معالم في الفتن
عبدالله اليابس
1434/01/22 - 2012/12/06 16:26PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وبعد, في ظل الفتن التي أصابت وتصيب جسد أمة الإسلام, كانت الحاجة ملحة لتبصير الناس بمعالم وتوجيهات في أزمان الفتن, فكانت هذه الخطبة, وقد استفدت كثيرًا من كتاب للشيخ الدكتور/ محمد بن إبراهيم الحمد بعنوان (معالم في التعامل مع الفتن), والله تعالى أعلم.
معالم في التعامل مع الفتن ---- الجمعة 23/1/1434هـ
الحمد لله المطلع على خفيات الأسرار, العالم بمكنونات الضمائر, مقلب القلوب, وغفار الذنوب, وستار العيوب, ومفرج الكروب, والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وجامع شمل الدين, وقاطع دابر الملحدين, وعلى آله الطيبين الطاهرين, وأزواجه أمهات المؤمنين, وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: قلب النظر في ما حولك من البلدان, ارجع البصر يمنة ويسرة, وشمالاً وجنوبًا, أمم تتخطفها الفتن, ويعبث بها الخوف والجوع, وأخرى تعمها الفوضى, وتتعطل بها الحياة, وثالثة جثم عليها شبح الفقر, ورابعة وخامسة, ثم انظر في حالنا واشكر الله على نعمه, (أولم يروا أنا جعلنا حرمًا آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون).
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. إننا ولاشك لسنا بمأمن أن يصيبنا ما أصاب الأمم من حولنا, وهذه الفتن سواء كانت داخلية أو خارجية لها تعامل خاص ليس كحال السعة والأمن, ففي أزمان الفتن يصبح الحليم حيرانًا, وتنقلب المفاهيم, وأضع بين يديكم توجيهات ونصائح للتعامل مع الفتن, فأقول وبالله التوفيق:
إن أول ما ينبغي للمسلم أن يلجأ إليه قبل وقوع الفتن وبعده هو الاعتصام بالكتاب والسنة, (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض) رواه الحاكم وصححه الألباني.
التمسك بالوحيين عصمة من الزلل، وأمان بإذن الله من الضلال, وليس الاعتصام بهما كلمة تتمضمض بها الأفواه من غير أن يكون لها رصيد في الواقع, وإنما هي عمل، واتباع في جميع ما يأتيه الإنسان ويذره, ويعظم هذا الأمر حال الفتن؛ إذ يجب الرجوع فيها إلى هداية الوحيين؛ لكي نجد المخرج والسلامة منها.
ومما ينبغي للإنسان في التعامل مع الفتن: التوبة النصوح؛ فهي واجبة في كل وقت، وهي في هذه الأوقات أوجب b]فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا[/b الأنعام: 43, فعلى الأمة أن تتوب، وأن تدرك أن ما أصابها إنما هو جارٍ على مقتضى سنن الله التي لا تحابي أحداً كائناً من كان؛ فتتوب من المنكرات التي أشاعتها من شرك، وحكم بغير ما أنزل الله، وتقصير في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتتوب من المظالم، والربا، والفسق، والمجون، والإسراف، والترف وما إلى ذلك مما هو مؤذن باللعنة، وحلول العقوبة.
وعلى كل فرد منا أن ينظر في حاله مع ربه، وفي جميع شؤونه؛ لأن b]مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[/b الشورى: 30.
ومن معالم التعامل مع الفتن: النظر في التاريخ, فإن التاريخ كما يقال يعيد نفسه, وفي التاريخ عبرة, فلو نظرنا في كتب التاريخ التي تحدثت مثلاً عن غزو التتار لبلاد المسلمين، وكيف كانت شراسة تلك الهجمة، وكيف خالط النفوس من الرعب والأوجال ما خالطها، وكيف بلغ ببعضها اليأس من أن تقوم للإسلام قائمة بعد ذلك, وما هي إلا أن كشف الله الغمة، وأعاد العز والمجد للأمة.
الحياة كلها تجارب، واستفادة من التجارب، وميزة إنسان على إنسان، وأمة على أمة هي القدرةُ على الاستفادة من التجارب وعدمُها؛ ولا يحسن بنا أن نُغْفِل تعامل أسلافنا مع ما مر بهم من البلايا، وكيف تجاوزوا تلك المحن والفتن، بل علينا أن نقتبس من هداهم، ونستَلْهِم العبر من صنيعهم.
