مفاتيح السياسة الشرعية لأبي عمر السكران
أبو عبد الرحمن
1433/01/05 - 2011/11/30 18:36PM
مفاتيح السياسة الشرعية
-مدخل:
الحمدلله وبعد،،
أثيرت في الأيام الماضية في الساحة الفكرية المحلية إشكالية العلاقة بين (سيادة الشعب) و (سيادة الشريعة)، وشارك فيها أطياف متعددة من خلفيات فكرية متنوعة، تنويرية وقومية وليبرالية، والحقيقة أنني هممت بالكتابة حول هذه الإشكالية وتاريخها وعلاقتها بقواعد السياسة الشرعية، إلا أنني حين بدأت بالكتابة فعلاً؛ بدأ يقاطعني السؤال المتكرر الذي صرت أسمعه من عدد من القراء الكرام، وهو قولهم:
(إذا كنتم تنتقدون الديمقراطية وسيادة الشعب والحريات الليبرالية فما هو البديل السياسي الذي سيقدمه الإسلاميون إذن؟ ما الذي تريدون بالضبط؟).
صرت أتعرض لِلكمات هذا السؤال في كل مرةٍ أستعرض فيها الموقف الشرعي النقدي تجاه المفاهيم السياسية الغربية.
كنت سابقاً أجيب القارئ الكريم بكل اختصار أننا نطمح إلى (السياسة الشرعية) فيعاودني السؤال مرة أخرى (وماذا تقصدون بالسياسة الشرعية ؟)
وهكذا صرت محاصراً بهذا السؤال في كل مرةٍ أحاول فيها المشاركة بنقد المفاهيم السياسية الغربية.
ولذلك تفاجأت بنفسي هاهنا مضطراً لتقديم تلخيصٍ مكثف لمفهوم (السياسة الشرعية) الذي يتطلع إليه الإسلاميون، على شكل مفاتيح، وبعدما أنتهي من عرض هذه المعالم العامة، والتخلص -ولو نسبياً- من ضغط سؤال (وما هي السياسة الشرعية التي تطالبون بها؟) سأعود -بإذن الله- بعد عدة أيام وسأطرح ورقة أخرى نتناقش فيها سوياً حول مفهوم (سيادة الشعب) وتطوره التاريخي وصولاً إلى الفكر السياسي العربي المعاصر، ولننتقل الآن إلى بعض مفاتيح السياسة الشرعية:
-الدائرة المنصوصة والدائرة المفوضة:
تنقسم السياسة الشرعية إلى مجالين أو دائرتين: دائرة (السياسة المنصوصة)، ودائرة (السياسة المفوضة للأمة)، سنبدأ هاهنا في استعراض السياسة المنصوصة ثم نستعرض السياسة المفوضة للأمة.
-الإمامة والولاية عقد سياسي شرعي:
الأصل الأعظم الذي ترد إليه مسائل السياسة الشرعية كلها، وهو مدار السياسة الشرعية حقاً، هو (التكييف الفقهي للولاية والإمامة)، وخلاصة هذا التكييف أن الإمامة والولاية والبيعة (عقد سياسي شرعي)، وهذا التكييف تواطأ عليه فقهاء المسلمين، وقد نص على ذلك الماوردي في موضعين من كتابه حيث قال (الإمامة عقد)[الأحكام السلطانية:28،30].
ولما تحدث الإمام ابن تيمية عن أمثلة العقود قال (شروط البيوع، والهبات، والوقوف، والنذور؛ وعقود البيعة للأئمة)[الفتاوى، 35/98]. فاعتبر رحمه الله الإمامة "عقداً"، ونقل هذا التكييف -أيضاً- القرافي في الذخيرة (10/27) والقلقشندي في مآثر الإنافة (1/48).
ولذلك استعير للعقد السياسي لفظ (البيعة) كما استعير للعقود التجارية لفظ (البيع)، لأنها كلها عقود يمد فيها أحد المتعاقدين باعه للآخر، كما قال الله (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ)[الفتح، 10] .
وتجد الفقهاء في كتبهم يسمونه عقد فيقولون (عقد الإمامة) و (عقد الولاية) ونحوها، ويستعملون في معالجة مسائله ألفاظ العقود نفسها فيقولون (تنعقد الإمامة بكذا، ولا تنعقد بكذ) الخ، كما يستعملون في زوال عقد الإمامة ذات المصطلحات التي يستعملونها في ألفاظ العقود الأخرى كالفسخ والإقالة، ونحوها، كما قال ابوبكر ( أقيلوني، أقيلوني)، وكما بوّب البخاري في صحيحه قائلاً (باب من بايع ثم استقال البيعة)، فلاحظ كيف استعمل مصطلح (الإقالة) المستعمل في بقية العقود الشرعية، بل إن الفقهاء استعملوا لمن يعقد البيعة ويحلها مصطلحاً مسبوكاً من لفظ العقود نفسها فسموهم ( أهل الحل والعقد) أي الذين يحلون ويعقدون العقد.
