مغاضبة بين زوجين

عبدالله حمود الحبيشي
1445/07/06 - 2024/01/18 18:48PM
مغاضبة بين زوجين

7 رجب 1445هـ
 
الخطبة الأولى
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ .. عباد الله .. عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال جَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا في البَيْتِ، فَقالَ: أيْنَ ابنُ عَمِّكِ؟ قالَتْ: كانَ بَيْنِي وبيْنَهُ شيءٌ، فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِندِي فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أيْنَ هُوَ؟ فَجَاءَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، هو في المَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُضْطَجِعٌ، قدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن شِقِّهِ، وأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَمْسَحُهُ عنْه، ويقولُ: قُمْ أبَا تُرَابٍ، قُمْ أبَا تُرَابٍ.
 
موقف يسير في مبناه، عظيم في دروسه ومعانيه.. يحتاجه الزوجان في حياتهم، ويحتاجه أولياء الزوجان وأقارِبَهم.. إنها مشكلة بين فاطمة بنتِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحبيبته، فاطمة سَيِّدَةُ نِسَاءِ هذِه الأُمَّةِ، وبين عليٍ المبشر بالجنة، والخليفة الراشد، وقع خلاف بينهم ومشكلة، وأي بيت لا يكون فيه مشاكل أو خلافات، فوجود بعض الخلافات في البيوت أمر طبعي.
 
يقول ابن بطال رحمه الله : أهل الفضل قد يقع بينهم وبين أزواجهم ما جَبَلَ الله عليه البشر من الغضب وليس ذلك بعيب. أ.ه هذا هو الموقف والخلاف الزوجي، وهذا هو المشهد والقصة تمت في وقت قصير، لكنها قاعدةٌ عظيمة، وعلاجٌ لكثيرٍ من المشكلات.

وإليكم شيئا من دروس هذه القصة وفوائدها:

فمن دروسها: تواصل النبي صلى الله عليه وسلم مع ابنته في بيت الزوجية وتعاهدها بالزيارة، فلم يقف عند حقِّه كأب ينبغي أن يكون هو المقصود بالزيارة، وإنما كان يبادر بزيارتها في بيتها، يتحسس أخبارَها، ويطمئنُ على حياتِها، ويتفقدُ أحوالهَا.
 
من دروس القصة : الأدب العالي والذوق الرفيع لدى فاطمة رضي الله عنها حينما عبّرت عما جرى بينها وبين زوجها بتعبيرٍ لطيفٍ مجمل " كانَ بَيْنِي وبيْنَهُ شيءٌ، فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ " ولم تسترسل بذكر التفاصيل ولم تعرِّج على تحديد المسؤولية في الخطأ، وإنما جعلته أمرا مشتركا " كانَ بَيْنِي وبيْنَهُ شيءٌ".
 
فالزوجة عندما تجعل لسانها نافذةً مفتوحةً، وسُلَّما على بيتها في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ فإنها تفقد خصوصيتها وتوسّع دائرة مشاكلها، ولا تتحكم في التداعيات التي تنتج من دخولِ أطرافٍ عديدةٍ في مشكلة صغيرة.
 
في هذه المغاضبة والخلاف لزمت فاطمة رضي الله عنها بيتها، ولم تخرج إلى بيت أبيها رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم تبادر بإخباره والتشكي، وأمسكت لسانها عن الحديث والاستشارات والبحث عن الحلول عند الآخرين.. فساعات الغضب تزول، والخلاف يهدأ، والنفوس تصفو. خاصة إذا كان الخلاف عابرا، والغضب على أمر يسير.
قالت فاطمة رضي الله عنها حين سألها أبوها فلم تبدأه بالخبر "كان بيني وبينَه شيءٌ"، فلم تُتْعِب قلب أبيها بالتشكي، ولم تذكر تفاصيل الخلاف، ولم تحدد من المخطئ ومن البادئ، ولم تستغل الحدث لتأليبه على زوجها.. لم تستغل الفرصة لفتح ملفات حاضرة وسابقة، بل جعلت الخطأ مشتركا بينهما "كان بيني وبينَه شيء".
 
ومما علمتنا هذه القصة: تجاوب النبي صلى الله عليه وسلم مع الإجمال بترك الاستفصال!؛ فلم يسأل فاطمة: ما الذي جرى بينكما؟ ولم يُحْوِجها إلى سردِ تفاصيلِها، وما عاتب ولا حاسب ولا حقق ولا ناقش.. فالتعامل مع المشاكل الزوجية العابرة دون الدخول فيها يجعلها صغيرة عابرة! وكثيرٌ من المشاكل الأسرية العابرة حلها أن توأد في مهدها، بالإعراض عن تفاصيلها.. والتعجيل في حلها؛ دون تأخير أو تسويف لأن طول الزمن فيها يباعد بين القلوب، ويُورِث الحقد، ويتيح الفرص لأهل الحسد.
 