ومن معالم التعامل مع الفتن: الثقة بالله، واليقينُ بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: فإن من أهم ما يجب على المؤمن أن يقوي ثقته بربه، فهناك من إذا شاهد ما عليه المسلمون من الضعف والتمزق والتشتت والتفرق، ورأى تسلط أعدائهم عليهم، ونكايتهم بهم أيس من نصر الله، وقنط من عز الإسلام، واستبعد أن تقوم للمسلمين قائمة، وهذا الأمر مما يعتري النفوس الضعيفة، التي قل إيمانها، وضعف يقينها.
وتأمل في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .. ففي البداية كانوا أمة مستضعفة, يمر الحبيب صلى الله عليه وسلم في مكة بعمار بن ياسر وأبيه وأمه وهم يعذبون فلا يملك أكثر من أن يقول: "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة", ويصلي عند الكعبة فيأتي عقبة بن أبي معيط ويلقي سلا الجزور على جسده الطاهر, وما هي إلا سنوات قليلة وتدخل مكة في دين الله وتحت حكم محمد صلى الله عليه وسلم, ويسقط عرش فارس والروم بأيدي المسلمين, فالثقة بالله وحده سلاح عظيم, والله على كل شيء قدير.
ومما ينبغي حال الفتن: الوقوف مع الشعوب الإسلامية المظلومة: فنقف معها بالدعاء، والتثبيت، والتصبير، وبذل الغالي والنفيس حتى يرفع الله ما أصابهم, فالمسلمون جسد واحد, لا تفرق بيننا حدود جغرافية, ولا لغات وأعراق, بل يجمعنا دين واحد, وكتاب واحد, وقبلة واحدة, وفي الحديث: "مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم ، مَثلُ الجسدِ ؛ إذا اشتكَى منه عضوٌ ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى" رواه مسلم.
ومما ينبغي أيضًا لزوم الاعتدال في جميع الأحوال: فينبغي ألا يفارقنا هدوؤنا وسكينتنا ومروآتنا؛ فذلك دأب المؤمن الحق، الذي لا تبطره النعمة، ولا تقنطه المصيبة، ولا يفقد صوابه عند النوازل، ولا يتعدى حدود الشرع في أي شأن من الشؤون.
ويتأكد هذا الأدب في حق من كان رأساً مطاعاً في العلم، أو القدر؛قال عبدالعزيز بن زرارة الكلابي رحمه الله وهو من خيار المجاهدين من التابعين:
قد عشت في الدهر أطواراً على طرق-- شتى فصادفت منها اللِّيْن والبَشِعا
كُلاً بلوتُ فلا النَّعماءُ تبطرني -- ولا تَخَشَّعْتُ من لأوائها جزعا
لا يملأُ الهولُ قلبي قبل وقعته -- ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا
فإذا لزم المرء هذه الطريقة؛ فلم يَخِفَّ عند السراء، ولم يتضعضع حال الضراء _ فأحرِ به أن يعلو قدره، ويتناهى سؤدده، وأن تنال الأمة من خيره.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، وبهدي الرسولالكريم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه إنه هوالغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإنه من معالم التعامل مع الفتن أيضًا: الحرص على جمع الكلمة ورأب الصدع: فالأمة مثخنة بالجراح، وليست بحاجة إلى مزيد من ذلك, بل هي بحاجة إلى إشاعة روح الاجتماع والمودة والرحمة، ونيل رضا الله بترك التفرق ونبذ الخلاف.
وذلك يتحقق بسلامة الصدر، ومحبة الخير للمسلمين، والصفح عنهم؛ التجاوز عن زلاتهم والتماس المعاذير لهم، وإحسان الظن بهم، ومراعاة حقوقهم، ومناصحتهم بالتي هي أرفق وأحسن, [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] آل عمران: 103.
ومن معالم التعامل مع الفتن: التثبت مما يقال، والنظر في جدوى نشره، والحرص على رد الأمور إلى أهلها, خصوصًا في زمن سرعة انتشار المعلومة في ظل التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي: فالعاقل اللبيب لا يتكلم في شيء إلا إذا تثبَّت من صحته؛ فإذا ثبت لديه ذلك نَظَرَ في جدوى نشره؛ فإن كان في نشره حفز للخير، واجتماعٌ عليه نشره ، وإن كان خلاف ذلك أعرض عنه، وطواه.