وهذا التكييف للإمامة والولاية والبيعة بأنها "عقد" هو تكييف عظيم له آثار جوهرية بليغة، فمعنى كونه عقداً أنه يجري فيه ما يجري في العقود الشرعية، من أركان كالعاقدين والصيغة، والشروط بقسميها: الشروط الشرعية (المشترطة من أصل الشرع) والشروط الجعلية (التي يضيفها العاقدون).
فأما (الشروط الشرعية) التي اشترطها الشارع ذاته فمثل الإسلام والعدالة والعقل والرشد ونحوها. وأما (الشروط الجعلية) التي يحق للأمة أن تشترطها في البيعة فهي كل ما يحقق مصلحة لها، وسنذكر أمثلة متعددة على الشروط الجعلية في الولاية إذا أتينا لاستعراض الدائرة المفوضة للأمة.
-الأصل في الإمامة والولاية الشورى والرضا:
وهذا الأصل دلت عليه نصوص شرعية كثيرة منها أن الله سمى سورة كاملة في القرآن باسم الشورى، وجاء فيها (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[الشورى، 38] فوضع الشورى بين الصلاة والزكاة تنويهاً بشرفها.
وأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)[آل عمران:159].
فإذا كان الله أمر النبي أن يشاور من دونه، فكيف بمن دون النبي؟ يقول ابن تيمية عن هذه الآية (فغيره - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمشورة)[الفتاوى:28/387].
وجاءت في ذلك أحاديث وآثار عن الصحابة سنشير لها لاحقاً.
-الأصل في الشورى أن تكون عامةً في المسلمين، لا خاصةً بطائفةٍ منهم:
ذكر بعض أهل العلم المعاصرين أن الشورى خاصة بطائفة كتخصيصها بأهل الحل والعقد (بمعناه التخصيصي)، أو أهل الشوكة، أو أهل الاختيار، ونحوها، والراجح أن الأصل في الشورى أن تكون عامة في المسلمين كما دلت عليه العمومات الشرعية ومنها: عموم قوله تعالى في آيتي الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ، (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، فعم ولم يخصص.
ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عام الحديبية (أشيروا علي أيها الناس)[البخاري:4178]. وقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في حادثة الإفك خطيباً في الناس وقال (أما بعد، أشيروا علي في أناس..)[البخاري:4757] وعن أنس (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاور الناس يوم بدر)[مسند أحمد: 13296] . فتلاحظ في هذه المواقف التي تروى فيها بعض مشاورات النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يميل إلى "تعميم الشورى" ولا يخصص، ويستخدم صيغة "أيها الناس" العامة، أو يخاطب المسلمين خطاباً عاماً.
وقام عمر بن الخطاب في المدينة خطيباً وقال (من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو، ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا)[البخاري:6830] فنص عمر على أن الشورى في "المسلمين" وهو لفظ عام غير خاص.
ولما فوض الصحابة عبدالرحمن بن عوف لكي يطوف في الناس لتنفيذ الشورى وإجراء الانتخاب وفرز الأصوات لتحديد الإمام من مجموع المرشحين، لم يجعل عبد الرحمن بن عوف الشورى خاصة بطائفة، بل شاور الناس، كما يروى البخاري القصة وفيها (فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، فلما ولّوا عبد الرحمن أمرهم، فمال الناس على عبد الرحمن، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط، ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي)[البخاري: 7207].
فهذا نص رواية البخاري وفيها أن عبدالرحمن مكث عدة ليالي، وأن "الناس" وليس طائفة معينة اجتمعوا على عبدالرحمن لتنفيذ الشورى، كما في النص السابق " ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي".
وفي البخاري -أيضاً- في نفس هذه الرواية أن عبد الرحمن بن عوف بعدما انتهى من فرز الأصوات دعا الصحابة وقام خطيباً بعد الفجر وأعلن أنه شاور الناس، وليس طائفة خاصة، كما يروي البخاري (فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن، ثم قال: "أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان")[البخاري: 7207] . فنص عبدالرحمن أنه فحص إرادة الناس عامة قدر إمكانه وطاقته، وليس إرادة طائفة خاصة.
وفي نهاية القصة -كما رواها البخاري- قام المسلمون وبايعوا عثمان، ولم تقتصر بيعته على طائفة خاصة، ولو كان ليس للمسلمين عامة مدخل في الشورى لكانت بيعتهم عبث ينزه الصحابة عنه، كما يروي البخاري: (فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد، والمسلمون) [البخاري: 7207].
