به خَطْبٌ أو أصابه ضرٌّ،لم يَرَ إلا سراباً لامعاً، وتراباً هامداً؛﴿ واتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً﴾ فصدع رسول الله بكلمة التوحيد الخالص ولم يزل على ذلك حتى اقتلع جذور الوثنية من نفوس القوم.
بل لقد جاء القرآن كله لبيان معنى شهادة التوحيد،وما تقتضيه،وما يناقضها.فالقرآن كله حديثٌ عن التوحيد،وبيان حقيقته والدعوة إليه، وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه.
حديثٌ عن جزاء أهله وكرامتهم على ربِّهم،كما أنه حديثٌ عن ضدِّه من الشرك بالله وبيان حال أهله وسوء منقلبهم في الدنيا،وعذاب الهون في الأخرى؛(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ)(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ). والأوامر والنواهي ولزوم الطاعات وترك المحرمات هي حقوق التوحيد ومكملاته.
القرآن العظيم يخاطب الكفار بالتوحيد ليعرفوه ويؤمنوا به ويعتنقوه ؛(يَـاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
(فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِله ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ).وكل نبي يقول لقومه:(يَـاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَه غَيْرُهُ).(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ).
ويُخاطَب به المؤمنون ليزدادوا إيماناً،وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم ،وليحذروا النقص فيه أو الخلل؛(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَـابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَـابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ) .ومن صفات عباد الرحمن:(وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِله ءاخَرَ).
ومن نعوت أهل الإيمان الموعودين بالتمكين في الأرض:(يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً).
بل لقد خاطب الله أنبياءه ورسله بنبذ الشرك والبراءة من أهله والإعراض عنه وعنهم فقال عز وتبارك:(وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)وقال عز وجل:(وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) وقال سبحانه:(وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشَّـاكِرِينَ)(قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مآب)(وَادْعُ إِلَى رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).
قال أهل العلم رحمهم الله تعليقاً على هذه الآيات وأمثالها: فإذا كان يُنهى عن الشرك من لا يمكن أن يباشره فكيف بمن عداه؟ ولقد قال إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام: (وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ). قال إبراهيم التيمي:ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟؟.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ليس للقلوب سرور ولا لذة تامة، إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة "لا إله إلا الله"، وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء والمرسلين، صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين".هذا بعض خبر القرآن.
أما السنة ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي:"يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟!وما حق العباد على الله؟!".قلت:الله ورسوله أعلم.قال صلى الله عليه وسلم:"حق الله على العباد:أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا،وحق العباد على الله:أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا".قلت:يا رسول الله أَفلا أُبشر الناس؟!قال:"لا تبشرهم فيتكلوا".
وعند البخاري:"لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا نَحْوَ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ:‏إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ،فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوْهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى"وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،قَالَ:«بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ،عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللهُ،وَإِقَامِ الصَّلَاةِ،وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ،وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ»رواه مسلم.
وللترمذي أيضًا وحسنه وصححه الذهبي:"يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة؛فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر،ثم يقال: أتنكر من هذا شيئًا؟فيقول: لا يا رب، فيقال ألك عذر أو حسنة؟فيهاب الرجل فيقول:لا يا رب،فيقال:بلى إن لك عندنا حسنة،وإنه لا ظُلم عليك،فيخرج له بطاقة فيها:أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله،فيقول:يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟فيقال:إنك لا تُظلم؛فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة،فطاشت السجلات وثقلت البطاقة"قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ليس كل من تكلم بالشهادتين كان بهذه المثابة،لأن هذا العبد صاحب البطاقة كان في قلبه من التوحيد واليقين والإخلاص ما أوجب أن عظم قدره؛حتى صار راجحًا على هذه السيئات".
بارك الله لي ولكم،،،،،،
الخطبة الثانية:
أما بعد:فأهل لا إله إلا الله لا يصرفون شيئاً من العبادة والتدين لغير الله جل وعلا،فهم لا يسألون إلا الله، ولا يدعون إلا إياه،ولا يتوكلون إلا عليه،ولا يرجون غيره،ولا يذبحون ولا ينذرون إلا له،ولا يرجون كشف ضر ولا جلب نفع إلا منه وحده،لاعبادةَ لأصنامٍ وأضرحـةٍ وأشجـارٍ،ولا طـوافَ بقبورِ أوليـاءٍ أوْ مزاراتٍ،ولا طاعـةَ لمخـلوقٍ كائنًا منْ كانَ في معـصيةِ الخـالقِ.يقول جل وعلا( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
وعلى قدرِ تحقيقِ التوحيدِ يكونُ كمالُ العبدِ وسُمُوُّ مكانتِهِ،قال الإمام محمد بن عبدالوهاب "باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب"قال عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ :"تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي.
وقال الإمام ابن باز رحمه:"وتحقيق التوحيد عزيز في الأمة لا يوجد إلا في أهل الإيمان الخلص الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خَلْقه كما قال تعالى في يوسف (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)وهم في صدر هذه الأمة كثيرون وفي آخرها هم الغرباء،وقد قلوا،وهم الأعظمون قدراً عند الله.
والله يُدافِعُ عنِ المُوحِّدِ في دينِهِ ودُنياهِ،﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾وأرجَى منْ يحظَى بمغفرةِ اللهِ هوَ المُوحِّدُ.قالَ-عليهِ الصلاةُ والسلامُ-:«قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي،يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ،وَلَا أُبَالِي،يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»رواهُ الترمذيُّ وصححه الألباني .
فالتوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب ولو كانت قراب الأرض- أي ملء الأرض-.
قالَ ابنُ رجبٍ- رحمهُ اللهُ-: "فالتوحيدُ هوَ السببُ الأعظمُ؛ فمنْ فقدَهُ فقَدَ المغفرةَ، ومنْ جاءَ بهِ فقدْ أتَى بأعظمِ أسبابِ المغفِرةِ".
وقال ابن القيم:"كلما كان توحيدُ العبدِ أعظمَ كانت مغفرةُ الله له أتمَّ؛فمن لقِيَه لا يُشرِكُ به شيئًا البتَّة غفرَ له ذنوبَه كلَّها".
والمُوحِّدُ عليهِ في الحياةِ الدنيا السَّكينةُ والطُّمأنينةُ،وآمِنٌ فيها بقدر إيمانِهِ:﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ وإذا دنَتْ وفاةُ المُوحِّدِ بشَّرهُ اللهُ بالجنَّةِ،قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ:«مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.
وكما أعزَّ اللهُ المُوحِّدَ في الدنيا،فقدْ أكرمَهُ اللهُ في الآخرةِ وأعلَى مكانتَهُ،وجازَاهُ بخيرِ جزاءِ العامِلينَ؛ فمنْ ماتَ على التوحيدِ كانتْ لهُ الجنةُ إما ابتِداءً أوْ مآلًا، وإنْ دخلَ النارَ بذنُوبِهِ لمْ يُخلَّدُ فيها، قالَ- عليهِ الصلاةُ والسلامُ-: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ»رواه مسلم.
وقال لأبي هريرة:"اذهب بنعلتي هاتين فمن رأيته وراء هذا الحائط يشهد ألا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة "رواه مسلم.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صادقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار".
ثم صلوا،،،
المشاهدات 1521 | التعليقات 0