ولقد جاء النهي الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع, قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"
وقال عبدالرحمن بن مهدي: (لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع).
قال الله _تعالى_:/font][font=traditional arabic]وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً[/font][font=traditional arabic النساء:83.
وذو التثبت من حمد إلى ظَفَرٍ -- من يركبِ الرفقَ لا يستحقبِ الزللا
ومن أهم ما يلجأ له المؤمن حال الفتن: الدعاء: فالدعاء من أعظم أسباب النصر والسلامة من الفتن، كيف وقد قال ربنا عز وجل: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ] غافر: 60.
فثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله إذا أتى الداعي بشرائط الإجابة؛ فحري بنا أن نكثر الدعاء لأنفسنا بالثبات، وأن ندعو لإخواننا بالنصر، وأن ندعو على أعدائنا بالخيبة والهزيمة.
وإذا اشتبه على الإنسان شيء مما اختلف فيه الناس فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة _رضي الله عنها_ أن رسول الله " كان يقول إذا قام يصلي من الليل: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهتدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
ومما ينبغي حال الفتن: البعد عن الفتن قدر المستطاع: لأن القرب منها مدعاة للوقوع فيها.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن " رواه أبو داوود وصححه الألباني
قال ابن الجوزي رحمه الله: (ما رأيت فتنة أعظم من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)
قال ابن حزم رحمه الله:
لا تُتْبِع النفس الهوى -- ودع التعرض للمحن
إبليس حيٌّ لم يمت -- والعين باب للفتن
فاللهم إنا نسألك أن تقينا من الفتن, وأن تحفظ علينا أمننا وإيماننا, إنك على كل شيء قدير.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك, وهيء لهم البطانة الصالحة الناصحة, واصرف عنهم بطانة السوء والفساد والإفساد يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
الحمد لله رب العالمين وبعد, في ظل الفتن التي أصابت وتصيب جسد أمة الإسلام, كانت الحاجة ملحة لتبصير الناس بمعالم وتوجيهات في أزمان الفتن, فكانت هذه الخطبة, وقد استفدت كثيرًا من كتاب للشيخ الدكتور/ محمد بن إبراهيم الحمد بعنوان (معالم في التعامل مع الفتن), والله تعالى أعلم.
معالم في التعامل مع الفتن ---- الجمعة 23/1/1434هـ
الحمد لله المطلع على خفيات الأسرار, العالم بمكنونات الضمائر, مقلب القلوب, وغفار الذنوب, وستار العيوب, ومفرج الكروب, والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وجامع شمل الدين, وقاطع دابر الملحدين, وعلى آله الطيبين الطاهرين, وأزواجه أمهات المؤمنين, وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: قلب النظر في ما حولك من البلدان, ارجع البصر يمنة ويسرة, وشمالاً وجنوبًا, أمم تتخطفها الفتن, ويعبث بها الخوف والجوع, وأخرى تعمها الفوضى, وتتعطل بها الحياة, وثالثة جثم عليها شبح الفقر, ورابعة وخامسة, ثم انظر في حالنا واشكر الله على نعمه, (أولم يروا أنا جعلنا حرمًا آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون).
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. إننا ولاشك لسنا بمأمن أن يصيبنا ما أصاب الأمم من حولنا, وهذه الفتن سواء كانت داخلية أو خارجية لها تعامل خاص ليس كحال السعة والأمن, ففي أزمان الفتن يصبح الحليم حيرانًا, وتنقلب المفاهيم, وأضع بين يديكم توجيهات ونصائح للتعامل مع الفتن, فأقول وبالله التوفيق:
إن أول ما ينبغي للمسلم أن يلجأ إليه قبل وقوع الفتن وبعده هو الاعتصام بالكتاب والسنة, (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض) رواه الحاكم وصححه الألباني.
التمسك بالوحيين عصمة من الزلل، وأمان بإذن الله من الضلال, وليس الاعتصام بهما كلمة تتمضمض بها الأفواه من غير أن يكون لها رصيد في الواقع, وإنما هي عمل، واتباع في جميع ما يأتيه الإنسان ويذره, ويعظم هذا الأمر حال الفتن؛ إذ يجب الرجوع فيها إلى هداية الوحيين؛ لكي نجد المخرج والسلامة منها.
