مـاذا بـعـد رمـضـان؟
خالد علي أبا الخيل
مـاذا بـعـد رمـضـان؟
التاريخ: الجمعة: 1 شوال 1439هـ
الحمد لله، الحمد لله على الدوام حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، على مر العصور والأعوام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام لا سيما أهل الفضل والإحسان: كأبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي وسائر أصحاب ولد عدنان، وأمهات أهل الإيمان، رضي الله عنهم ورزقنا حبهم، وحشرنا في زمرتهم.
عباد الله: اتقوا الله حق تقواه.
عباد الله: يجب على العبد أن يستمر على الطاعة، ويثبت على الاستقامة، ويواصل العبادة، ويستقيم على دينه، فلا يعبد الله في شهرٍ دون شهر، ولا في يومٍ دون يوم، ولا زمانٍ دون زمان، ولا مكانٍ دون مكان مترسمًا قول الحق سبحانه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99).
وممتثلًا قول الحق تبارك وتعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (هود:112) ولاحظ قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (هود:112) ولم يقل: كما اشتهيت أو متى أردت أو متى فرغت أو جُعِل له الخيار، بل كما أُمرت بأمر الواحد القهار.
وقال سبحانه: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) (فصلت: 6)، وفي مسلم عن أبي عبد الله سفيان بن عبدالله قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك؟ قال: (قُلْ: آمَنْت بِاَللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ).
فعليه -عباد الله- وإن انتهت أعمالٌ في رمضان، وقرباتٌ في شهر القرآن، وأيامٌ بالطاعة معمورة وليالٍ بالعبادات مغمورة، فإن الأعمال لا تنتهي، والعبادات لا تنقضـي فلئن انتهى قراءة القرآن وسماعه، فالقرآن مطلوبٌ قراءته وتدبره وسماعه، وعدم إقلاله وهجره، ولئن انقضـى شهر الوتر والدعاء، فالدعاء ليس له وقتٌ وانتهاء، ولئن انتهى شهر الصيام فهناك أنواعٌ من نوافل الصيام كالست من شوال.
ولئن انقضـى شهر القيام فالقيام مستمرٌ طوال العام (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات: 17].
ولئن ذهبت الصدقة؛ فالصدقة أبوابها مُشـرعة، ونوافذها متعددة وهكذا في سلسلة الأعمال، فاجتهد -بارك الله فيك- أخي المسلم في الطاعات، وبادر الساعات، واحذر الكسل والتفريط والإهمال والفتور والعجز ونقص الأعمال.
وإياك الرجوع إلى القهقرى، والانتكاس على الورى، نعوذ بالله من الحَور بعد الكَور، ومن السلب بعد العطاء، فإن أبَيت أخي المسلم، وقصـرت وضعفت وكسلت، فاحذر التهاون والكسل في المفروضات، والقيام بالواجبات وارتكاب المحرمات والمنهيات.
أيها المسلمون: لقد ودعتم شهرًا كريمًا، وموسمًا عظيمًا، فكم لله من جهودٍ بُذلت! وأجسادٍ عملت! وقلوبٍ خشعت! وأكفّ رُفِعت! ودموعٍ زرفت! وعبراتٍ سُكِبت!
لقد مر علينا وهو شاهدٌ لنا أو علينا، فنسأل أنفسنا ونتساءل ماذا أودعناه؟ هل كان همنا بعد انتهائه الفرح بإكماله وإتمامه، فحمدنا الله وشكرناه؟ هل وجلت قلوبنا، وذرفت عيوننا، وحزنت نفوسنا؟ هل كان إشفاقنا على قبول صيامه وقيامه كما كان سلفنا الصالح حيث كانوا يهتمون لقبول أعمالهم؛ لأن المعول على القبول.
سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60) أهم الذين يزنون ويسـرقون ويشـربون الخمر؟ قال: (قَالَ: لَا يَا ابنة الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
ولا غرو -عباد الله- حينما نسمع حينئذٍ عن السلف أنهم يدعون الله ستة أشهر أن يقبل منهم صيامهم، غريبٌ جدًّا غريب، أولئك الذين سرعان ما انتكسوا وفجأةً انتكسوا، فعادوا إلى السيئات، وهجروا الطاعات، وضيعوا الصلوات، واتبعوا الشهوات.
غريبٌ وعجيب أولئك الذين لا يعملون الطاعات، ويتركون السيئات إلا في مواسم معينة، وأوقاتٍ محدودة، ولما سُئل بعض السلف عن أناسٍ لا يتعبدون إلا في رمضان، فإذا انسلخ الشهر تركوا قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
الله أكبر وسبحان الله.
إخوتي في الله: أين آثار الصيام؟ أين دروسه وتهذيبه؟ أين الرغبة في المتاجرة؟ المؤمن يعبد الله في السراء والضراء، في السـر والعلانية لا ينتهي حتى ينتهي أجله، وقد قال سبحانه لنبيه (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99] ولما قرأ الحسن البصري –رحمه الله- هذه الآية قال: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كلمته الجميلة: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
فنداءٌ للإشفاق والحنان إلى تلك النفوس الضعيفة التي ودعت صالح الأعمال؛ لوداعها شهر رمضان، إلى أولئك الذين عزموا على العودة بعد الصَّفوة، وإلى المعاصي بعد ذبول المعاصي، أن يتقوا الله ويراقبوه، ويرجوه ويخافوه، فالعمر قصير والزمان يسير والآجال محدودة والأنفاس معدودة.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
إخوة الإسلام: إن للمداومة على الأعمال الصالحة فوائد مثمرة، ونتائج مُحققة، فمنها على سبيل المثال أنها أحب إلى الكبير المتعال، فــــأحب العمل إلى الله أدومه، وكذا محبوبٌ إلى الرسول المصطفى، فقد سأل مسـروقٌ عائشة: أي العمل أحب إلى رسول الله؟ قالت: أدومه. متفقٌ على صحته.
ومنها اتصال القلب بالخالق، وتعليق القلب بالله سبحانه، ومنها تعهد النفس عن الغفلة والنسيان، وسببٌ للسلامة من الوقوع في المآزق وحصول المضايق، اعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
وكذا منها أنها سببٌ لمحو السيئات والخطايا ورفع الدرجات.
ومنها وهو ختام مسكها أنها سببٌ لحسن الختام، رزقني الله وإياكم حسن الختام والوفاة على الإسلام.
فقد أجرى الكريم عادته أن من عاش على شيء مات عليه، وفي صحيح السُّنَّة (أن مَنْ مَاتَ على شيءٍ بُعِثَ عليهِ).
ثم اعلموا يا عباد الله، واسمعوا يرعاكم الله أن من داوم على عملٍ صالحٍ، ثم انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نومٍ كُتب له أجر ذلك العمل، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا (إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا).
قال ابن حجر: هذا في حق من كان يعمل طاعة، فمُنِع منها، وكانت نيته لولا المانع أن يدوم عليها.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ) رواه النسائي.
وأخيرًا فإنه لا يحسن بمن داوم على عملٍ صالح أن يتركه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ) متفقٌ عليه.
والله أعلم