ولما اتفق الحكمان ابو موسى الأشعري وعمرو بن العاص على خلع علي ومعاوية، اتفقوا أن يجعلوا الأمر شورى في المسلمين، كما تروي كتب التاريخ (أن نخلع هذين الرجلين علي ومعاوية، ونجعل هذا الأمر شورى بين المسلمين، فيختاروا لأنفسهم من أحبوا)[تاريخ الدينوري:200، وتاريخ الذهبي:3/549]
فتلاحظ في صيغتهم هذه التي ترددت في كتب التاريخ النص على جعل الولاية "شورى في المسلمين" فعموا ولم يخصوا طائفة بعينها.
وقال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل (أتدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول "هذا إمام" فهذا معناه)[منهاج السنة:1/529].
فلو لم يكن لعموم المسلمين مدخل في الشورى لم يعتبر الإمام أحمد رضاهم واختيارهم في معيار الإمامة الكاملة هاهنا، وهي إمامة الاستحقاق لا إمامة الانعقاد.
وقد علّق الإمام ابن تيمية على إمامة أبي بكر وعمر، كلاهما، تعليقاً وضح فيه أن إمامتهما لم تنعقد وتستقر باختيار طائفة معينة ولا بعقد، بل انعقدت واستقرت باختيار ورضا جمهور المسلمين، يقول ابن تيمية عن خلافة أبي بكر:
(ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوا أبابكر، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة)[منهاج السنة:1/530].
فاعتبر ابن تيمية أن انعقاد البيعة لأبي بكر لم يحصل بمجرد بيعة خاصة الصحابة، بل بمبايعة جمهور الصحابة.
وقال الإمام ابن تيمية أيضاً (وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر، إنما صار إماماً لما بايعوه وأطاعوه، ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماماً، سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز)[منهاج السنة:1/530].
فاعتبر ابن تيمية هاهنا -أيضاً- أن انعقاد البيعة لعمر لم يحصل بمجرد عهد أبي بكر له، بل بمبايعة جمهور الصحابة له.
فابن تيمية في الحادثتين لم يعتبر في الانعقاد إلا مبايعة جمهور الصحابة، لا بيعة الخاصة، ولا العهد من الإمام السابق.
هذه جملة من نصوص الشورى التي تأملتها وتمعنت فيها، وهي آيات الشورى، وأحاديث مشاورة النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وخطبة عمر في الشورى، وتصرف عبدالرحمن بن عوف في إجراء الشورى والانتخاب، واتفاق الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص، وعبارات أئمة أهل السنة كأحمد بن حنبل وابن تيمية، وغيرها من الشواهد، وظهر لي اتفاقها جميعاً على أن الأصل والأكمل في الشورى أن تكون عامة في المسلمين، وليست خاصة بطائفة معينة، وقد رأيت بعض المحققين كابن تيمية فرق في نص ثمين بين الانعقاد والاستحقاق، وجعل الاستحقاق مصدره الرضا والاختيار العام من المسلمين، وسيأتي كلامه لاحقاً، وطوال بحثي في مسائل السياسة الشرعية لم أجد نصاً واحداً من كتاب الله أو سنة رسوله أو آثار الصحابة يخص شورى التولية بطائفة معينة، ومن ادعى من أهل العلم المعاصرين تخصيص شورى التولية بطائفة معينة من حيث الأصل فعليه الدليل، مع إقرارنا أنه اجتهاد محترم له وزنه، وقال به علماء كبار في فقه السياسة الشرعية، والله أعلم.
-المعتبر في الشورى والانتخاب هو الأغلبية:
بعض الناس يتحسس من لفظ "الأغلبية" وهذا غير دقيق، بل المعتبر في السياسة الشرعية في انتخاب الإمام هو (الأغلبية) كما قال الجويني (الإجماع ليس شرطا في عقد الإمامة بالإجماع)[الغياثي:67].
وقال ابن تيمية رحمه الله (ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة، فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة)[منهاج السنة:8/335].
-متغيرات الاتصالات وأثرها في تعميم الشورى:
يتساءل كثير من قراء السياسة الشرعية لماذا لم يطبق الصحابة فكرة صناديق الاقتراع أو تعميم الشورى فرداً فرداً في مملكتهم الإسلامية؟ والحقيقة أن هذا التساؤل ينطوي على إهدار مضامين تاريخية جوهرية، فمن الاعتبارات الهامة التي يجب مراعاتها في البحث في مسائل السياسة الشرعية هو (تطور وسائل الاتصال المعاصرة)، فهذا معطى جوهري له دور بالغ في فهم تطور الديمقراطية ذاتها، وبالتالي فقياس فترات تاريخية تتفاوت في هذا المعطى هو بكل اختصار (قياس مع الفارق) كما يقول الأصوليون.