ومما ينبغي للإنسان في التعامل مع الفتن: التوبة النصوح؛ فهي واجبة في كل وقت، وهي في هذه الأوقات أوجب b]فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا[/b الأنعام: 43, فعلى الأمة أن تتوب، وأن تدرك أن ما أصابها إنما هو جارٍ على مقتضى سنن الله التي لا تحابي أحداً كائناً من كان؛ فتتوب من المنكرات التي أشاعتها من شرك، وحكم بغير ما أنزل الله، وتقصير في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتتوب من المظالم، والربا، والفسق، والمجون، والإسراف، والترف وما إلى ذلك مما هو مؤذن باللعنة، وحلول العقوبة.
وعلى كل فرد منا أن ينظر في حاله مع ربه، وفي جميع شؤونه؛ لأن b]مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[/b الشورى: 30.
ومن معالم التعامل مع الفتن: النظر في التاريخ, فإن التاريخ كما يقال يعيد نفسه, وفي التاريخ عبرة, فلو نظرنا في كتب التاريخ التي تحدثت مثلاً عن غزو التتار لبلاد المسلمين، وكيف كانت شراسة تلك الهجمة، وكيف خالط النفوس من الرعب والأوجال ما خالطها، وكيف بلغ ببعضها اليأس من أن تقوم للإسلام قائمة بعد ذلك, وما هي إلا أن كشف الله الغمة، وأعاد العز والمجد للأمة.
الحياة كلها تجارب، واستفادة من التجارب، وميزة إنسان على إنسان، وأمة على أمة هي القدرةُ على الاستفادة من التجارب وعدمُها؛ ولا يحسن بنا أن نُغْفِل تعامل أسلافنا مع ما مر بهم من البلايا، وكيف تجاوزوا تلك المحن والفتن، بل علينا أن نقتبس من هداهم، ونستَلْهِم العبر من صنيعهم.
ومن معالم التعامل مع الفتن: الثقة بالله، واليقينُ بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: فإن من أهم ما يجب على المؤمن أن يقوي ثقته بربه، فهناك من إذا شاهد ما عليه المسلمون من الضعف والتمزق والتشتت والتفرق، ورأى تسلط أعدائهم عليهم، ونكايتهم بهم أيس من نصر الله، وقنط من عز الإسلام، واستبعد أن تقوم للمسلمين قائمة، وهذا الأمر مما يعتري النفوس الضعيفة، التي قل إيمانها، وضعف يقينها.
وتأمل في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .. ففي البداية كانوا أمة مستضعفة, يمر الحبيب صلى الله عليه وسلم في مكة بعمار بن ياسر وأبيه وأمه وهم يعذبون فلا يملك أكثر من أن يقول: "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة", ويصلي عند الكعبة فيأتي عقبة بن أبي معيط ويلقي سلا الجزور على جسده الطاهر, وما هي إلا سنوات قليلة وتدخل مكة في دين الله وتحت حكم محمد صلى الله عليه وسلم, ويسقط عرش فارس والروم بأيدي المسلمين, فالثقة بالله وحده سلاح عظيم, والله على كل شيء قدير.
ومما ينبغي حال الفتن: الوقوف مع الشعوب الإسلامية المظلومة: فنقف معها بالدعاء، والتثبيت، والتصبير، وبذل الغالي والنفيس حتى يرفع الله ما أصابهم, فالمسلمون جسد واحد, لا تفرق بيننا حدود جغرافية, ولا لغات وأعراق, بل يجمعنا دين واحد, وكتاب واحد, وقبلة واحدة, وفي الحديث: "مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم ، مَثلُ الجسدِ ؛ إذا اشتكَى منه عضوٌ ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى" رواه مسلم.
ومما ينبغي أيضًا لزوم الاعتدال في جميع الأحوال: فينبغي ألا يفارقنا هدوؤنا وسكينتنا ومروآتنا؛ فذلك دأب المؤمن الحق، الذي لا تبطره النعمة، ولا تقنطه المصيبة، ولا يفقد صوابه عند النوازل، ولا يتعدى حدود الشرع في أي شأن من الشؤون.
