معية الله تعالى في رمضان

عبدالرحمن سليمان المصري
1446/09/13 - 2025/03/13 21:06PM

معية الله تعالى في رمضان

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا ، عالم السر والنجوى ، والمطلع على الضمائر وكل ما يخفى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد :

أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾

عباد الله : الإيمان بالله عز وجل ؛ أعظم ما فرضه الله تعالى على خلقه ، والقلوب لا تسعد ولا تطمئن إلا بالعلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته , وهو أشرف العلوم لتعلقه بأشرف معلوم  ؛ وهو الله جل جلاله ، وله سبحانه صفة المعية لجميع خلقه ، مؤمنهم وكافرهم ، برهم وفاجرهم .

قال تعالى : ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ الحديد: 4. وقال:﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾النساء:1، فهو سبحانه مع خلقه بعلمه ومشيئته ، وسمعه وبصره ، وسلطانه وتدبيره ، فلا يغيب عنه شيء، ولا يعجزه شيء ، وهذه هي المعية العامة .

مع الإيمان بأن الله فوق سماواته ، مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، فهو العلِيُّ الأعْلَى‌‌ الْمُتَعَالِ ، له العلو المطلق من جميع الوجوه: علو الذات ، وعلو القدر والصفات ، وعلو القهر والغلبة ، وعلو الحجة ، ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾الرعد:9.

عباد الله : من استشعر معية الله عز وجل، وأنه سبحانه مطلع عليه في كل وقت وحين ، يرى مكانه وأفعاله ويسمع كلامه ، فذلك دليل على صدق الإيمان ، وباب إلى رضا الرحمن ، وطريق للخوف من الله الدَّيَّان ، ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ الرحمن :46.

وهو من أجلِّ خصال التوكل على الله ، وبه يتحقق معاني الحياء من الله ، " وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ " ، وهو طريق الإخلاص في العبادات ؛ ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ .

عباد الله : وأما المعية الخاصة فهي إما مقيدة بشخص وهو أعلاها ، فهي معيته سبحانه لأنبيائه عليهم السلام ، والصالحين من عباده ، بالنصر والتأييد، والهداية والتوفيق، والحفظ والرعاية، والتسديد والإعانة .

 ولقد أدرَكت معية الله إبراهيم الخليل عليه السلام ، حين ألقي في النار ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾الأنبياء: 68..

 

وأدركت معيةُ الله هاجر أم إسماعيل عليهما السلام  ، لمـّا وضعها إبراهيم عليه السلام بواد غير ذي زرع ، عند البيت الحرام ، فقالت له: أين تتركنا بهذا الوادي ، الذي ليس فيه إنس ولا شيء ، ثم قالت : آلله أمرك  بهذا ، قال : نعم ، قالت : إذن لا يُضيُّعنا ، فكانت العاقبة الحميدة لها بعد ذلك.

عباد الله : ومن معية الله لأنبيائه ما كان لنبي الله موسى،  لما أرسله الله وأخاه هارون عليهما السلام ، إلى فرعون ، فخافا أن يبطش بهما  ، فقال الله  : ﴿ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى  ﴾ طه : 43-46.

ولما خرج موسى عليه السلام وقومُهُ هربا من فرعون ، فصار البحر أمامهم وفرعون وجنودُهُ من خلفهم ، ﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ ، فقال  موسى عليه السلام بلسان الواثق بربه ، ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ الشعراء : 61.

عباد الله : وفي حادثة الهجرة ، وقف المشركون على طرف الغار ، فقال أبو بكر رضي الله عنه ، يا رسول الله : لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فقال صلى الله عليه وسلم:" مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ ، اللَّهُ ثَالِثُهُمَا " ، وأنزل الله قوله : ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ التوبة:40.

عباد الله :  وفي حادثة الإفك ، لمّـا علمت أُمُّنا عائشة رضي الله عنها بما يقال ، قالت:" بِتُ لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وقد بكيت حتى أظن أن البكاء فالق كبدي" وتجلت معية الله لها ودفاعُهُ عنها، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، ثم أنزل الله براءتها ، بآيات تتلى إلى قيام الساعة ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ النور11.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.         

 
 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا .        أما بعد :

عباد الله : إن استشعار معية الله عز وجل يحيي القلوب الموات ، ويوقظ الضمائر من السبات ، ويحرك في الإنسان دواعي الخير، ويميت فيه نوازع الشر.

ومن معية الله الخاصة المقيدة بوصف ، وهي لكل من يحمل هذا الوصف من الناس؛ من الإحسان والتقوى ، ‏ ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾النحل‏:‏ 128 ، وكذا من اتصف بالإيمان ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ الأنفال: 19، ومن اتصف بالصبر ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ البقرة: 153، ومن استقام على شرع الله تعالى : ﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾المائدة:12، ومعيته سبحانه لمن أكثر من ذكره عز وجل ،"أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي ، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ "

فكل من اتصف بالإيمان والتقوى ، والصبر والإحسان ،  وكثرة ذكر الله والاستقامة على شرعه سبحانه ، فإن الله معهم ينصرهم ويحفظهم ، ويؤيدهم ويوفقهم .

ومعية الله سبحانه وتعالى أعظم معية ، فمن كان يحتمي ويلوذ بالعظماء من أهل الدنيا ، فالمؤمن يحتمي ويلوذ بالله جل جلاله ، الذي خضع كلّ شيء لأمره ، ودان كلّ شيء لحكمه ، والكلّ تحت سلطانه وقهره هو الملك لا شريك له ، والفرد لا ندَّ له ، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾القصص: 88 . شملت قدرته كلّ شيء ، ووصلت نعمته إلى كلّ حيّ ، كلّ شيء هالك إلا وجهه ، وكلّ ملك زائل إلا ملكه ، وكلّ فضل منقطع إلا فضله.

عباد الله : وقد اجتمعت أسباب هذه المعية  في شهر رمضان ، بالمحافظة على الواجبات ، ومجانبة المنكرات ، والإكثار من النوافل والقربات ، " وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" رواه البخاري.

عباد الله : وليعتبر المؤمن بسرعة مرور الليالي والأيام ، فها قد مضى نصف الشهر ، فمن كان قد أحسن؛ فليحمد الله وليستمر على إحسانه ، ومن كان أساء أو قصّر ؛ فعليه بالتوبة والاستغفار ، واستغلال ما بقي من الشهر بالصالحات ،  قال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ العنكبوت : 69.

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا ، اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا ، واعتق رقابنا من النار نحن ووالدينا وأهلينا وجميع المسلمين .

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾

اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

.

المرفقات

1741889158_معية الله تعالى في رمضان خطبة.docx

1741889159_معية الله تعالى في رمضان خطبة.pdf

المشاهدات 547 | التعليقات 0