فقبل تطور وسائل الاتصال المعاصرة لم يكن بالإمكان أصلاً تطبيق الاختيار العام، أو الاقتراع العام، بهذا الشكل الذي نراه اليوم، وسأنقل شاهداً مهما لابن حزم يشرح فيه هذا الامتناع التاريخي، يقول ابن حزم:
(أما من قال أن "الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد" فباطل، لأنه تكليف ما لا يطاق، وما ليس في الوسع، وما هو أعظم الحرج، والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وقال تعالى "وما جعل عليكم في الدين من حرج"، ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرُّف إجماع فضلاء من في المولتان والمنصورة، إلى بلاد مهرة، إلى عدن، إلى أقاصي المصامدة، بل طنجة، إلى الأشبونة، إلى جزائر البحر، إلى سواحل الشام، إلى أرمينية وجبل القبج، إلى اسينجاب وفرغانة واسروسنه، إلى أقاصي خراسان، إلى الجوزجان، إلى كابل المولتان، فما بين ذلك من المدن والقرى، ولا بد من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد)[الفصل:5/13].
فتلاحظ في هذه المناقشة التي يستعرضها ابن حزم أنه يستند أصالةً إلى (عائق الاتصالات)، وأنه لا يمكن معرفة أصوات الناخبين بين هذه الأقطار المتباعدة إلا بوقت طويل تتعطل به مصالح الناس، ويفوت به غرض الإمامة.
ويشير الغزالي -أيضاً- إلى عقبة الاتصالات بصورة متخيلة طريفة، نقلها عن من يناقشهم وأقرها، يقول فيها:
(وباطل أن يُعتبر إجماع جميع أهل الحل والعقد في جميع أقطار الارض، لأن ذلك مما يمتنع، أو يتعذر تعذراً يُفتقَر فيه إلى انتظار مدة عساها تزيد على عمر الإمام فتبقى الأمور في مدة الانتظار مهملة)[فضائح الباطنية:175].
إذا كان ذلك كذلك فما الذي كان يجري في عصر الخلفاء الراشدين؟ الذي كان يجري هو التوسع في مفهوم (التمثيل) فبلدان المسلمين المتباعدة كانوا يسلمون الأمر للمدينة النبوية ومن فيها من الصحابة، فمن اختاروه رضيت به بقية البلدان، ولذلك لم يظهر معارضة منهم في خلافة الثلاثة.
-أهل الحل والعقد مفهوم تخصيصي أم تمثيلي؟:
في التراث السياسي الإسلامي نجد بعض أهل العلم يستعملون مصطلح (أهل الحل والعقد) ونجدهم يستعملونه على مستويين: مستوى يحصر أهل الحل والعقد في (علماء الشريعة) وبالتالي تكون شورى التولية خاصة بعلماء الشريعة، فهذا طرح تخصيصي لمفهوم أهل الحل والعقد.
ومستوى يعمم أهل الحل والعقد على الرموز المتبوعين في المجتمع، أي رموز القوى المجتمعية، وبالتالي يجعل أهل الحل والعقد أقرب إلى كونهم (هيئة تمثيلية) تنوب عن المجتمع وتعبر عن إرادته، فاستعمال مصطلح أهل الحل والعقد بهذا الاعتبار لا يعارض تعميم شورى التولية.
والذي رأيته في كلام كثير من المحققين من أهل العلم هو استعمال مفهوم أهل الحل والعقد بالمعنى التمثيلي لا بالمعنى التخصيصي، ويصبح معنى أهل الحل والعقد بهذا الاعتبار لا يعارض تعميم الشورى، وسنحاول استعراض شئ من المعطيات التي تقود لهذا الترجيح.
ومما ينبغي وضعه في الاعتبار أن التركيبة الاجتماعية في تاريخنا الإسلامي لم تكن تشابه بنية المجتمع اليوم، فقد كان الناس في التاريخ الإسلامي يتوزعون داخل دوائر مجتمعية أصغر لها من يمثلها، كرؤساء القبائل، ووجهاء البلدان، والعلماء، ونحوهم، وهذه الصيغة في تكوين المجتمع كان أهل الجزيرة العربية يعرفونها إلى وقت قريب قبل أن تتعقد الحياة المعاصرة وتتفكك الصيغ القديمة لصالح صيغ جديدة تدفعها متطلبات السلطة في الدولة الحديثة، ويساعدها على ذلك ثورة نظم الاتصالات الحديثة، وبالتالي فقد فكانت إرادة المجتمع المسلم في ذاك الوقت مكثفة في ممثليهم، فاختيار الممثلين يعبر عن رضا أكثرية الأمة.