ويتأكد هذا الأدب في حق من كان رأساً مطاعاً في العلم، أو القدر؛قال عبدالعزيز بن زرارة الكلابي رحمه الله وهو من خيار المجاهدين من التابعين:
قد عشت في الدهر أطواراً على طرق-- شتى فصادفت منها اللِّيْن والبَشِعا
كُلاً بلوتُ فلا النَّعماءُ تبطرني -- ولا تَخَشَّعْتُ من لأوائها جزعا
لا يملأُ الهولُ قلبي قبل وقعته -- ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا
فإذا لزم المرء هذه الطريقة؛ فلم يَخِفَّ عند السراء، ولم يتضعضع حال الضراء _ فأحرِ به أن يعلو قدره، ويتناهى سؤدده، وأن تنال الأمة من خيره.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، وبهدي الرسولالكريم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه إنه هوالغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإنه من معالم التعامل مع الفتن أيضًا: الحرص على جمع الكلمة ورأب الصدع: فالأمة مثخنة بالجراح، وليست بحاجة إلى مزيد من ذلك, بل هي بحاجة إلى إشاعة روح الاجتماع والمودة والرحمة، ونيل رضا الله بترك التفرق ونبذ الخلاف.
وذلك يتحقق بسلامة الصدر، ومحبة الخير للمسلمين، والصفح عنهم؛ التجاوز عن زلاتهم والتماس المعاذير لهم، وإحسان الظن بهم، ومراعاة حقوقهم، ومناصحتهم بالتي هي أرفق وأحسن, [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] آل عمران: 103.
ومن معالم التعامل مع الفتن: التثبت مما يقال، والنظر في جدوى نشره، والحرص على رد الأمور إلى أهلها, خصوصًا في زمن سرعة انتشار المعلومة في ظل التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي: فالعاقل اللبيب لا يتكلم في شيء إلا إذا تثبَّت من صحته؛ فإذا ثبت لديه ذلك نَظَرَ في جدوى نشره؛ فإن كان في نشره حفز للخير، واجتماعٌ عليه نشره ، وإن كان خلاف ذلك أعرض عنه، وطواه.
ولقد جاء النهي الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع, قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"
وقال عبدالرحمن بن مهدي: (لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع).
قال الله _تعالى_:/font][font=traditional arabic]وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً[/font][font=traditional arabic النساء:83.
وذو التثبت من حمد إلى ظَفَرٍ -- من يركبِ الرفقَ لا يستحقبِ الزللا
ومن أهم ما يلجأ له المؤمن حال الفتن: الدعاء: فالدعاء من أعظم أسباب النصر والسلامة من الفتن، كيف وقد قال ربنا عز وجل: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ] غافر: 60.
فثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله إذا أتى الداعي بشرائط الإجابة؛ فحري بنا أن نكثر الدعاء لأنفسنا بالثبات، وأن ندعو لإخواننا بالنصر، وأن ندعو على أعدائنا بالخيبة والهزيمة.
وإذا اشتبه على الإنسان شيء مما اختلف فيه الناس فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة _رضي الله عنها_ أن رسول الله " كان يقول إذا قام يصلي من الليل: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهتدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
ومما ينبغي حال الفتن: البعد عن الفتن قدر المستطاع: لأن القرب منها مدعاة للوقوع فيها.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن " رواه أبو داوود وصححه الألباني
قال ابن الجوزي رحمه الله: (ما رأيت فتنة أعظم من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)
قال ابن حزم رحمه الله:
لا تُتْبِع النفس الهوى -- ودع التعرض للمحن
إبليس حيٌّ لم يمت -- والعين باب للفتن
فاللهم إنا نسألك أن تقينا من الفتن, وأن تحفظ علينا أمننا وإيماننا, إنك على كل شيء قدير.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك, وهيء لهم البطانة الصالحة الناصحة, واصرف عنهم بطانة السوء والفساد والإفساد يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
معالم في الفتن 23-1-1434.doc
معالم في الفتن 23-1-1434.doc
المشاهدات 5207 | التعليقات 4
نعم جزاك الله خيرا شيخ عبدالله ونفع بها الاسلام والمسلمين
لاشك اننا احوج مانكون الى هذه النقاط
اشكر لك اختصارك للخطبه
لاشك اننا احوج مانكون الى هذه النقاط
اشكر لك اختصارك للخطبه
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
للرفع .. للمناسبة
عبدالله اليابس
للرفع .. لمناسبة الخطبة للأحداث التي تدور حولنا
تعديل التعليق