ومن فوائد القصة ودروسها: صنيع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع صهره، فلم يأخذه حبه لابنته وحنانه عليها وعطفه في أن يقسو على زوج ابنته، وأن يعاتبه ويَظلمه، بل سأل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، وحين عرف مكانه ذهب إليه بنفسه، بكل شفقة وتواضع وحنان، أتاه وهو مُضْطَجِعٌ، قدْ سَقَطَ رِداؤُهُ عن شِقِّهِ، وأَصابَهُ تُرابٌ، أتاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستصلحا شأنه مسترضيا له، فَجَعَلَ يَمْسَحُهُ عنْه، ويقولُ: قُمْ أبا تُرابٍ، قُمْ أبا تُرابٍ.
وفي هذه الكنية مِن التَّلطُّفِ به ومؤانَسَتِه في غضَبِه، وتَسليته دون عتاب، ولا نقاش وما ذَكَرَ شيءً مما حصل مع ابنته، وكأنه لم يعلم عنه شيء.
 
فما أعظم تلك اليد الحانية من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزوج ابنته وممن أغضبها، فكم أذهبت تلك المسحة من الهموم، وكم أسكنت من غضب، وكم أزالت من خلاف وآنسته.. وكأن شيئًا لم يحدث، وأُغلق ستار المشكلة، وانتهت حلقاتها؛ فالبنت لم تخبر أحدًا، والأب لم يسأل ولم يعنّف، والزوج قام راضيًا.
 
فما أحوج الآباء والأمهات للطف مع أزواج بناتهم وزوجات أبنائهم، وما أعظم تناسي الخلاف وعدم الدخول في تفاصيله وحيثياته.. فالولي الناصح العاقل يتصرف بحكمته وعقله، لا يكابر ولا تغلبه أنفته، ولا تهزمه عاطفته، يحفظ الحقوق ويقيمها.. فالتلطف للأصهار، ولين الجانب معهم، منهج نبوي لإصلاح البيوت ورأب انصداعها.
 
يقول ابن حجر في فتح الباري: وَفِيهِ كَرَمُ خُلُقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ عَلِيٍّ لِيَتَرَضَّاهُ وَمَسَحَ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ لِيُبْسِطَهُ وَدَاعَبَهُ بِالْكُنْيَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ حَالَتِهِ وَلَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى مُغَاضَبَتِهِ لِابْنَتِهِ مَعَ رَفِيعِ مَنْزِلَتِهَا عِنْدَهُ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الرِّفْقِ بِالْأَصْهَارِ وَتَرْكُ مُعَاتَبَتِهِمْ إِبْقَاءً لِمَوَدَّتِهِمْ..
 
نسأل الله أن يجعل بيوتنا عامرة بالمودة والسعادة، ويؤلف بين قلوب الأزواج، ويحفظهم من نزغات ووساوس شياطين الجن والإنس..
 

الخطبة الثانية
 
الحمد لله ..
 
أما بعد.. عباد الله.. ومن فوائد هذه القصة ودروسها: الحكمة في تصرّف عليٍ رضي الله عنه في التعامل مع بعض الخلافات الزوجية والتي يكون الغضب حاضرا فيها، فإن خروجَه من البيت، وقيلولته في المسجد، قاطعٌ لتواصلِ الكلام، وبعْدٌ عن الخصام، وفرصةٌ لتهدأ المشاعر، ويسكن الغضب، وتعود النفوس إلى طبيعتها من المودة والرحمة.
 
فالحكمة والخير عدم البقاء في مكان الخلاف، واللجوء إلى مكان يصفو فيه الذهن، وترتاح النفس، ويَذكرُ الله تعالى فيه، فالغضب والخلاف من الشيطان، وذكر الله يطفئ الغضب.
 
فسكوت الزوج وانسحابه من مواطن إثارة الغضب: حكمة لا هروب، وقوة لا ضعف فيها.. وَيُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْغُرْفَةِ إِلَى غُرْفَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ اسْتِمْرَارَ الْمُلَاسَنَةِ وَالْمُحَاجَجَةِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الطَّلَاقِ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ طَلَبِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ.
 
يقول ابن حجر رحمه الله: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ خُرُوجِ عَلِيٍّ خَشْيَةَ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَنَابِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَحَسَمَ مَادَّةَ الْكَلَامِ بِذَلِكَ إِلَى أَنْ تَسْكُنَ فَوْرَةُ الْغَضَبِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا.
 
نسأل الله أن يصلح أحوالنا ويدلنا على الخير والصلاح في ديننا ودنيانا
المرفقات

1705592919_مغاضبة بين زوجين.docx

1705592919_مغاضبة بين زوجين.pdf

المشاهدات 860 | التعليقات 1

خطبة مفيدة مختصرة الله يكتب اجرك ياشيخ