ولذلك فإن الذي يظهر هو أن "أهل الحل والعقد" ليس تخصيصاً للشورى وافتئاتاً على حق بقية الأمة، بل هو أقرب لكونه مفهوم تمثيلي في ظل ظروف يستحيل فيها إجراء الاتصال الدقيق بالأفراد، فأهل الحل والعقد) كان هو أقرب نموذج سياسي يتيح إمكانية معرفة ما ترضاه الأغلبية.
ومن الإشكاليات التي تعترض مفهوم أهل والعقد كونه مفهوم حادث، ولم يرد في نصوص القرآن والسنة، ولا في آثار الصحابة والتابعين، وقد فتشت مدةً طويلة في كتب السنن والآثار والتفاسير المسندة عن وجود هذا المفهوم فلم أجده، وأول استعمال وجدته لهذا المفهوم في القرن الثالث ثم شاع بسرعة عجيبة، فليت من يجد استعمالاً لهذا المصطلح في النصوص أو آثار الصحابة يفيدني، وعدم وجود هذا المفهوم في القرآن والسنة وآثار الصحابة لا يدل على بطلانه طبعاً، وإنما عدم وجوده يعني أنه (يستدل له) لا أنه (يستدل به)، فقد يكون مفهوماً سبكه بعض أهل العلم لاستخلاص معاني نصوص معينة، لكني لم أجد هذا المفهوم بنصه، ولم أجد أدلةً عليه (بمعناه التخصيصي)، وإنما وجدت في النصوص نقيض هذا المفهوم (بمعناه التخصيصي) حيث وجدت نصوص وآثار الشورى تدل على تعميم الشورى في المسلمين.
ومما يتعلق بهذا المفهوم، إشكالية تفسيره، فإنني -كما سبق- رأيت عدداً من أهل العلم لا يحصر معنى أهل الحل والعقد في العلماء، بل يفسر أهل الحل والعقد بمعنى أقرب إلى (رموز القوى المجتمعية) أي من يعبرون عن إرادة الأغلبية، ومن ذلك يقول النووي:
(الأصح أن المعتبر بيعة "أهل الحل والعقد" من العلماء، والرؤساء، وسائر وجوه الناس، الذين يتيسر حضورهم)[روضة الطالبين:10/43] وقال النووي أيضاً: (أهل الحل والعقد: من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس، الذين يتيسر اجتماعهم)[المنهاج:292]
فلاحظ أولاً: كيف لم يجعل أهل الحل والعقد خاصاً بالعلماء. ولاحظ ثانياً: كيف جعل أهل الحل والعقد هم الناس الذين تدور عليهم القوى السياسية في المجتمع. ولاحظ ثالثاً: كيف ربط الأمر بـ"تيسر الحضور والاجتماع" مما يشير مجدداً إلى تأثير معطى الاتصالات في صيغة تنفيذ الشورى تاريخياً.
وقال الهيتمي في توضيح عبارة النووي (الذين يتيسر اجتماعهم: حالة البيعة، بأن لم يكن فيه كلفة عرفاً فيما يظهر، لأن الأمر ينتظم بهم، ويتبعهم سائر الناس)[تحفة المحتاج:9/76].
فإشارة الهيتمي إلى "الكلفة في الاجتماع" تزيد من دلالة تأثير عقبة الاتصالات في إجراء الشورى تاريخياً.
وفي تفسير مقارب لما سبق يؤكد بعض أهل العلم على أن (أهل الحل والعقد) هم (أهل الشوكة)، وهذا تفسير حاسم، لأنه يؤكد أن أهل الحل والعقد هم الذين تدور عليهم القوة السياسية في المجتمع، وليس خاصاً بالعلماء، كما يقول الهيتمي:
(أهل الشوكة الذين هم أهل الحل والعقد)[تحفة المحتاج:7/261]
ومن المعالجات التي أشارت إلى أن مفهوم (أهل الحل والعقد) هو مفهوم تمثيلي لا تخصيصي قول ابن تيمية (الإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم)[منهاج السنة:1/527].
فقول ابن تيمية "إلا ان تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم" هي النقطة الرئيسية التي تقدح في ذهن الباحث فكرة أن أهل الحل والعقد مفهوم تمثيلي، فابن تيمية ينص صراحةً هاهنا أن إرادة الخاصة لا تصح إلا إذا كانت تقتضي موافقة غيرهم من الأمة، وهذا عين المفهوم التمثيلي النيابي.
وقد لاحظت أن الإمام ابن تيمية لم يركز على مصطلح (أهل الحل والعقد)، بل كان يركز في الانعقاد على مفهوم (أهل الشوكة) وفي الاستحقاق على مفهوم (الأكثرية)، ولذلك لما استعرض أقوال أهل الكلام في انعقاد الإمامة، وأنها تنعقد بعدد يسير من أهل الحل والعقد، نقضها جميعاً، وقال أنها ليست من أقوال أهل السنة، وقال:
(وإن كان بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أئمة السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة السلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما)[منهاج السنة:1/526]
وعندما استعرض بيعة علي قال ابن تيمية (ولهذا لما بويع علي - رضي الله عنه- وصار معه شوكة صار إماماً)[منهاج السنة:1/527].
وهكذا أشار ابن تيمية لبيعة أبي بكر وعمر -كما تقدم- أنها انعقدت بمبايعة جمهور الصحابة، وأشار في بيعة عثمان إلى شورى العذارى في خدورهن، كما سبق نقله.
ومما يؤيد أن ابن تيمية ينحو هذا المعنى هو توسعه في مفهوم (أولي الأمر) حتى جعلهم كل رمز متبوع في المجتمع، يقول ابن تيمية:
(قوله "ما استقامت لكم أئمتكم" ويدخل فيهم، الملوك، والمشايخ، وأهل الديوان. وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر)[الفتاوى:28/170].
ويقول ابن تيمية أيضاً:
(وولاة الأمور من العلماء والمشايخ والملوك والأمراء لهم حقوق كل بحسبه فيما أمر الله به ورسوله)[مختصر المصرية:596].
ويقول ابن تيمية أيضاً:
(ومن سوى الرسول من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك إنما تجب طاعتهم إذا كانت طاعتهم طاعة لله)[الفتاوى:10/266].
ويقول ابن تيمية أيضاً:
(فمن كان من المطاعين: من العلماء، والمشايخ، والأمراء، والملوك، متبعاً للرسل، أمر بما أمروا به، ودعا إلى ما دعوا إليه؛ فإن الله يحب ذلك)[الفتاوى:14/328].
ولا أعرف موضعاً واحداً قال فيه ابن تيمية أن شورى التولية خاصة بأهل الحل والعقد، بمعناه التخصيصي لا التمثيلي، الذين هم العلماء فقط، ومن كان يعرف شيئاً من ذلك فسأشكر له إفادته، وإنما الذي وجدته عند ابن تيمية أنه إذا تكلم عن الانعقاد ربطها بالشوكة، وإذا تكلم عن الاستحقاق والأولوية ربطها بالجمهور. هذا الذي أعلمه عنه رحمه الله، والله أعلم.
وهناك من أهل العلم من يوسِّع مفهوم أهل الحل والعقد جداً، حتى يكاد يجعلهم كل المسلمين المؤهلين للمشاركة في الانتخاب، ومن هؤلاء الدسوقي المالكي في حاشيته حيث يقول:
(وأما بيعة "أهل الحل والعقد" وهم: من اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمام، والعدالة، والرأي)[حاشية الدسوقي:4/298].
وقريب من هذا قول بعض الحنابلة الذين وسعوا أهل الحل والعقد خارج العلماء لكنهم اشترطوا في من له حق التصويت شروط :الشهود" كالعدالة ونحوها، كما يقول البهوتي:
(بيعة أهل الحل والعقد، من العلماء ووجوه الناس، الذين بصفة الشهود، من العدالة وغيرها، ولا نظر لمن عدا هؤلاء، لأنهم كالهوام)[كشاف القناع:6/159].
ومن المعاصرين من أكد على كون أهل الحل والعقد مفهوم تمثيلي، وليس تخصيصاً للعلماء، كما يقول ابن عثيمين (أهل الحل والعقد: يعني وجهاء البلاد، وشرفاء البلاد، وأعيان البلاد)[14/396].
ومما يؤكد أن هذا المفهوم (أهل الحل والعقد) مفهوم تمثيلي لا تخصيصي، أننا لو قلنا أن أهل الحل والعقد هم العلماء والوجهاء ورموز القوى المجتمعية، فالسؤال الذي سيلي هذا التقرير هو: ومن الذي سيحدد أهل الحل والعقد؟ والجواب المعقول هاهنا أن يقال: أهل الحل والعقد يختارهم المجتمع المسلم. بما يعني أنهم صاروا (هيئة تمثيلية) فهم أشبه بنواب، وإذا وصلنا إلى هذه النقطة فهذا يعني أن الشورى عامة، سواءً كانت مباشرة لأفراد الأمة، أم عبر ممثلي الأمة.
-الانتخاب حق أم واجب؟
تختلف النظم السياسية المعاصرة في هذه المسألة، فبعض النظم تعتبر الانتخاب مجرد "حق" للمواطن إن شاء استعمله وإن شاء تركه (أغلب الدول المعاصرة)، وبعض النظم تعتبر الانتخاب "واجب"، فإذا لم يحضر المؤهل للانتخاب في مراكز الاقتراع فإنه يصبح معرضاً للمساءلة القانونية التي يترتب عليها إجراء تأديبي: إما غرامة مالية أو المطالبة بأداء خدمة اجتماعية معينة، وإذا لم تدفع الغرامة أو تنفذ الخدمة فقد تصل العقوبة للسجن. وممن يأخذ بنظام التصويت الإجباري (25) دولة معاصرة منها: استراليا وسنغافورة والبرازيل والأرجنتين وغيرها. وثمة جدل واسع بين مؤيدي الاقتراع الاجباري ومؤيدي الاقتراع الاختياري، وكل يدلي بحجج ومبررات.
حسناً .. ما موقف السياسة الشرعية من ذلك؟ الذي يظهر لي راجحاً أن الشورى في الشريعة حق لا واجب، واستعمال هذا الحق بأحد طريقين: إما بالإدلاء بالاختيار، أو بإقرار النتائج، أما أن يكون واجباً فهذا بعيد، فلا يجوز إلزام الناس على المشاركة بالتعزيرات، ومن رأى جواز الإلزام باعتبار المصلحة المرسلة ففيه نظر. والله أعلم.
-التمييز بين ولاية المرأة، ومشاركة المرأة في الشورى والاختيار:
القول الراجح هو مشروعية مشاركة المرأة في الشورى والاختيار والبيعة، وعدم مشروعية أن تلي المرأة ولاية عامة على الرجال، ويدل على ذلك عدة شواهد، منها:
أن الذي وجدناه في مقام (الولاية والإمامة) أن الشارع قيده بالذكورة كما في حديث (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)[البخاري:4425] . ووقع إجماع المسلمين على هذا المعنى حتى قال ابن حزم (وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة)[الفصل:4/179].
لكن مقام (الشورى والاختيار والبيعة) فإن عموماته محفوظة، فكلها جاءت النصوص فيها عامة بلفظ "المسلمين والناس"، ولم نجد الشارع خصص الشورى والاختيار والبيعة بالذكورة، فلذلك فإننا لا نقوى على القول بالتخصيص، ومن ادعى من أهل العلم أن المرأة ليس لها مدخل في الشورى والاختيار والبيعة فعليه الدليل، مع احترامنا وتوقيرنا لاجتهاده، وأنه قول معتبر، والخلاف فيها اجتهادي.
كما يؤيد القول بمشروعية مشاركة المرأة في (الشورى والانتخاب والبيعة) أن الله تعالى أدخل النساء في البيعة فقال سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ)[الممتحنة:12] وما يسميه أهل السير (بيعة النساء) إنما هي بيعة شاملة، فيدخل فيها مبايعة النبي على الإيمان والطاعة في التشريع والسياسة وغيرها، وليست بيعة خاصة ببعض أركان الدين، ومن ادعى أنها بيعة خاصة بالطاعة التشريعية، ولا تدخل الطاعة السياسية فيها فعليه الدليل، لأن السياسة من الدين، والدين كلٌ لا يتجزأ.
ولذلك فقد عقد الإمام البخاري عدة أبواب للبيعة السياسية، ساقها كالتالي (باب كيف يبايع الإمام الناس، باب من بايع مرتين، باب بيعة الأعراب، باب بيعة الصغير، باب من بايع ثم استقال البيعة، باب بيعة النساء) وساق في بيعة النساء ثلاثة أحاديث، فلو لم يكن البخاري يرى أن للنساء مدخل في البيعة لما عقد هذا الباب، وجعله مع أبواب البيعة السياسية.
ومما يستأنس به في تأييد ذلك ما جاء في بعض الآثار، حيث يقول ابن تيمية (فإنه لم يختلف أحد في خلافة عثمان، ولكن بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام، وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان، وأنه شاور حتى العذارى في خدورهن)[منهاج السنة:6/350].
ويقول ابن كثير في تاريخه (ثم نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، ومجتمعين، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، في مدة ثلاثة أيام بلياليها،)[البداية والنهاية:7/164].
فأهل العلم ينقلون خبر إدخال عبدالرحمن بن عوف للنساء في الشورى، ولم ينكروا المتن، مما دل على استقامة معناه عندهم، ولو كان إدخال النساء في الشورى ممنوع شرعاً لا ستنكروا هذا الأثر من أصله، ولم يوردوه في بيان شدة تعميم عبدالرحمن بن عوف للشورى، فبغض النظر عن سند الأثر فإن إقرار أهل العلم لمعناه قرينة لا يمكن تجاهلها.
ومما يؤيد إدخال المرأة في (الشورى والاختيار والبيعة) قبول النبي لمشورة أم سلمة في شأن عام، لا مجرد شأن خاص في بيته، وذلك في صلح الحديبية، حيث جاء البخاري:
(فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه "قوموا فانحروا ثم احلقوا" ، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا)[البخاري:2731].
وقد يقول بعضهم أن تصرفات الشارع دلّت على أن النساء لا مدخل لهن في الشؤون العامة، فهذا هو الذي يخصص عمومات الشورى، والجواب: أن هذا غير دقيق، فقد أدخل النبي المرأة في شؤون عامة، ومنها أن أم هانئ أجارت رجلاً من المشركين، فأراد علي بن أبي طالب (شقيق أم هانئ) أن يقتله، فدخلت أم هانئ على رسول الله، كما في البخاري عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت:
(ذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح، فقال "من هذه؟"، فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال "مرحبا بأم هانئ" فقلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ")[البخاري:3171].
وقد بوب البخاري على هذا الحديث بقوله (باب أمان النساء وجوارهن)
فهذا شأن عسكري عام، ومع ذلك قبل رسول الله تدخل أم هانئ فيه، وإجارتها رجلاً من الأعداء.
ولكن يبقى مناط هام في المسألة، وهو أن التغريبيين يستغلون مثل هذه الأحكام الشرعية لا لتحقيق مصالح المجتمع المسلم، وإنما لتغريب المرأة المسلمة، وتطبيع اختلاطها بالرجال، وتصدير النساء في مجامع الرجال، وكسر حجاب الحشمة وحاجز الفضيلة، فينبغي تقرير هذه المسائل بحنكة الفقيه الذي يراعي الواقع، ويراعي تنزيل النصوص على الصورة الصحيحة، ولا يكون الفقيه مغفلاً وأداةً بيد التغريبيين.
كما يلاحظ القارئ كيف أن استغفال التغريبيين لبعض المتفقهة، واستدراجهم لبعض الفتاوى لاستغلالها في تغريب الفتاة المسلمة؛ هو الذي تسبب في تحسس الناس، وارتيابهم في كثيرٍ من القرارات التي تقف خلفها جهات معينة عرفت بذلك، فانظر كيف أن المكر التغريبي هو الذي أضاع على المسلمين مصالحهم ووتّر الأجواء.
-التمييز بين (الانعقاد) و (الاستحقاق):
يخلط كثير من الناس في كلام أهل العلم الذي يذكرونه في موضوع التغلب، فيظن أهل العلم يشرعون التغلب ابتداءً، وأنه هو الصورة المشروعة.
كما يخلط آخرون في موضوع (شورى أهل الحل والعقد) أو (أهل الشوكة) فيظن أهل العلم يحصرون الشورى في طائفة معينة من الأمة.
وهذان التصوران الخاطئان من أحسن ما يوضحهما هو قاعدة (التمييز بين الانعقاد والاستحقاق)، أي انعقاد الولاية، واستحقاق الولاية.
فالانعقاد أقل من الاستحقاق، والاستحقاق يشمل الانعقاد وزيادة، والاستحقاق هو الصورة الأكمل في السياسة الشرعية، وهو الصورة الشرعية للولاية.
والاستحقاق اعتبروا فيه شورى (جميع أو أغلب) المسلمين، ولم يجعلوا الشورى فيه خاصة بطائفة معينة من الأمة، كما لم يجعلوا التغلب من مصادر الاستحقاق.
وسأنقل نصاً ثميناً لابن تيمية يوضح هذه المسألة، يقول ابن تيمية:
(الإجماع على الإمامة: إن أريد به الإجماع الذي "ينعقد" به الإمامة، فهذا يعتبر فيه موافقة أهل الشوكة بحيث يكون متمكنا بهم من تنفيذ مقاصد الإمامة، حتى إذا كان رءوس الشوكة عدداً قليلاً، ومن سواهم موافق لهم؛ حصلت الإمامة بمبايعتهم له، هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة وهو مذهب الأئمة كأحمد وغيره..، وإن أريد به الإجماع على "الاستحقاق والأولوية" فهذا يعتبر فيه إما الجميع وإما الجمهور)[منهاج السنة:8/356]
يا لله العجب، ما أبدع هذا التحليل الفقهي، وكم تثيرني إمكانيات ابن تيمية في فرز الصور ونحت المفاهيم التي تستوعب خلاصة توازنات النصوص الشرعية، فبالله عليك لاحظ في هذا النص الذهبي كيف فرق بين (الانعقاد) وبين (الاستحقاق والأولوية)، وجعل الاستحقاق يعتبر فيه شورى الجميع أو الأغلبية، ولم يجعل الشوكة استحقاقاً.
فإذا حصل أن اختار جميع المسلمين أو أكثريتهم (مرشحاً) صار هو المستحق، وانعقدت له الولاية، فجمع (الانعقاد والاستحقاق) سوياً، أما إذا اختار أهل الشوكة (متغلباً) ولكن جمهور المسلمين لا يرضونه، لكن لا شوكة لهم، انعقدت الولاية للمت